يتفاوت توصيف المحللين السياسيين في فهم نيات الرئيس الأميركي ترامب السياسية فيما يتعلق بتحركات جيشه الأخيرة حيال فنزويلا، فبينما يرى البعض سياسته تخبطا لا يحمل أهدافا عسكرية واضحة، يراها آخرون تمهيدا لغزو عسكري شامل.
ومرد هذا التباين في رؤى المراقبين يعود إلى أفعال وأقوال الرئيس ترامب المتباينة، فهو تارة يحشد الأساطيل البحرية ويفرض حصارا بحريا قويا على النفط الفنزويلي، ويصادر بعض ناقلاتها النفطية، ويوجه أيضا الضربات العسكرية القوية نحو القوارب الفنزويلية المشتبه بحملها المخدرات – حسب الزعم الأميركي- لإيصالها للولايات المتحدة. وتارة أخرى يصرح ترامب بأنه رجل سلام أنهى أكثر من سبع حروب حتى الآن تؤهله – حسب ترشيح بعض الدول الداعمة له- لنيل جائزة نوبل للسلام.
ولكن المتأمل في سيرة ومسيرة الرئيس ترامب يدرك أن هنالك إستراتيجية واضحة يبديها نحو القضايا الخارجية بغض النظر عن بعض تصريحاته النارية التي يطلقها بين الفينة والأخرى.
تقوم إستراتيجية الرئيس الأميركي في السياسة الخارجية على تعزيز المكاسب الاقتصادية والتجارية الفورية للولايات المتحدة الأميركية، دون اللجوء لاستخدام القوة المفرطة، كما حدث في حالتي حرب أفغانستان والعراق قبل حوالي أربعة وعشرين عاما.
ترامب لا يرغب أبدا في حرب فنزويلية شبيهة بحربي العراق وأفغانستان، فهو أميل إلى توجيه ضربات عسكرية محددة دون اللجوء إلى تغيير النظام المستهدف من خلال هذه الضربات، كما هو الحال عندما ضرب المفاعلات النووية الإيرانية
وبناء على ذلك تقوم إستراتيجية ترامب نحو فنزويلا، على تحقيق هدف أساسي هو استخدام الضغط العسكري لإزالة نظام الرئيس الفنزويلي مادورو، وإعادة سيطرة الشركات الأميركية على النفط الفنزويلي دون اللجوء إلى غزو عسكري شامل.
ينظر الرئيس ترامب إلى السياسة الخارجية على أنها عمليات تجارية بحتة، بما في ذلك الحروب والغزوات العسكرية. على سبيل المثال يعتقد ترامب أنه كان ينبغي للولايات المتحدة الأميركية السيطرة على النفط العراقي بعد غزو العراق عام 2003، وأن الفشل في تحقيق ذلك هو غباء فاضح لا مبرر له.
وبناء على ذلك ينظر ترامب إلى النفط الفنزويلي باعتباره ملكا سابقا للشركات الأميركية النفطية قبل عمليات التأميم التي بدأت في فترات متباعدة في فترة السبعينيات من القرن الماضي، قبل أن يكمل عملية التأميم الرئيس الفنزويلي السابق هوغو شافيز- عدو أميركا اللدود- في عام 2007.
والجدير بالإشارة هنا أن احتياطي النفط الفنزويلي يبلغ حوالي 300 مليار برميل، وهو نفط قريب في متناول الإمبريالية الأميركية.
قررت الولايات المتحدة الأميركية، وهي في أوج قوتها العسكرية والاقتصادية- بعد نشوة النصر في الحرب العالمية الثانية والتخلي عن سياسة العزلة الدولية التي لازمتها منذ تأسيسها- أن توسع قواعد نفوذها في العالم، وأن تعيد الإعمار في أوروبا الغربية واليابان من خلال الخطة الدولية الطموحة المعروفة بخطة "مارشال".
كانت هذه لحظة فارقة في سياسة الولايات المتحدة الخارجية في تغيير الأنظمة المعادية لها، وبناء أنظمة ديمقراطية حليفة مكانها. ولكن منذ تنفيذ خطة "مارشال" – ونجاحها النادر في مساعدة ألمانيا الغربية واليابان في الوقوف على أقدامهما مرة أخرى، معززة التحولات الديمقراطية والرأسمالية فيهما- فإننا نجد أن كل التدخلات الأميركية العسكرية لتغيير الأنظمة المناوئة لها قد باءت بالفشل الذريع.
لقد أصبحت حرب فيتنام- ذات التكلفة البشرية والمادية العالية- مثالا كلاسيكيا للفشل الأميركي في تغيير الأنظمة، وعقدة سياسية كبرى انخدع فيها الشعب الأميركي، وانكشفت له لاحقا الصور القبيحة للمعاناة الإنسانية للضحايا المدنيين من الأطفال والنساء الفيتناميين بقنابل النابالم الأميركية سيئة الصيت. اضطر الجيش الأميركي للانسحاب والإقرار بالهزيمة في فيتنام بعد المظاهرات الأميركية الشعبية القوية لإيقاف الحرب فيها.
بيد أن عقدة احتلال العراق في عام 2003، عندما قررت إدارة بوش غزو العراق -وتغيير النظام فيه تحت ذرائع وأكاذيب مختلفة، منها علاقة صدام حسين بأحداث سبتمبر/أيلول، أو امتلاكه أسلحة الدمار الشامل- هي الأقرب للذاكرة الجمعية الأميركية من عقدة حرب فيتنام.
اتضح لمعظم الأميركيين بما لا يدع مجالا للشك- بعد مضي أكثر من عقدين من الزمان- أن غزو العراق لم يكن له مبرر أخلاقي، أو ضرورة سياسية رغم تكلفته المادية والبشرية العالية.
وربما ينطبق الحال أيضا على الحرب في أفغانستان، رغم وجود "تنظيم القاعدة" في تلك البلاد، حيث لم ترد إدارة الرئيس بوش تعقب "القاعدة" فحسب، بل تغيير نظام طالبان وإنشاء نظام ديمقراطي ليبرالي مكانه في بلد ذي تقاليد إسلامية عريقة يعتز أهلها بأن بلادهم هي مقبرة الإمبراطوريات الكبرى من بريطانيا، وروسيا، إلى الولايات المتحدة الأميركية.
لقد أنفقت الولايات المتحدة أكثر من تريليوني دولار أميركي لتغيير نظام طالبان في أفغانستان، وتأسيس جيش أفغاني حديث، إلا أنه بعد 20 عاما لم يجد الأميركيون مفرا من التفاوض مع طالبان؛ لضمان خروج آمن لقواتهم غير آبهين بمصير حكومة أفغانستان الحليفة لهم، أو جيشها الذي لم يصمد حتى لفترة أسابيع قلائل في وجه طالبان، تاركين خلفهم العدة والعتاد غنيمة سائغة لقوات طالبان.
رأى الأميركيون حلفاءهم الأفغانيين وهم يحاولون تسلق الطائرات الأميركية المغادرة- قبل وصول قوات طالبان للعاصمة كابل- في مشهد ذكرهم كثيرا بما حدث عند مغادرة القوات الأميركية فيتنام قبل سقوط عاصمتها في أيدي الثوار اليساريين.
وعليه فإن ترامب لا يرغب أبدا في حرب فنزويلية شبيهة بحربي العراق وأفغانستان، فهو أميل إلى توجيه ضربات عسكرية محددة دون اللجوء إلى تغيير النظام المستهدف من خلال هذه الضربات، كما هو الحال عندما ضرب المفاعلات النووية الإيرانية، أو عندما قام بتوجيه ضربات عسكرية ضد الحوثيين في اليمن. ولكن الوضع يختلف كثيرا في فنزويلا التي يرغب الرئيس الأميركي ترامب في تغيير النظام فيها تغييرا حاسما دون اللجوء إلى الغزو العسكري الشامل.
تشير كل دلائل التحركات العسكرية الأخيرة ضد فنزويلا إلى حتمية تغيير النظام الفنزويلي واستعادة السيطرة الأميركية على النفط الفنزويلي. فالرئيس ترامب يريد التخلص نهائيا من نظام الرئيس مادورو؛ لتحقيق الهيمنة الأميركية على الحقول النفطية والموارد الأخرى لدولة فنزويلا، وإيجاد نظام موالٍ للولايات المتحدة يسمح بحرية عودة الشركات الأميركية.
ولكن في المقابل ربما لا يستجيب الرئيس الفنزويلي مادورو لهذه الضغوط الأميركية، وحينها قد لا يجد الرئيس ترامب مفرا غير توجيه ضربات عسكرية خاطفة لاستهدافه، بعد جمع معلومات استخباراتية قوية، ومن ثم إحداث تغيير انقلاب قوي بالتنسيق المسبق مع بعض جنرالات الجيش الفنزويلي لقيام نظام موالٍ للولايات المتحدة الأميركية يكفيها شر الدخول في حرب شاملة دامية في فنزويلا.
ولكن في حال حدوث هذا السيناريو فإن احتمال اشتعال حرب أهلية في فنزويلا يظل قائما، حتى ولو حاول النظام الجديد المزمع إقامته قمع الموالين للرئيس مادورو بالقوة بمساندة الولايات المتحدة.
بدأت تظهر في الأشهر الأخيرة أصوات معارضة ناعمة داخل الحزب الجمهوري ضد بعض سياسات الرئيس الأميركي ترامب وخطابه السياسي. كما ظهرت بوادر انشقاق داخل حركة ماغا- الداعم القوي للرئيس ترامب – حيال دور اللوبي الإسرائيلي في واشنطن، ولكن ما زالت قبضة الرئيس ترامب مسيطرة حتى الآن على الحزب الجمهوري وعلى حركة ماغا.
بيد أنه هنالك قيادات مهمة داخل حركة ماغا ما زالت تذكر الرئيس ترامب بوعوده المتكررة أثناء حملته الانتخابية بأنه سوف ينهي الحروب الأميركية الخارجية ويركز على بناء أميركا داخليا.
ولذلك سيكون من الصعب على ترامب إقناع هذه الشريحة بمبررات الحرب المقبلة على فنزويلا وضرورة تغيير النظام فيها. يقول توماس ماسي، أحد أهم أعضاء الحزب الجمهوري في خطابه في الكونغرس- ردا على احتمال غزو فنزويلا – إنه ينبغي على الرئيس الأميركي ألا يقوم بأي عمل عسكري ضد فنزويلا تحت ذريعة محاربة تجارة المخدرات؛ لأن خطر تهريب المخدرات للمجتمع الأميركي أكبر منه في المكسيك والصين من فنزويلا، فإذا كان هنالك دولة يجب أن تحاربها الولايات المتحدة في حرب المخدرات، فينبغي أن تكون المكسيك أو الصين.
يبدو أن الرئيس الأميركي عاقدٌ العزم على تغيير نظام الحكم في فنزويلا وأن أيام الرئيس الفنزويلي مادورو في الحكم ربما في ضوء ما يجري أصبحت معدودة.
ولكن يريد الرئيس الأميركي تحقيق هذا الهدف عن طريق استسلام النظام دون اللجوء إلى مواجهة عسكرية شاملة معه. بيد أن لكل حرب طرفي معادلة يقف ترامب على أحدهما، ويقف النظام الفنزويلي على الآخر، وعليه ربما يجد ترامب نفسه في مستنقع حرب لا يود خوض غمارها تعيد إلى الذاكرة الأميركية مرة أخرى عقدة تغيير الأنظمة الخارجية، مثلما حدث في فيتنام، وأفغانستان، والعراق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
المصدر:
الجزيرة