الدوحة ـ في وقت تتسارع فيه تطبيقات الذكاء الاصطناعي لتعيد رسم خرائط المعرفة والإنتاج اللغوي عالميا، تتجدد الأسئلة عن موقع اللغة العربية في هذا التحول، وحدود قدرتها على مواكبة ثورة الخوارزميات، خاصة في مجالي الترجمة العلمية والكتابة الرقمية.
هذه الإشكاليات كانت محور جلسة بحثية متخصصة ضمن فعاليات مؤتمر الذكاء الاصطناعي واللغة العربية، الذي ينظمه معجم الدوحة التاريخي للغة العربية بالتعاون مع المعهد العربي للدراسات، وبمشاركة باحثين من تخصصات علمية ولسانية ومعرفية مختلفة.
وناقشت الجلسة أوراقا علمية تناولت أثر الذكاء الاصطناعي على اللغة العربية، من زاوية الترجمة العلمية، وتحولات الكتابة، وتحديات نقل المضمون الثقافي والرمزي، خصوصا في الأمثال الشعبية، في ظل الاعتماد المتزايد على النماذج اللغوية الآلية.
في ورقته المعنونة "ثورة الذكاء الاصطناعي في نقل المعرفة، وخصوصية اللغة العربية في الترجمة العلمية"، تناول الدكتور نضال شمعون، أستاذ الفيزياء النظرية في المعهد العالي للعلوم التطبيقية والتكنولوجيا بدمشق ، العلاقة المركبة بين تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي وهيمنة اللغة الإنجليزية من جهة، وقدرة العربية على استيعاب المعرفة العلمية الحديثة من جهة أخرى.
وأوضح شمعون أن تفوق الإنجليزية في بيئات الذكاء الاصطناعي يعود إلى وفرة الموارد الرقمية والمدونات الضخمة والاستثمار البحثي المتراكم، معتبرا أن هذا الخلل البنيوي ينعكس مباشرة على جودة الترجمة العلمية إلى العربية، وعلى قدرة النماذج اللغوية على التعامل مع المصطلحات الدقيقة والمعاني السياقية المتخصصة.
وأشار إلى أن اللغة العربية تمتلك بنية لغوية واشتقاقية غنية تؤهلها لأن تكون لغة علم ومعرفة، لكنها في الوقت نفسه تفرض تحديات إضافية أمام الترجمة الآلية، خصوصا حين تتداخل الدلالة اللغوية مع المفاهيم الرياضية والفيزيائية.
ولفت إلى أن نماذج الترجمة العصبية (وهي أحدث تقنيات الترجمة الآلية التي تستخدم نماذج التعلُّم العميق والشبكات العصبية الاصطناعية لمحاكاة الدماغ البشري) تعتمد أساسا على فهم السياق العام للنص، لا على ترجمة الكلمات مفردة، إلا أنها لا تزال عاجزة عن التقاط الفروق الدقيقة في بعض الاستخدامات العلمية.
وبيّن شمعون أن بعض المصطلحات تتغير دلالتها بتغير الحقل المعرفي، مثل مصطلح "المشتق" في الرياضيات مقارنة باستخدامه في فيزياء الموائع، وهو ما يفرض على المترجم البشري أو الآلي اتخاذ قرارات دلالية دقيقة.
وقال شمعون في حديثه للجزيرة نت، إن الترجمة الآلية، رغم التطور اللافت الذي حققته، لا تزال بحاجة إلى تدخل بشري، خاصة في النصوص العلمية المتخصصة، مؤكدا أن تطوير موارد لغوية عربية عالية الجودة، ومدونات موسومة سياقيا، يمثل شرطا أساسيا لتمكين العربية في بيئة الذكاء الاصطناعي العالمية.
من جانبه، ركز الأستاذ بجامعة الأغواط في الجزائر الطيب دبة، على البعد اللغوي والنحوي في إشكالية الترجمة الآلية، مؤكدا أن صعوبات الترجمة في العربية تعود إلى طبيعة نظامها النحوي القائم على تعدد الدلالات والاعتماد الكبير على السياق.
وأوضح أن العربية تتميز بنظام مرن نسبيا في ترتيب الكلمات، حيث لا تكون الرتبة ثابتة بالضرورة، بل تخضع لاعتبارات دلالية وتداولية، وهو ما يربك أنظمة الترجمة التي تعتمد على أنماط خطية جامدة. وضرب أمثلة بجمل يتغير معناها بتقديم الفاعل أو المفعول أو الخبر، مشيرا إلى أن بعض البرامج تعجز عن التقاط هذه الفروق، فتنتج ترجمات مضللة أو غير دقيقة.
وأكد أن القرائن النحوية لا تعمل منفردة، بل ضمن نظام متكامل من العلامات، وأن تجاهل هذا النظام يؤدي إلى إخفاقات واضحة في الترجمة الآلية. واعتبر أن إدماج هذه الخصائص في الخوارزميات يمكن أن يحول ما ينظر إليه بوصفه "عائقا" إلى ميزة لغوية.
وفي مقاربة معرفية أوسع، تناول المحرر العلمي بالموسوعة العربية ورئيس تحرير دورية "استشراف للدراسات المستقبلية" الباحث مراد دياني، التحولات التي أحدثتها الكتابة الرقمية المعززة بالذكاء الاصطناعي في أنماط إنتاج المعرفة، من خلال ورقته "من المطبوع إلى الخوارزمية".
وتساءل دياني عن قدرة ما سماه "الثورة الرابعة في الكتابة" على الإسهام في تجاوز العجز المعرفي العربي، عبر إعادة تشكيل مفاهيم القرائية والتأليف والتداول، على غرار التحولات البنيوية التي أحدثتها ثورة الطباعة.
واعتمد في ذلك مقاربة تاريخية مقارنة تتبعت الانتقال من الشفهية إلى التدوين والطباعة، ثم الرقمنة، وصولا إلى الذكاء الاصطناعي.
وأشار إلى أن الكتابة المعززة بالذكاء الاصطناعي تفتح المجال أمام إنتاج معرفي مشترك بين الإنسان والآلة، وتخلق قنوات بديلة لتداول المعرفة خارج الأطر السلطوية التقليدية، لكنها في المقابل تحمل مخاطر المراقبة الرقمية والتحيز الخوارزمي وترسيخ السلطوية، في حال غياب قرائية نقدية وانفتاح مؤسسي حقيقي.
وخلص إلى أن هذا التحول ليس حتميا، بل يظل محكوما بالخيارات السياسية والثقافية والمؤسسية، التي ستحدد ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيشكل فرصة للمعرفة العربية أم يعيد إنتاج اختلالاتها بشكل أكثر تعقيدا.
وفي سياق متصل، سلطت الباحثة الأردنية إسراء محيسن الضوء على أحد أكثر التحديات تعقيدا في الترجمة الآلية، والمتعلق بترجمة الأمثال الشعبية العربية إلى اللغات الأخرى، معتبرة أن هذا المجال يكشف بوضوح حدود فهم الذكاء الاصطناعي للثقافة.
وأوضحت محيسن، أن الأمثال الشعبية لا تقوم على المعنى اللغوي المباشر فقط، بل تحمل شحنات ثقافية واجتماعية وتاريخية متراكمة، ما يجعل ترجمتها الآلية عرضة للتشويه أو الاختزال. وأظهرت التجارب التطبيقية -بحسب دراستها- أن كثيرا من النماذج تتعامل مع المثل الشعبي بوصفه جملة تقريرية، فتفقده رمزيته ووظيفته البلاغية.
وبينت أن الدراسة رصدت أنماطا متكررة من الأخطاء، منها إسقاط الدلالة المجازية، وسوء تأويل الصور البلاغية، والخلط بين المعنى اللغوي والمعنى التداولي، خاصة في الأمثال ذات الجذور المحلية. واعتبرت أن ترجمة الأمثال تمثل اختبارا حقيقيا لقدرة الذكاء الاصطناعي على فهم الثقافة لا اللغة فقط.
وأكدت محيسن أن النتائج تبرز الحاجة إلى تطوير نماذج ترجمة تراعي الخصوصية الثقافية، وتستند إلى مدونات لغوية موسومة سياقيا، مشددة على أن الدور البشري يظل حاسما في ضمان سلامة المعنى، لا سيما في النصوص ذات البعد التراثي والرمزي.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة