آخر الأخبار

خطاب الكراهية.. غليان البحيرات العظمى

شارك

منذ وصولي إلى منطقة البحيرات، وتحديدا أوغندا في البداية ثم الاستقرار في رواندا، كنت أتابع في الأخبار وخطابات السياسيين وتغريداتهم، تكرار الحديث عن خطاب الكراهية. يومها اعتقدت أن الأمر مرتبط بالذكرى الثلاثين للإبادة الجماعية بحق التوتسي، حيث وصلت إلى كيغالي قبيل الذكرى.

مع مرور الوقت، ومع متابعة الأزمة في شرق الكونغو الديمقراطية والأخبار والصور الواردة من هناك عبر شبكات التواصل الاجتماعي من قتل وتمثيل بالجثث ورجم، ثم تصاعد القتال بين الأطراف في تلك المنطقة الملتهبة وما صاحبه من تبادل اتهامات على مستوى الدول، أيقنت أن الأمر يتجاوز مرحلة الأزمة السياسية، بل هو تراكم من التعقيدات التي خلفها الاستعمار في المنطقة، والتي لن تكفي عشرات الأبحاث لتناولها بشكل وافٍ.

لكن تكرار اسم التوتسي، ذلك الاسم الذي يرافق المهتمين بملف البحيرات منذ نهاية القرن التاسع عشر مرورا بحروب المنطقة والمجازر، وصولا إلى حديث الناطق باسم الجيش الكونغولي عبر شاشة أحد التلفزيونات قبل أيام، والذي تحدث فيه عن الزواج بنساء التوتسي وما قد ينتج عنه، يدفع إلى التساؤل: ما خلفيات ذلك الخطاب؟

مصدر الصورة خطاب الكراهية في منطقة البحيرات كان سببا في مجازر شهدتها رواندا (مواقع التواصل الاجتماعي)

تصريح مسيء

تلا حديث الناطق باسم الجيش إعلان رئاسة الأركان العامة للقوات المسلحة لجمهورية الكونغو الديمقراطية "تعليق عمل" المتحدث باسم الجيش الجنرال سيلفان إكينجي على خلفية تصريحات أدلى بها على التلفزيون الوطني تضمنت "إساءة إلى مجتمع التوتسي".

وقالت رئاسة الأركان في بيان إن "التصريحات لا تعكس بأي حال من الأحوال الموقف الرسمي لجمهورية الكونغو الديمقراطية ولا موقف القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس الجمهورية أو موقف الحكومة". ودعا البيان "كافة أبناء الشعب إلى الوحدة والتماسك ونبذ خطاب الكراهية من أجل دعم القوات المسلحة في أداء مهامها النبيلة".

إعلان

وكان الجنرال سيلفان إكينجي قد قال في مقابلة متلفزة، إن "الزواج بسيدات من التوتسي سيؤدي إلى إنجاب أطفال يولدون بملامح التوتسي كونه العرق الأسمى كما يعتقدون"، وأضاف أن "أسلوب أوبوينغي: وتعني الذكاء، هو فكر يتم غرسه حتى في النساء". واتهم الجنرال رواندا "بغرس الكذب والخداع في نفوس الصغار، وعندما يكبرون يتم تصوير ذلك على أنه ذكاء"، مضيفا أن "السلطات الرواندية عازمة على زعزعة استقرار جمهورية الكونغو ومؤسساتها".

ردود الفعل

أثارت تصريحات إكينجي ردود فعل إقليمية ودولية غاضبة. وزير خارجية بلجيكا، صاحبة الإرث الأكثر عمقا في المنطقة، ماكسيم بريفو، أعرب عن "صدمته الشديدة إزاء التصريحات التي أدلى بها المتحدث باسم الجيش الكونغولي والتي استهدفت مجتمع التوتسي"، وأضاف في تغريدة على موقع إكس: "هذا سلوك مشين للغاية صدر عن ممثل رسمي". وأكد إدانته "هذه التصريحات بأشد العبارات"، مضيفا أن "خطاب الكراهية يجب أن ينبذ ويرفض في جميع الظروف، ولا يمكن بناء الوئام الوطني إلا على روح التسامح والشمول بين جميع المجتمعات".

بدوره، وجه وزير خارجية رواندا أوليفييه ندوهونجيريهي انتقادات لاذعة للحكومة الكونغولية: "إن نظام كينشاسا يغرق بسرعة مذهلة في رعب يحمل طابع الإبادة الجماعية"، وأضاف أن "نظام كينشاسا لم يعد يكتفي بالتعاون مع مرتكبي الإبادة الجماعية ضد التوتسي من القوات الديمقراطية لتحرير رواندا أو قصف واضطهاد التوتسي الكونغوليين، بل صار يرعى رسميا خطاب الكراهية".

واتهم ندوهونجيريهي الناطق باسم الجيش الكونغولي بتبني "الوصايا العشر للهوتو، التي استخدمت وسيلة لتنفيذ الإبادة ضد التوتسي في رواندا، عبر شاشة التلفزيون الوطني"، مضيفا أن كلام إكينجي يأتي في سياق "تبني خطاب ومصطلحات منظري أيديولوجيا الإبادة الجماعية". واعتبر أن إكينجي "يردد الطروحات الاستعمارية التي أرست أسس الانقسام الإثني".

جذور الانقسام

للتعرف على جذور المشكلة، تحدثنا إلى بعض الباحثين. ويطرح الأكاديمي الكونغولي ألكس مفوكا قراءة في دور الاستعمار في تكريس الانقسام: "إن السياسة الاستعمارية أرست انقساما حادا بين السكان وصنفتهم سكانا أصليين أو دخلاء. وقد وقع التوتسي الكونغوليون ضحية لهذه السياسة الإقصائية حيث بات يُنظر إليهم في الوعي المجتمعي كغزاة أو غرباء لاختلافهم في بعض السمات الشكلية".

ويقدم الباحث في الشأن السياسي البوروندي إينوسينت موهوزي مقاربة مماثلة، محملا سلطات الاستعمار "مسؤولية إرث التفرقة"، ويقول في حديث للجزيرة نت: "ونتيجة للسياسات البلجيكية إبان حقبة الاستعمار بدأ الناس يعرفون أنفسهم بوصفهم هوتو أو توتسي"، وهو تقسيم يتخطى حدود رواندا والكونغو الديمقراطية إلى عدد من دول الجوار.

ويرى مفوكا أن الصورة الأعمق لما يجري في شرق الكونغو تظهر "أن وجود المجموعات المتصارعة داخل الكونغو الديمقراطية عزز الصور النمطية والتمييز المسبق ضد التوتسي في منطقتي كيفو الشمالية والجنوبية". ويضيف أن التشكيك في "أصالة" انتماء مكون التوتسي للكونغو الديمقراطية هو الوقود الرئيسي الذي يؤجج الصراع الراهن. ويؤكد أن استخدام مصطلحات لوصف السكان على أساس "سكان أصليين أو غزاة أو أجانب" لم يكن مجرد بناء نظري في الدراسات الغربية والاستعمارية، بل تحول إلى "أيديولوجيا ترجمت إلى أفعال دموية على أرض الواقع".

مصدر الصورة باحث: التقسيم الإثني في المنطقة يتخطى حدود رواندا والكونغو الديمقراطية إلى عدد من دول الجوار (الجزيرة)

ويؤكد مفوكا أنه في المشهد الحالي لصراع شرق الكونغو "يستمر الساسة وقادة الجماعات المسلحة في الترويج لهذه الانقسامات العنصرية". ونتيجة لذلك، يضيف مفوكا: "تعمد العديد من مليشيات ماي-ماي إلى تبني عقيدة قتالية قائمة على الدفاع عن أرضها ضد التوتسي الكونغوليين الذين يُصنفون غرباء لا يحق لهم التملك بناءً على الشكل".

وعن أثر الإبادة الجماعية ضد التوتسي في رواندا عام 1994 وتدفق لاجئي الهوتو إلى شرق الكونغو في الصراع المستمر، يرى مفوكا "أن السرديات السياسية كانت المحرك الأساسي للإبادة في رواندا وكذلك للاضطرابات الإثنية في بوروندي في 1972 و1993″، ويضيف: "أنه وبفعل القرب الجغرافي والتشابك الاجتماعي أصبحت أزمة الهوية في الكونغو الديمقراطية صدى لأيديولوجيات الصراع في الجوار، حيث ضاعفت الحروب الأهلية من حالة عدم الاستقرار في بيئة كونغولية هشة في الأساس".

ويمتد الأثر إلى بوروندي أيضا، إذ يقول إينوسينت موهوزي: "إن فترات الاضطرابات تؤدي إلى تعزيز هذه الانقسامات، فحين يراق الدم لا يجد الناس خيارا آخر سوى السير في الاتجاه ذاته الذي يفرضه السياسيون، فيبدؤون بتبني هوية الهوتو أو التوتسي بحثا عن الحماية"، ويختتم: "تلك العملية تقودهم تدريجيا إلى نسيان هويتهم الجامعة".

إعلان
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا