بدأ في كولومبيا -أول أمس- المؤتمر الأممي "كوب 16" وحضره أكثر من 15 ألف مشارك بمن فيهم 10 رؤساء دول وأكثر من 100 وزير من مختلف أنحاء العالم، وذلك للحديث عن الكيفية التي يمكن بها الحفاظ على التنوع البيولوجي على كوكب الأرض.
ويتخذ المؤتمر من "إطار كونمينغ-مونتريال للتنوع البيولوجي" خريطة طريق، وهي خطة بارزة لوقف وعكس فقدان التنوع البيولوجي بحلول عام 2030، وتم اعتمادها بالمؤتمر الـ15 الذي أقيم بكندا في ديسمبر/كانون الأول 2022.
وكان "كوب 15" بمثابة معاهدة سلام تاريخية مع الطبيعة تهدف إلى حماية الأراضي والمحيطات والأنواع الحيوانية من التدهور عاما بعد عام، مع وتخصيص 30 مليار دولار من المساعدات السنوية للبلدان النامية في جهودها لحماية التنوع البيولوجي.
وتصف اتفاقية الأمم المتحدة للتنوع البيولوجي هذا الاصطلاح بأنه "التنوع داخل الأنواع، وبين الأنواع والنظم البيئية، بما في ذلك النباتات والحيوانات والبكتيريا والفطريات" حيث تعمل هذه العناصر الثلاثة معًا لتهيئة الحياة على الأرض بكل تعقيداتها.
وربما تسأل: لماذا نهتم كبشر بكل تلك الكائنات الحية؟ ألا يجدر بنا أن نلتفت إلى قضايا أهم مثل المرض أو الفقر أو انعدام العدل؟ والواقع أن كل تلك القضايا حقا مهمة، لكن الحياة على سطح الأرض مهمة أيضا، أكثر مما قد تظن.
دعنا هنا نضرب مثالا واقعيا للتقريب، فبحسب دراستين صدرتا من جامعة أوتاوا الأميركية قبل عدة سنوات، فإن النحل في العموم، وتحديدًا الطنان، يواجه حاليا مخاطر الانقراض بسبب التغيرات المناخية. وخلال 3 عقود فقط، انخفضت أعداد هذا النوع من النحل بمقدار 30%.
وقد تعتقد أن للنحل دورا وحيدا وهو إخراج العسل اللذيذ، لكن ذلك خاطئ. فمن بين 100 محصول يأكلها 90% من سكان العالم، هناك 70 منها يتم تلقيحها عبر النحل، يعني ذلك أن النحل يتنقل بين زهور تلك المحاصيل ويحمل في أقدامه حبوب اللقاح لينقلها من زهرة لأخرى فيتم تلقيحها وتنمو لتصنع الثمار، ومن دون النحل لن يتم تلقيح تلك النباتات. وبالتبعية، لن تخرج الثمار وستنقرض هي الأخرى، وبالتالي ستختفي مأكولات نعرفها مثل الجزر والتفاح والليمون.
ومع بعض التأمل يمكن لك أن تخمن أن عددا كبيرا من الكائنات الحية يؤثر بشكل مباشر في حياتنا كبشر، خذ مثلا الشعاب المرجانية ومستنقعات المنغروف التي توفر حماية لا تقدر بثمن من الأعاصير وأمواج تسونامي لأولئك الذين يعيشون على السواحل. وبدون العناكب، سيكون من المستحيل زراعة المحاصيل لأن الحشرات ستلتهمها كلها.
أما السلاحف الاستوائية والسعادين العنكبوتية، ورغم أنها ليس ذات علاقة مباشرة في الحفاظ على مناخ مستقر للكوكب، لكن الأشجار الكثيفة ذات الخشب الصلب في الغابات، وهي الأكثر فعالية في إزالة ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي، تعتمد على هذه الكائنات لنشر بذورها حينما تقطفها من الشجر لأكلها ثم الإلقاء ببقية الثمرة على الأرض.
ومع مد الخطوط على استقامتها، وبعض التفكير، ستجد أن كل كائن على هذا الكوكب يؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على كل كائن آخر، فتكون حشرة صغيرة ملقى بها على الجبال في كينيا، أو غراب بسيط في الأمازون يمكن أن تراه في وثائقيات عالم الحيوان له علاقة مباشرة بحياتك في مصر أو ليبيا أو عمان أو قطر أو الكويت، إلخ.
وتخيل الحياة على كوكب الأرض كشبكة ضخمة مشدودة بقوة ودقة، يوجد كل كائن فيها عند نقطة تقاطع بين خيوطها، وحينما ينقرض كائن ما فإن ذلك يُحدث فجوة في المكان الذي وُجد فيه، وهو ما يضعف الشبكة، لأنه كلما كانت عدد نقاط الشبكة أقل ازدادت هشاشتها وكانت فرصة فقدان نقاط جديدة أكبر من الفرص السابقة.
الأمر كذلك بالنسبة للتنوع البيولوجي، فكلما ازدادت درجات التنوع كانت الحياة على الأرض أكثر صلابة في مواجهة التغير، وكلما قلت أصبحنا في مهب الريح.
لا شك أنك استمعت يوما ما أو قرأت عن المها العربية، عيونها السوداء الواسعة الكبيرة كانت على مر تاريخ بلاد العرب مثلا شائعا يُضرب في جمال عيون الفتيات، ويكتب فيها أبيات شعر تتناقلها الناس من جيل إلى جيل.
وفي الواقع فإن تاريخ المها العربية سابقٌ للشعر نفسه، لقد وجدت رسوم المها في الكهوف جنوبي فلسطين قبل آلاف السنين، وانتشرت في كل الجزيرة العربية وصولا إلى الشام ومصر، وقام البشر الساكنون في تلك المناطق باصطيادها على مر تاريخنا كله.
لكن، ألم تسأل نفسك عن هذا الكائن؟ أين ذهب؟ ولِمَ لا يتكلم عنه الناس كثيرا؟ بحلول السبعينيات من القرن الفائت قُتل آخر فرد من هذه الكائنات اللطيفة في البرية، في تلك الفترة صُنّفت المها العربية على أنها كائن منقرض، لكن لأهميتها التاريخية عملت عدة هيئات عربية وعالمية على جمع المتبقي منها في المزارع الخاصة والحدائق وإتاحة أفضل الظروف لها من أجل التزاوج.
وعادت المها العربية من جديد للحياة، لكن هذا الكائن الذي عاشت منه عشرات إلى مئات الآلاف يوما ما حولنا، أصبحت أعداده في البرية الآن حول رقم يقترب من ألف إلى ألفين فقط، مع عدة آلاف أخرى في أماكن مغلقة حول العالم.
غير أن المها العربية ليس الوحيد الذي عانى من أهوال الانقراض. وفي دراسة نشرت قبل عدة سنوات بدورية "بي إن إيه إس" ظهر أن النشاط البشري على كوكب الأرض قلّص 85% من الكتلة الحيوية للثدييات، و50% من الكتلة الحيوية للنباتات، وهذه نسب من الضخامة بحيث لا نراها إلا في حالات محددة يعرفها العلماء باسم "الانقراض".
وتشير دراسة سابقة في نفس الدورية إلى انقراض 200 نوع من الفقاريات في 100 عام السابقة فقط، وأنه من بين أكثر من 27 ألف نوع من البرمائيات والثدييات والزواحف، انخفضت أعداد نصف هذه الكائنات في أماكن انتشارها بصورة لافتة للنظر.
فمثلا، مع متابعة دقيقة لأكثر من 177 نوعا من الثدييات وجدت الدراسة انخفاضا ملحوظا في 40% منها، أما بالنسبة إلى الأسود الأفريقية فقد انخفضت أعدادها بنسبة 40% فقط في السنوات العشرين الفائتة، بينما أصبح عدد أسود غرب أفريقيا فقط 400 أسد.
وما يثير الرعب أن معدلات انقراض تلك الأنواع ارتفعت بقيمة 100 مرة عن الطبيعي خلال القرن الفائت، ويعني ذلك أنه ربما قد انقرضت أنواع من الكائنات الحية لم نعرف بعد بوجودها.
وتلك الشبكة البيئية الضخمة المتماسكة عبر ملايين السنين كانت دائما سلاحنا الأول في مواجهة التغيرات المناخية، لكن مع هذا الانخفاض ا ....