لم تكن زيارة رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان إلى القاهرة، أمس الخميس، عادية أو تنسيقية على غرار لقاءاته السابقة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بل انتهت ببيان رسمي مصري لافت ومختلف في مضمونه ونبرته. فقد عبّرت القاهرة بوضوح عن قلقها البالغ إزاء استمرار حالة التصعيد والتوتر الشديد في السودان، ولا سيما الانتهاكات بحق المدنيين في مدينة الفاشر.
على أن الأهم في البيان الرئاسي هو التأكيد الصريح على وجود “خطوط حمراء” مصرية في السودان لا يمكن السماح بتجاوزها أو التهاون بشأنها، باعتبار أن “أيّ مساس بها يشكل تهديداً مباشراً للأمن القومي المصري”. كما أبدت مصر رفضها القاطع لإنشاء أيّ كيانات موازية أو الاعتراف بها، مؤكدة أن مثل هذه المحاولات تمس وحدة السودان وسلامة أراضيه.
وشدد البيان على أن الحفاظ على مؤسسات الدولة السودانية ومنع المساس بها يمثل خط أحمر آخر، مشيراً إلى أن لمصر الحق الكامل في اتخاذ كافة التدابير والإجراءات اللازمة التي يكفلها القانون الدولي، إلى جانب اتفاقية الدفاع المشترك الموقعة بين البلدين.
وقد أثار هذا البيان تساؤلات عدة حول أسباب “رفع مصر سقف مواقفها الداعمة للجيش السوداني” وتوقيته، فضلاً عن أسباب ونتائج زيارة البرهان إلى القاهرة.
في تعليقها على الزيارة، قالت الدكتورة أماني الطويل، الخبيرة في الشؤون الأفريقية، في حديثها إلى “الحرة”، إن زيارة البرهان إلى القاهرة تأتي في إطار تنسيق إقليمي ودولي يشمل واشنطن، ويهدف في مجمله إلى الدفع نحو وقف إطلاق النار والتوصل إلى هدنة إنسانية في السودان، في حين يُنظر إلى المسار السياسي بوصفه مسألة مؤجلة في المرحلة الحالية.
وأوضحت الطويل أن البيان الصادر عقب الزيارة “اتسم بلغة غير مسبوقة في الخطاب المصري تجاه السودان، إذ تضمّن محددات واضحة تتعلق بوحدة الدولة السودانية”. ولفتت إلى أن “هذه هي المرة الثالثة التي تستخدم فيها مصر صياغات إقليمية حاسمة من هذا النوع، بعد ليبيا وغزة”. ورأت أن الإشارة إلى اتفاق الدفاع المشترك تعكس تحوّلاً ملحوظاً في لهجة القاهرة، في ضوء إدراك متزايد لحجم التهديدات الناجمة عن الساحة السودانية، خاصة بعد أحداث الفاشر الدامية، والمؤشرات المرتبطة بمحاولات اقتحام حقل هجليج النفطي”.
وأبدت القاهرة دعمها للجيش السوداني منذ اندلاع القتال بينه وبين “قوات الدعم السريع” عام 2023، واستقبل السيسي البرهان، قبل اجتماع الأمس، مرات عدة، آخرها في الخامس عشر من أكتوبر الماضي.
وتتخوف مصر من الارتدادات المحتملة للتطورات في السودان، واستقبلت مئات آلاف اللاجئين السودانيين، كما انخرطت في الجهود الهادفة انهاء القتال في هذا البلد.
وفي هذا الصدد، قالت الطويل أن “التحركات الراهنة تهدف إلى بلورة مبادرة محتملة”، مرجحة أن تكون تحت مظلة اللجنة الرباعية، وليس في إطار مبادرة ثنائية سودانية مع أيّ دولة، لا سيما في ما يتعلق بمستقبل القوات المسلحة السودانية.
رأى الكاتب الصحفي السوداني طاهر المعتصم، في حديثه لـ”الحرة”، أن زيارة البرهان إلى القاهرة تختلف جذريّاً عن زياراته السابقة منذ عام 2019، نظراً لاختلاف السياقين الإقليمي والدولي. وأشار إلى “تقارير تحدثت عن لقاء مباشر أو غير مباشر بين البرهان ومسعد بولس، المبعوث الأميركي، أعقبه اتصال بين بولس ووزير الخارجية المصري، ما يعكس حجم التنسيق الجاري خلف الكواليس”. وأكد أن ما يجري لا يمثل مبادرة جديدة بقدر ما هو تطوير لخارطة الطريق التي طرحتها “الرباعية” سابقاً.
ووصف المعتصم البيان المصري بأنه «بيان الخطوط الحمراء»، لافتاً إلى أن الإشارة إلى اتفاق الدفاع المشترك تحمل رسائل واضحة إلى الجهات الداعمة للحل العسكري، وعلى رأسها “قوات الدعم السريع”، فضلاً عن كونه رسالة تطمين لقيادة الجيش السوداني.
“البيان يشكل دفعة معنوية وتشجيعية للقيادة السودانية للمضي قدماً في تنفيذ خارطة الطريق، ويعكس التزاماً مصرياً بدعم استقرار الدولة السودانية”، يضيف المعتصم.
وكان البرهان قد زار السعودية الاثنين الماضي. وذكرت وكالة الأنباء السعودية أن ولي العهد محمد بن سلمان استعرض معه مستجدات الأوضاع في السودان وتداعياتها والجهود المبذولة لتحقيق الأمن والاستقرار.
واستضافت الرياض، خلال الأشهر الماضية، جولات عدة من محادثات “حوار جدة” بين الجيش السوداني و”الدعم السريع”، من دون أن تنجح في وقف الحرب.
ورأى المحلل السياسي السوداني خالد الفكي سليمان أن زيارة البرهان إلى القاهرة “جاءت في توقيت إقليمي بالغ الحساسية، تتداخل فيه تعقيدات الحرب السودانية مع حسابات الأمن القومي لدول الجوار”.
وأشار الفكي إلى أن “البيان حمل إشارات غير مباشرة إلى الخطوط الحمراء للقاهرة، وفي مقدمتها رفض تحويل السودان إلى ساحة صراع إقليمي أو دولي مفتوح، أو تهديد أمن الحدود المشتركة، أو المساس بأمن البحر الأحمر وممراته الحيوية، فضلاً عن رفض أيّ سيناريو يؤدي إلى تفكك الدولة أو إطالة أمد الصراع.
أكد بولس، الشهر الماضي، أن الجيش السوداني و”قوات الدعم السريع” رفضا مقترحاً أميركياً لهدنة إنسانية في السودان. ورحّب، حينها، بإعلان قائد “قوات الدعم السريع” محمد حمدان دقلو الموافقة على هدنة أحادية، معرباً عن أمله في التوصل إلى وقف إطلاق نار شامل.
وحول الموقف الأميركي، رأت الطويل أن واشنطن تواجه معضلة معقدة بسبب شبكة حلفائها الإقليميين المؤثرين لدى أطراف النزاع السوداني عبر الدعم المالي واللوجستي والعلاقات الاقتصادية. وأضافت إن “أيّ دور أميركي فاعل يتطلب ضبط تدفق السلاح، وتجفيف اقتصاد الحرب، وإدارة التحالفات الإقليمية بحكمة، إلى جانب بناء مسار سياسي سوداني حقيقي بقيادة مدنية فاعلة، وهو ما قد يعيد صياغة الحضور الأميركي في البحر الأحمر وشرق أفريقيا”.
في النهاية تعكس زيارة الفريق عبد الفتاح البرهان إلى القاهرة تحولاً نوعيّا في مقاربة مصر للأزمة السودانية، حيث انتقلت من لغة الدعم التقليدي إلى إعلان واضح لخطوط حمراء تمس أمنها القومي. البيان المصري حمل رسائل حاسمة بشأن وحدة السودان، ورفض الكيانات الموازية، والحفاظ على مؤسسات الدولة، مع التلويح باتفاق الدفاع المشترك. وفي ظل تعثر الجهود الدولية وتصاعد العنف، تتخوّف القاهرة من انزلاق السودان إلى فوضى إقليمية أوسع، وتسعى للمساهمة في إيجاد مسار سياسي يقوده السودانيون أنفسهم ويحفظ استقرار الدولة والإقليم.
المصدر:
الحرة