في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
بعد 8 عقود من الاعتماد على القوة الأميركية بوصفها الضامن الأساسي للنظام الدولي، يواجه حلفاء الولايات المتحدة حقيقة مقلقة تتلخص في أن واشنطن لم تعد ترى في هذا الدور استثمارا يستحق كلفته السياسية والاقتصادية والعسكرية.
وفي مقال مشترك في مجلة فورين أفيرز، يقدم فيليب غوردون، مستشار الأمن القومي لكمالا هاريس نائبة الرئيس الأميركية السابقة، ومارا كارلين مساعدة وزير الدفاع السابقة للشؤون الإستراتيجية والخطط، قراءة استشرافية قاتمة للوضع الحالي.
وحلل الكاتبان الكيفية التي جعلت إدارة الرئيس دونالد ترامب تمضي حثيثا في هذا التحول، مما دفع حلفاء أميركا إلى التفكير الجدي في "الخطة ب" البديلة داخل عالم أكثر اضطرابا.
وفي مقالهما بعنوان "الحلفاء بعد أميركا: البحث عن الخطة باء"، يرى الكاتبان أن رؤساء الولايات المتحدة المتعاقبين ظلوا على مدى 80 عاما تقريبا يتبنون فكرة أساسية تقوم -رغم التناقضات والإخفاقات- على أن أمن أميركا وازدهارها يتحققان بصون التحالفات، وردع العدوان ، ودعم التجارة الحرة، والاستثمار في المؤسسات الدولية.
لكن غوردون وكارلين يعتقدان أن الولاية الثانية لترامب تمثل قطيعة حاسمة مع هذا الإرث. فخلافا للولاية الأولى التي ضمت شخصيات "عولمية" كبحت جماح الانعزالية، يحيط ترامب نفسه اليوم بمسؤولين يعتبرون التحالفات عبئا، والالتزامات الخارجية استنزافا غير مبرر للموارد الأميركية دون عائد ملموس.
ويشير الكاتبان إلى أن التغيير الجوهري في السياسة الخارجية يكمن في طبيعة الفريق المحيط بالرئيس؛ فأعضاء فريق ترامب الحالي -منهم نائبه جيه دي فانس، ووزير الحرب بيت هيغسيث ، ومديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد – تساورهم شكوك عميقة تجاه قيادة أميركا للعالم، وهي هواجس تشكلت في جانب منها بفعل خيبات الحروب السابقة.
وحتى شخصيات -مثل وزير الخارجية الحالي ماركو روبيو ، الذي كان يوما من أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان والسياسة الخارجية الحازمة- بدت وكأنها تخلت عن قناعاتها السابقة لتبقى منسجمة مع ترامب وقاعدته السياسية.
وتقوم الرؤية السائدة داخل الإدارة -وفق المقال- على افتراضات واضحة، وهي أن التحالفات غير ضرورية، والأنظمة الاستبدادية أسهل في التعامل من الديمقراطيات، والنظام التجاري المفتوح يضر بالمصالح الأميركية، ويمكن للولايات المتحدة الدفاع عن نفسها دون شركاء، كما يحق للقوى الكبرى الهيمنة على جيرانها الأصغر، بل وضم أراض جديدة إذا اقتضت مصالحها ذلك.
وبهذا المعنى، يرى الكاتبان أن عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ، القائم على تحالفات ديمقراطية تقودها واشنطن، آخذ في الزوال.
الرؤية السائدة داخل الإدارة تقوم على افتراضات واضحة، وهي أن التحالفات غير ضرورية، والأنظمة الاستبدادية أسهل في التعامل من الديمقراطيات، والنظام التجاري المفتوح يضر بالمصالح الأميركية
يبرز هذا التحول بوضوح في تعامل الإدارة مع أوروبا وحلف شمال الأطلسي (ناتو). فبينما شدد رؤساء أميركيون سابقون على الالتزام الصارم بالمادة الخامسة من ميثاق الحلف، ربط ترامب هذا الالتزام بمسألة "دفع الفواتير".
بل ذهب إلى حد التلويح بالسيطرة على جزيرة غرينلاند، التابعة للدانمارك، وهي دولة حليفة، حتى بالقوة العسكرية، ما أثار احتمال استخدام الولايات المتحدة قوتها ضد حليف أطلسي بدل الدفاع عنه.
ويستشهد الكاتبان بموقف واشنطن المتخاذل عندما انتهكت روسيا الأجواء البولندية والرومانية، حيث فضلت الإدارة الصمت، مما أجبر الدول الأوروبية على مواجهة التحديات الأمنية بمفردها لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.
هذا الفراغ القيادي دفع القادة الأوروبيين إلى إدراك أن المظلة الأميركية لم تعد تقي من الخطر الروسي، بل ربما تكون هي نفسها مصدر الخطر إذا ما قرر ترامب سحب القوات فجأة. وفي تقدير الكاتبين أن هذه الخطوات تقوض القدرة على الردع وتفتح المجال لخصوم واشنطن.
ولا يقل قلق الحلفاء في آسيا عن نظرائهم في أوروبا. ففي منطقة المحيطين الهندي والهادي، يلاحظ الكاتبان أن شبكة الشراكات لا تزال قائمة شكليا، لكنها أصبحت هشة للغاية. وقد أبدت واشنطن استعدادا لمقايضة أمن حلفاء مثل تايوان مقابل "صفقة كبرى" مع الصين.
وليس أدل على ذلك من تجميد ترامب تسليم أسلحة لتايوان، وتقييد التواصل الدبلوماسي معها، ورفض الالتزام الصريح بالدفاع عنها، مما عزز الشعور بعدم اليقين في منطقة شديدة الحساسية.
ويُعد تصريح وزير التجارة هوارد لوتنيك بأن الدفاع عن تايوان مرهون بنقل نصف قدراتها في صناعة أشباه الموصلات إلى الولايات المتحدة دليلا قاطعا على تحول السياسة الأميركية إلى نمط من الابتزاز الاقتصادي الفج.
وفي الشرق الأوسط ، يظهر ترامب دعما قويا لإسرائيل، لكنه متردد في المخاطرة بالقوات الأميركية دفاعا عن شركاء آخرين.
ويستحضر مقال فورين أفيرز امتناعه عن الرد على هجمات إيرانية سابقة، لتؤكد أن واشنطن باتت تتحرك عسكريا فقط عندما تكون مخاطر التصعيد محدودة، مثل ضرب قوارب المخدرات الفنزويلية.
وفي الوقت نفسه، تتجنب الإدارة الأميركية المواجهات مع القوى الكبرى، وهو ما ظهر جليا في تقاعسه عن الرد على الهجمات التي استهدفت منشآت نفطية في المنطقة، مفضلا التركيز على الصفقات العقارية والاستثمارات الشخصية للمقربين من إدارته، طبقا للمقال.
لا يقل قلق الحلفاء في آسيا عن نظرائهم في أوروبا. ففي منطقة المحيطين الهندي والهادئ، يلاحظ التقرير أن شبكة الشراكات لا تزال قائمة شكليا، لكنها أصبحت هشة للغاية
ورغم هذه المؤشرات المتراكمة، لم يستعد معظم الحلفاء بجدية لاحتمال انكفاء أميركي. فأوروبا تأخرت في بناء قدرة دفاعية مستقلة، في حين ركز حلفاء آسيا والشرق الأوسط على استرضاء واشنطن بدل تطوير بدائل.
واليوم، ومع ضيق الخيارات، يلجأ كثيرون إلى إسباغ ترامب بالمديح، وتقديم تنازلات تجارية، وزيادة إنفاقهم العسكري، أملا في الحفاظ على التزام الولايات المتحدة تجاههم.
لكن غوردون وكارلين يشددان على أن هذه الإستراتيجيات محدودة الجدوى. فترامب، في نظرهما، زعيم يتعامل بمبدأ الصفقات، ولا تحكمه ولاءات دائمة. وقد انهارت الثقة العالمية في الولايات المتحدة، وبات بعض الحلفاء ينظرون إليها كقوة غير مبالية أو حتى معادية.
أمام هذا الواقع -يتابع الكاتب- بدأت ملامح "الخطة ب" بالظهور. فالدول الحليفة تزيد إنفاقها الدفاعي، وتعزز التعاون الإقليمي بينها، وتسعى إلى تقليص اعتمادها على الصناعات العسكرية الأميركية.
وبعضها يفتح نقاشات حساسة عن امتلاك قدرات نووية مستقلة، رغم كلفة ذلك السياسية والتقنية والمخاطر المترتبة عليه.
ومن وجهة نظر المقال، فإن من شأن هذا المسار أن يغير وجه الخارطة الجيوسياسية للأبد. ويتضمن ذلك تعزيز الاستقلال الإستراتيجي بتفضيل الصناعات الدفاعية المحلية على الموردين الأميركيين. فعلى سبيل المثال، تجاوزت الدانمارك الشركات الأميركية لتبرم صفقة دفاع جوي ضخمة مع شركات أوروبية.
ويحذر الكاتبان من أن تراجع القيادة الأميركية ستكون له تبعات اقتصادية عميقة، إذ قد يدفع الحلفاء إلى بناء ترتيبات تجارية جديدة بعيدا عن واشنطن.
ويخلص المقال إلى أن انهيار نظام التحالفات الأميركي سيجعل العالم أكثر خطورة، مستحضرا دروس الانعزالية الأميركية في مطلع القرن الـ 20. ورغم أن التعاون مع الولايات المتحدة سيستمر، فإن الاعتماد عليها لم يعد خيارا مضمونا، ما يجعل إعداد "الخطة ب" البديلة ضرورة لا غنى عنها.
غياب خطة بديلة واقعية سيؤدي إلى زيادة قابلية الحلفاء للابتزاز، وإلى تشجيع القوى المنافسة على اختبار حدود الردع، في عالم لم تعد فيه المظلة الأميركية مضمونة ولا دائمة
ويؤكد غوردون وكارلين أن أفضل ما يمكن للحلفاء فعله في المدى المنظور هو الجمع بين مسارين متوازيين: الأول السعي إلى الحفاظ على أكبر قدر ممكن من التعاون العملي مع واشنطن، عبر القنوات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية القائمة، من دون أوهام عن عودة قريبة إلى ما كان عليه الحال سابقا.
والثاني الاستثمار الجاد في بناء قدرات ذاتية وتحالفات مكملة تقلل من حجم المخاطر في حال قررت الولايات المتحدة الانسحاب الكامل أو الجزئي من التزاماتها.
فغياب خطة بديلة واقعية -كما يحذران- سيؤدي إلى زيادة قابلية الحلفاء للابتزاز، وإلى تشجيع القوى المنافسة على اختبار حدود الردع، في عالم لم تعد فيه المظلة الأميركية مضمونة ولا دائمة.
وفي مثل هذا السياق المضطرب، تصبح المرونة الإستراتيجية، والتنسيق المتعدد الأطراف، وإعادة تعريف المصالح المشتركة عناصر حاسمة للبقاء والاستقرار في المدى المنظور.
المصدر:
الجزيرة