آخر الأخبار

ماركس في نيويورك.. الثروة ملك إيلون ماسك، وممداني يملك الشارع

شارك

كان الهواء في القاعة الفخمة لمعبد بروكلين الماسوني، في تلك الليلة الباردة من ليالي الأسبوع الأول في نوفمبر/تشرين الثاني 2025، مشبعا بالتوتر والتناقض. فلم يكن هذا احتفال نصر عاديا لسياسي تقليدي، لأن الحشد الذي ملأ الغرفة المضاءة بشكل مسرحي كان يبدو وكأنه قادم من عوالم مختلفة.

كانوا ينتمون لأجيال متغايرة، لكن أغلبهم كانوا شبابًا يرتدون قبعات الصوف، وفتيات محجبات يرقصن فرحا، ويهودا متدينين يظهرون غبطتهم، وآخرين ذوي بشرات بيضاء يحتفلون بفتح زجاجات نبيذ "بيت نات" الفوار، المشروب الذي شاع بين الفنانين وطبقة المبدعين في نيويورك وبروكلين خصوصا. كان تجمعا غريبا، لكنه يشبه الشكل الجديد لليسار في نيويورك، نشطاء الحقوق والحريات والعدالة الاجتماعية يجتمعون مع مثقفي الجامعات ومؤيدي فلسطين والقيادات العمالية والنقابية الشابة مع فناني "الهيبسترز" الذين يبدون كما لو كانوا جاؤوا من الستينيات للتو.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 المقامرة النووية.. إليك اللحظة التي كادت أن تغيّر مصير العالم
* list 2 of 2 ضابط في "سي آي إيه" يكشف 10 خطوات لصيد أخطر الجواسيس end of list

كانوا جميعا في انتظار رجل كان، قبل عام واحد فقط، مجرد هامش إحصائي لا يظهر في استطلاعات الرأي إلا لمامًا، وهو زُهران ممداني، الشاب البالغ من العمر 34 عاما من حي أستوريا في كوينز، الذي اعتلى المنصة ليعلن فوزه بمنصب عمدة مدينة نيويورك. كانت اللحظة بمنزلة زلزال سياسي، فالرجل الذي انتُخب للتو لم يكن مجرد منتسب للحزب الديمقراطي مثل غيره، لقد كان يساريا يجهر بيساريته، ومسلما يفخر بإسلامه، ومؤيدا لفلسطين يقاوم بكل طريقة ممكنة.

كان الأمر زلزالا سياسيا لأنه في اللحظة نفسها، سقطت نيويورك، عاصمة المال والأعمال، مقر وول ستريت، المدينة التي تُجسِّد ذروة الرأسمالية، في يد رجلٍ كرس مسيرته القصيرة المتحمسة لتفكيك هياكلها وبُناها.

مصدر الصورة تجمع لأنصار زهران ممداني أثناء حملته الانتخابية لمنصب عمدة بلدية نيويورك (رويترز)

لكن الأمر لم يكن مُبشِّرا في السياق الأميركي كله. ففي 20 يناير/كانون الثاني من العام نفسه، 2025، وقف دونالد ترامب في مبنى الكابيتول الأميركي، وأدى اليمين الدستورية لولاية ثانية رئيسا، ليعود بأجندة قومية شديدة التطرف وبخطة تنفيذية واضحة هذه المرة.

إعلان

وعلى بُعد جسر واحد فقط من احتفالات أنصار ممداني، في أبراج مانهاتن، لم يكن المزاج احتفاليا. كان رد فعل وول ستريت مرتبكا إلى حد أن وصف أحد المديرين التنفيذيين السابقين في وول ستريت، الذي تحدث لموقع " بوليتيكو " شريطة عدم الكشف عن هويته، أقرانه قائلا: "إنهم في حالة سكتة دماغية (apoplectic)". عمالقة المال، المعتادون على الحصول على ما يريدون، "مذهولون" و"هستيريون". لقد أنفقوا الملايين لدعم منافس ممداني الأساسي، الحاكم السابق أندرو كومو، لكن آلتهم السياسية انهارت أمام جيش ممداني من المتطوعين.

ما فعله ممداني كان فوزا بمنزلة إعلان حرب، بين عمدة اشتراكي واعد ومدينة رأسمالية راسخة انتُخب لحُكمها. لكن لفهم كيف أمكن لاشتراكي يبلغ من العمر 34 عاما أن يتولى قيادة مدينة نيويورك في العام نفسه الذي عاد فيه دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، يجب على المرء أن يعود بالزمن إلى بداية ذلك العام، إلى 15 يناير/كانون الثاني 2025.

"اليوم، تتشكل أوليغاركية (حكم النخبة الثرية) في أميركا من ذوي الثراء والسلطة والنفوذ المفرط على نحو يهدد ديمقراطيتنا بالمعنى الحرفي". ليست هذه العبارة من ناشط يساري أو صحفي أو أكاديمي أميركي، وإنما هي من الرئيس جو بايدن نفسه، الذي ألقاها في خطابه الوداعي من المكتب البيضاوي في يومه الأخير في البيت الأبيض. وفي اليوم نفسه، كان أثرياء وادي السيليكون، مثل إيلون ماسك ومارك زوكربرغ وبيتر تيل وجنسون هوانغ ولاري إيلسون، في طريقهم إلى واشنطن للاحتفال بتنصيب دونالد ترامب لولاية ثانية.

ليس القائل هو المفاجأة فحسب، بل التوقيت أيضا. فعلى مدى أكثر من ثلاثة عقود من السياسات النيوليبرالية التي بدأت في عهد الرئيس الأسبق رونالد ريغان وقادت إلى تقليص ضخم للضرائب على الأثرياء وللإنفاق الاجتماعي، اختل توزيع الثروة في الولايات المتحدة على نحو حاد وتاريخي ليصل إلى ذروته في الوقت الذي انتخب فيه الأميركيون أحد ممثلي أثرياء الولايات المتحدة.

فوفقا لبيانات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، الذي يوازي البنك المركزي في حالة الولايات المتحدة، زاد نصيب شريحة الـ1% الأغنى في الولايات المتحدة من الثروة من 22.8% سنة 1989 إلى 30.8% سنة 2024. في الفترة نفسها، تراجع نصيب النصف الأفقر من الأميركيين من 3.5% إلى 2.8% من الثروة الكلية. ويتجاوز إجمالي ثروة الـ1% الأغنى حاليا 49 تريليون دولار، أي نحو ثلث الثروة الأميركية بأكملها التي تُقدَّر بنحو 165 تريليون دولار.

وقد بدا هذا الاختلال أكثر فظاعة عندما وافق حاملو الأسهم في مجموعة تسلا على دفع تريليون دولار مباشرة إلى مالك المجموعة إيلون ماسك، إذا حققت المجموعة قيمة سوقية محددة على مدى السنوات العشر القادمة. بهذا يصبح ماسك، الذي تقترب ثروته الحالية من 500 مليار دولار، أقرب إلى أن يملك 1/165 من الثروة في أميركا بأكملها. إنه واقع مرعب، ورقم يتجاوز حتى أكثر عقول الخيال العلمي جموحا وتطرفا.

في المسلسل الشهير "بيت الورق" (House of Cards)، الذي يتناول السياسة في الولايات المتحدة، يقف البطل فرانسيس أندروود متحديا الملياردير ريمون تاسك -ولاسمه الرنين نفسه الذي يحمله اسم إيلون ماسك- قائلا إن ثروته أقل من الناتج المحلي الإجمالي لدولة صغيرة مثل سلوفينيا، يقول ذلك ليُثبت تفوق السياسة على الاقتصاد. لكن هذه الحجة لم تعد مقنعة الآن، فالميليارديرات أصبحوا أقدر على مراكمة الثروة من دول بأكملها، بل إن التقديرات الأحدث تقول إن ثروة ماسك تتجاوز الناتج المحلي الإجمالي لأكثر من 83% من دول العالم.

إعلان

على مدى الثمانينيات والتسعينيات، نجح النمو الاقتصادي المتسارع بعد تضخم القطاع المالي والتكنولوجي، وانفتاح أسواق جديدة ويد عاملة رخيصة بانهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقية، في تخفيف أثر هذا الاختلال الضخم، عبر ما يسمى بأثر التساقط ، وهي النظرية القائلة بأن زيادة ثراء الأغنياء ستؤدي في النهاية إلى تحسن أوضاع الفقراء تلقائياً.

الحجة بسيطة وتبدو عادلة لأول وهلة. فإذا كان هناك شخصان يكسبان 20 دولارا ويوزعانها بالتساوي، فإن كلًّا منهما يحصل على 10 دولارات، ثم عندما صارا يكسبان 100 دولار ويحصل أحدهما على الخمس والآخر على أربعة أخماس، فإن توزيع الثروة بينهما يختل، لكن الأقل حظا يظل سعيدا بزيادة حصته إلى 20 دولارا.

كانت هذه الحجة مقنعة على مدار أول عقدين من النيوليبرالية. فقد زاد الناتج المحلي الإجمالي في الولايات المتحدة من نحو 3 تريليونات دولار سنة 1981 إلى نحو 29 تريليون دولار سنة 2024. لكن مع استمرار الاختلال في التوزيع، بجانب هجرة الصناعة التقليدية التي كانت توفر للطبقات الأفقر في الولايات المتحدة فرص عمل جيدة نسبيا، لم يعد أثر التساقط قادرا على استيعاب التفاوت الاقتصادي. ثم صعدت نخبة مستثمري التكنولوجيا لتحل محل أثرياء القطاع المالي الذي ضربته أزمة 2008، وأثرياء القطاع الصناعي الذي انتقل إلى الصين.

عودة ماركس

تُعد الولايات المتحدة، بشكل أو آخر، الإمبراطورية الأكبر في العالم اليوم، وإنْ بنموذج يختلف قليلا عن النماذج التاريخية للإمبراطوريات. فبدلا من السيطرة المباشرة على الأرض، تستعيض الولايات المتحدة عن ذلك بالتحكم الضمني في الموارد عبر قوة عسكرية لا تضاهى، وآليات غير عنيفة بالمعنى المباشر لمصادرة وتمرير الثروة للولايات المتحدة. ومن ثم فإن ما يجري في المركز الإمبراطوري ينعكس على العالم أجمع.

مثلا، قصة التفاوت المتسارع في الثروة في مصر، وتراجع نصيب الطبقات الأفقر منها، هي انعكاس للقصة الأميركية، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك فوارق في تفاصيل الآليات الاقتصادية والسياسية بحكم الفارق الهائل في البنية الاقتصادية بين البلدين، لكن الظاهرة نفسها يمكن رصدها أيضا في أوروبا وحتى بعض دول آسيا الصاعدة.

مصدر الصورة جاء صعود زهران ممداني كمفاجأة سيئة لمسؤولي الشركات الكبرى وأسواق المال في نيويورك الذي وصف بعضهم الأمر بأنه يشبه "السكتة الدماغية" (الفرنسية)

لكن الرأسمالية، مثل كل شيء آخر، تستثير بنفسها نقيضها عبر تحفيز أشكال من المقاومة الاجتماعية لهذا الاختلال. هذا ما يؤدي إلى العودة التي لا تتوقف لطيف ماركس، رغم ما تعرضت له أفكاره عن الاشتراكية من انتكاسات وإخفاقات كبيرة في التجربة السوفياتية والتجارب الاشتراكية الأخرى التي اقتبستها. يطرح هذا سؤالا حول مبررات استعادة ماركس في تلك اللحظة، رغم الإخفاق السياسي لخطته الاشتراكية، وتحديدا فكرته عن سيطرة الدولة على وسائل الإنتاج، وهي سيطرة لم تنجح في تحقيق التفوق الاقتصادي على الرأسمالية، وقادت إلى شكل حديث من الاستبداد السياسي الذي وصم التجربة الاشتراكية بأسرها.

ظلت أفكار ماركس الفلسفية ملتبسة بحكم عدة أمور. أولا، كثير من أعماله الفلسفية الأساسية لم تُنشر في حياته، وإنما عملت روسيا السوفياتية على نشرها لاحقا بعد حصولها على أرشيفه من الحزب الديمقراطي الاشتراكي في ألمانيا. وثانيا، أن ماركس انشغل منذ انتقاله إلى بريطانيا سنة 1849 بدراسة الاقتصاد السياسي والتعليق على الأحداث السياسية، ما سمح له بالقليل من الوقت لدراسة وتطوير أفكاره الفلسفية.

في الواقع، كان ماركس قد وصل إلى لندن بعد فراره من الثورات الفاشلة في الأراضي الألمانية عام 1848، واستقر مع عائلته في حي سوهو الفقير حينها بلندن، وعاش في ظروف يائسة، وفقا لسجلات الهجرة البريطانية ، حيث أُخرِج من شقق متعددة بسبب عدم دفع الإيجار، لكنه تمكن في النهاية من الحصول على عمل بصفته مراسلا أوروبيا لـ"نيويورك ديلي تريبيون"، أكبر صحيفة في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، مما سمح له بالعمل في مكتبة المتحف البريطاني لكتابة أوائل مسودات "رأس المال".

إعلان

ومن ثمَّ فإن كتابات ماركس الفلسفية الأساسية كانت مسودات كتبها في العشرينيات من عمره، وغلب عليها الطابع السجالي الذي يمكن وصفه أحيانا بالطفولية في صراعه مع زملائه السابقين من الفلاسفة الألمان المعروفين بالهيغليين الشباب. لذلك فإن كثيرا مما يُوصَف بأنه فلسفة ماركس هو في الواقع ما جمعه ونظمه الماركسيون لاحقا، خاصة صديقه المقرب فريدريك إنجلز، وتلميذهما الوفي كارل كاوتسكي، والمنظر الأساسي للماركسية الروسية خورخي بليخانوف.

جوهر المادية الماركسية

اعتاد الفلاسفة قبل ماركس أن يروا في الوجود الاجتماعي للبشر انعكاسا للبنية الفكرية التي يؤمنون بها أو يتأثرون بها. كان ذلك طبيعيا في المجتمعات الإقطاعية أو ما قبل الرأسمالية عموما، التي لم تتمايز فيها السلطة الاقتصادية عن السلطة السياسية.

في المجتمعات العربية الإسلامية، مثلا، لم تكن هناك طبقة اقتصادية منفصلة عن السلطة الحاكمة. كانت الأرض هي المورد الأساسي للإنتاج، وتستخرج الدولة نفسها خراجها أو تقطعها لمَن هم مرتبطون بالدولة، سواء كانوا قادة عسكريين أو قادة مدنيين. أما في المجتمعات الإقطاعية الأوروبية، فكانت الأرض ملكا للإقطاعي الذي يملك بنفسه سلطة الحكم في أرضه، ولم يكن الملك منفصلا تماما عن الإقطاعيين بقدر ما كان إقطاعيا كبيرا يقدمه الإقطاعيون فيما بينهم.

في المجتمعات الحديثة، مع صعود الصناعة وتطورها، أو تَشكُّل ما يُعرف بالرأسمالية على أساس الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج والأصول والأراضي، وتوظيف العمال ليس على أساس الانتماء بالولادة في الضيعة أو المقاطعة مثل الفلاحين والأقنان، وإنما على أساس التعاقد الحر بين صاحب رأس المال والعامل، بدأ يظهر أن البنية الاقتصادية هي الأساس الذي تتشكل عليه البنية السياسية والثقافية. هذا ما عناه ماركس بالمادية، أي إن البنية الاقتصادية للمجتمع هي ما يحدد بنيته السياسية والثقافية.

مصدر الصورة في نيويورك، يعود خطاب كارل ماركس وتقديره لقوة الناس إلى الصدارة مع انتخاب زهران ممداني رغم معارضة النخبة السياسية والاقتصادية في المدينة (غيتي إيميجز)

انتقد الكثيرون الماركسية قائلين إنها تختزل الثقافة والسياسة في الاقتصاد، لكنها ظلت فكرة ملهمة لأنها كسرت ستار الحيادية الذي يلتف حول القيم الرائجة والأفكار الدينية السائدة والقوانين والدولة. لقد اعتاد البشر التسليم بهذه القيم والأفكار بوصفها محايدة، لا علاقة لها بالمصالح أو بعلاقات القوة في المجتمع. لكن ماركس كان الفيلسوف الذي انتقد كل شيء، من الأخلاق والدولة والقوانين إلى الفن والدين، ليس من منطلق العدمية، بل على أساس إظهار علاقات القوة التي تحدد كل هذه القيم المثالية. قاد هذا النقد المادي الماركسي، مع تطوره لاحقا على يد بعض المفكرين الفرنسيين، إلى اعتبار كل المعارف البشرية التي تُعد مطلقة معارف مؤسسة على علاقات القوة، وقابلة لإعادة التشكيل.

أسهم الماركسيون اللاحقون، أو "ما بعد الماركسيين"، في نقد الماركسية نفسها، باعتبار أن الاقتصاد ليس هو الشكل الوحيد لعلاقات القوة في المجتمع. حاجج هؤلاء بأن تطور المجتمعات ليس محكوما بخطة تاريخية عقلانية معينة كالانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية. بدلا من ذلك، تخضع البنية الاجتماعية باستمرار إلى عملية إعادة بناء عبر طرح خطاب جديد يُعيد تعريف الهويات والمصالح والقيم الاجتماعية. هذا هو نفسه ما يمثل الفعل السياسي، لذلك يخلص الفيلسوف الأرجنتيني إرنستو لاكلو إلى ما يسميه: "أولوية السياسي على الاجتماعي".

رغم ذلك، فإن الجانب الاقتصادي الذي يمكن أن يُعد اختزاليا لدى ماركس، ظل أساسا قويا لعودته بسبب مركزية القوة الاقتصادية في المجتمعات الحديثة بفعل ما يسمى بالرأسمالية، أي قدرة أصحاب رؤوس الأموال على مضاعفة رؤوس أموالهم باستمرار، ومن ثمَّ اكتساب مزيد من النفوذ السياسي الذي يُمكِّن هذه الطبقة من التأثير على الدولة. وهذا الظرف التاريخي كما شرحناه يجعل البنية الاقتصادية بالفعل ليست محددا للواقع الاجتماعي، لكن قوة إزاحة وخلخلة مستمرة للبنية الاجتماعية تفتح الباب أمام تغيرات سياسية وثقافية مختلفة، وعند كل إزاحة أو خلخلة جديدة، تجري استعادة ماركس بوصفه الرجل الذي قال إن الاقتصاد سيفعل ذلك.

ماركس وأميركا.. السياق التاريخي

وُصِفَت أميركا كثيرا بأنها البلد الذي وُلِد حُرًّا، بالنظر إلى أن المجتمع الأميركي لم يمر بالمرحلة الإقطاعية على غرار أوروبا، وإنما بدأ مباشرة بمجتمع الملكية الخاصة الذي يملك فيه كل أميركي أبيض أرضه أو مزرعته، أو لا يخضع على الأقل لسلطة أي إقطاعي. ومن ثمَّ فقد عُدَّت الملكية الخاصة مُقدسة بالنسبة للأميركيين، ونُظِر إلى أي تدخل من الدولة في الحياة الاقتصادية أو الاجتماعية على أنه تهديد مباشر لحرية الفرد وتقاليد المجتمعات المحلية.

إعلان

ولذا، لم تلقَ أفكار ماركس ترحيبا واسعا في المجتمع الأميركي، على غرار الترحيب الذي لاقته في المجتمعات الأوروبية والجنوب العالمي في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.

لكن ليس صحيحا أن الماركسية غابت تماما عن الولايات المتحدة، فالبلد الذي وُلد متحررا من الإقطاع وُلد أيضا منقسما اجتماعيا واقتصاديا بين شمال صناعي وجنوب زراعي. اشتهر الشمال بمدنه الكبرى مثل بوسطن وفيلادلفيا وخاصة نيويورك، التي أصبحت المركز التجاري الأهم. أما الجنوب فاعتمد في المقابل على نظام العبودية العنصري وإنتاج القطن بجانب التبغ والأرز والحبوب.

وللتوضيح، فحين نتحدث عن الولايات المتحدة في لحظة مولدها، نتحدث فقط عن الساحل الشرقي الأميركي المطل على المحيط الأطلنطي، الذي تَشكَّل وقتها من 13 ولاية فقط، يقع بعضها في الشمال المعروف بإنجلترا الجديدة مثل ولاية ماساتشوستس، بينما يقع بعضها في الجنوب مثل ولايات ماريلاند وفرجينيا وجورجيا، بينما تقع في الوسط أربع ولايات أهمها نيويورك وبنسلفانيا.

كان المزارعون في الجنوب يعتمدون على اليد العاملة الرخيصة التي يوفرها نظام العبودية العنصري، وكان ذلك يوفر فرصة للجنوب لمراكمة أرباح ضخمة بالنظر إلى انخفاض تكاليف العمالة وتصدير القطن والمحاصيل إلى أوروبا. في المقابل كان الشمال يعاني من سياسات التجارة الحرة، لأن الصناعة الناشئة في الشمال كانت بحاجة إلى حماية جمركية من المنافسة مع المنتجات الأوروبية.

أدى هذا الصراع الممتد بين الشمال والجنوب إلى الحرب الأهلية الأميركية الطاحنة التي دامت أربع سنوات (1861-1865) بعد قرار أبراهام لينكولن سنة 1861 بإلغاء العبودية، وقُتل فيها أكثر من نصف مليون شخص، ودُمّر فيها الجنوب. وقد أعقب هذه الحرب على مدى ثلاثة عقود ازدهار شديد للصناعة والتجارة في الشمال فيما عُرِف بالعصر المذهب (Gilded Age).

ظهور الاشتراكية الأميركية

كما أشرنا سابقا، فإن الازدهار الرأسمالي وما يُحدثه من خلخلة اجتماعية يستثير المقاومة. وقد تشكلت بالفعل حركة اشتراكية أميركية سنة 1876، وبعد سلسلة من الصراعات الفكرية، خضعت الحركة للنفوذ الماركسي عبر المفكر الماركسي الأميركي دانيال دي ليون.

ورغم تشرذمها الفكري، استفادت الحركة الاشتراكية في الولايات المتحدة مما عُرف بعصر الإصلاحات أو العصر التقدمي بين عامي 1890-1915، عندما حاولت قوى سياسية عديدة في الولايات المتحدة وضع قيود على الرأسمالية المتنامية واستعادة نفوذ الجنوب الأميركي بعد الهزيمة في الحرب الأهلية.

في ذلك الوقت، صعد القيادي الاشتراكي الأبرز في تاريخ الولايات المتحدة، يوجين ديبس، الذي قاد الحزب الاشتراكي الأميركي وترشح عدة مرات لرئاسة الولايات المتحدة. حصل على 0.6% من الأصوات في عام 1900، لكن في عام 1912 حصل على 6% من الأصوات الشعبية، وهي أعلى نسبة حققها أي مرشح اشتراكي في التاريخ الأميركي، وحصل في انتخابات سنة 1920 على أكثر من 3% من الأصوات بينما كان في السجن!

مصدر الصورة خاض المفكر والقيادي الاشتراكي يوجين ديبس انتخابات الرئاسة الأميركية خمس مرات كان آخرها وهو في السجن (غيتي إيميجز)

بعد الحرب العالمية الأولى وقيام الاتحاد السوفياتي، حانت الفرصة مجددا لازدهار ماركس في الولايات المتحدة. وقد تحقق هذا عبر تأثر المفكرين الأميركيين السود، مثل ويليام إي بي دي بويس، بالأفكار الماركسية في قراءتهم للعنصرية في الولايات المتحدة. وقد أدت كذلك هجرة أعداد كبيرة من اليهود إلى الولايات المتحدة إلى انتشار الماركسية، خاصة التيار التروتسكي، في جامعات مدينة نيويورك حيث تمركز المهاجرون اليهود.

هذه المجموعة من الماركسيين التروتسكيين اليهود في نيويورك، من أمثال إرفينغ كريستول ودانيال بِلّ، كان لها دور تاريخي في الثقافة والسياسة الأميركية. التقيا في أحياء نيويورك الفقيرة، وناقشا الماركسية وانتقدا الحكومة الأميركية من منصة الجامعة. لكن بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، تحول كثير من هؤلاء الماركسيين الشباب تدريجيا نحو اليمين، لتأسيس ما عُرِف لاحقا بـ"المحافظين الجدد"، الذين كان لهم دور حاسم في تقريب الولايات المتحدة من إسرائيل والسياسة الخارجية الأميركية.

تأثر المفكرون الليبراليون الأميركيون، مثل الفيلسوف الأميركي الأبرز جون ديوي، بهذا الازدهار الماركسي، وتبنى ديوي ما يُعرف بـ"الليبرالية الاجتماعية"، التي يمكن وصفها بأنها نسخة من الليبرالية ترى ضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية بجانب الحرية الفردية، مع رفض الاشتراكية التي رأى أنها لا تلقى قبولا في الولايات المتحدة، حيث رأى أن وصف الاشتراكية يعبر عن سيطرة الدولة على الاقتصاد بشكل يهدد الديمقراطية.

جاء الحضور الفكري الأبرز للماركسية في ذلك الوقت على يد فيلسوف أميركي ليبرالي بارز هو سيدني هوك، الذي نشر كتابه الأساسي "نحو فهم كارل ماركس" سنة 1933، وحاول فيه أن يقدم فلسفة ماركس بوصفها فلسفة متوافقة مع الديمقراطية وليست خصما لها.

اقترح هوك قراءة جديدة لماركس تركز على الجانب الإجرائي والعملي بدلا من الحتمية التاريخية. وأسهم هوك في إعادة ماركس إلى الثقافة الأميركية عندما عقد ندوة في نيويورك جمعت أستاذه جون ديوي والفيلسوف الإنجليزي البارز برتراند راسل والمفكر الأميركي موريس كوهين لمناقشة كتابه، وصدرت أعمال الندوة في كتاب بعنوان "معنى ماركس".

الرِّدَّة الفكرية

عانت الاشتراكية والماركسية في الولايات المتحدة بشدة بعد الحرب العالمية الثانية لسببين. أولا، الرفض الأميركي الجذري للشيوعية في ظل الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي، خاصة في الخمسينيات.

وثانيا، تبنّي الحزب الديمقراطي سياسة اجتماعية تستهدف محاربة الفقر في الولايات المتحدة، مما قلّل من جاذبية الأفكار الاشتراكية والماركسية في البلاد. وقد كتب دانيال بِلّ سنة 1952 يصف التحولات في المجتمع الأميركي التي حالت بين الأفكار الماركسية وبينه.

ومع ذلك، زاد النفوذ اليساري في الجامعات الأميركية، بفعل انتقال عدد من المفكرين اليساريين الألمان إلى جامعات مهمة وذات اتجاه نقدي مثل جامعة كولومبيا، ومشاركتهم مع الجامعة في تأسيس العمل الاستخباري الأميركي ضد ألمانيا النازية أثناء الحرب العالمية ثم الاتحاد السوفياتي بعد الحرب.

ومن أبرز هؤلاء ماكس هوركهايمر وتوماس أدورنو وهربرت ماركوز، حيث تحول الأخير إلى رمز فكري لحركات التمرد في الولايات المتحدة. ولاحقا صعدت وجوه نقدية بارزة في الجامعات الأميركية تتبنى فكرا قريبا من اليسار، مثل نعوم تشومسكي، وإدوارد هرمان، وإقبال أحمد، وهوارد زن، وإدوارد سعيد.

من ماركس إلى ممداني.. رحلة اليسار الجديد

عام 1982، أسس مايكل هارينغتون حركة الديمقراطيين الاشتراكيين في أميركا بعد سنوات من انفصاله عن الحزب الاشتراكي.

آمن مايكل هارينغتون بأن السبيل الواقعي الوحيد للاشتراكيين في أميركا هو العمل من داخل الحزب الديمقراطي، لكن على مدى عقود ظلت الحركة هامشا لا يُذكر داخل الحزب الديمقراطي الذي نحا بمرور الوقت منحى نيوليبراليا انحسرت معه أي ميول اشتراكية، لكن الأزمة المالية العالمية عام 2008، ثم حملة بيرني ساندرز الرئاسية سنة 2016، ساعدا الديمقراطيين الاشتراكيين على استعادة حضورهم في الحزب الديمقراطي، وكان زهران ممداني واحدا من هؤلاء الشباب الذين التحقوا بالحركة في ذلك الوقت، حاملين معهم أفكار ما يعرف باليسار الجديد.

كان صعود اليسار الجديد بعد الأزمة المالية العالمية متأثرا بأفكار الفيلسوف الأرجنتيني إرنستو لاكلو وزوجته الفيلسوفة البلجيكية شانتال موف، خاصة أطروحتهما عن ضرورة تشكيل شعبوية يسارية، وهو ما تأثر به جيل جديد من النشطاء اليساريين من بينهم نشطاء حملة زهران ممداني في نيويورك.

يصف لاكلو وموف فكرهما بأنه ما بعد ماركسي، ويشرح لاكلو في كتابه "تأملات جديدة في الثورة لزماننا"، مشيرا إلى التعارض بين مفهومين للتناقض الرأسمالي عند ماركس. الأول ذو طابع سياسي ويظهر في "البيان الشيوعي"، حيث يتحدث ماركس عن الصراع الطبقي بين العمال والرأسماليين.

والثاني يظهر في مقدمة كتاب ماركس "نقد الاقتصاد السياسي"، حيث يرى ماركس أن التحول الاجتماعي يحدث عندما تتحول علاقات الإنتاج (المنظومة الاقتصادية التي يسيطر عليها الرأسماليون) إلى حائل دون تطور قوى الإنتاج (العمال)، أي قدرة قوى الإنتاج على تنظيم نفسها في علاقات إنتاج جديدة أو منظومة اقتصادية مختلفة أكفأ من المنظومة الرأسمالية.

هذا التناقض يأخذ طابعا اقتصاديا أو بنيويا، أي لا يتعلق بالإرادة السياسية للفاعلين. المسألة ليست أن العمال يقررون الثورة، وإنما أن المنظومة الاقتصادية تتغير من داخلها، وبغض النظر عن قرار العمال بالثورة السياسية. يقود هذا إلى صعوبات نظرية وعملية كثيرة، فكيف يمكن التحديد أن لحظة الثورة قد حانت؟ وهل يعني ذلك أن العمال ليسوا أصلا في صراع طبقي مع الرأسماليين إلا في اللحظة التي تصبح فيها علاقات الإنتاج أو المنظومة الرأسمالية حائلا دون زيادة الإنتاج أو تطور قوى الإنتاج (العمال)؟

يخلص لاكلو إلى أن البنية الاجتماعية في الواقع بنية منفتحة على تأثير عوامل خارج الترتيبات الاجتماعية والاقتصادية، مثل العامل الفكري أو السياسي، فالبنية الاجتماعية تتخلخل بفعل عامل يأتي من خارجها، كحرب تداهمها أو كارثة طبيعية مثلا.

والخارج هنا عامل يُشكِّل البنية ويخلخلها، ويسمح للفاعل الاجتماعي كالحركة السياسية أو الفرد بإعادة تشكيل المجتمع وفقا لخطاب جديد وعلاقات قوة جديدة، ولذلك فإن المجتمع دوما قيد التشكل، وقابل لإعادة التشكيل، عبر فعل سياسي يُعيد تشكيله بخطاب أو رؤية ليست مطلقة أو جاهزة، وإنما تتشكل في إطار الصراع نفسه، وتستوعب المطالب الاجتماعية القائمة وتعيد تنظيمها وتشكيلها.

لنأخذ مثالا من حالة ممداني نفسها. لقد تخلخلت المنظومة الاجتماعية والاقتصادية في الولايات المتحدة بفعل مجموعة عوامل، من بينها هجرة الصناعة التي كانت توفر فرص عمل جيدة، خاصة في وسط أميركا بين شقيها الشرقي والغربي، كما أدى تقليص الإنفاق الاجتماعي إلى زيادة الفقر في بعض ولايات الجنوب الأميركي ، مثل ولايات نيو مكسيكو ولويزيانا التي تتجاوز نسبة الفقر فيها 18%. لا يؤدي ذلك إلى ثورة العمال مباشرة أو بناء الاشتراكية كوصفة جاهزة، وإنما يفتح الباب أمام فاعلين يطرحون خطابات جديدة تسعى لإعادة تشكيل المنظومة الاجتماعية.

مصدر الصورة صعود ممداني في نيويورك يعكس تمظهرًا جديدًا للماركسية لا يتقيد بالنظرة النمطية لحتمية ثورة العمال (أسوشيتد برس)

في هذا المشهد صعدت حركات مثل ماغا (Make America Great Again) التي يقودها الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب. تتبنى هذه الحركة خطابا يخلط بين مطلبين متناقضين، فهي تقبل المظالم الاقتصادية للطبقات الشعبية الفقيرة في الولايات المتحدة، لكنها تقول إن هذه المظالم ليست نابعة من اختلال توزيع الثروة بالأساس، وإنما تنبع أيضا من زيادة أعداد المهاجرين وانفتاح السوق الأميركية على السلع الصينية والأوروبية بشكل يضر بالاقتصاد الأميركي.

تربط هذه الحركة هذه العوامل الاقتصادية بصعود مجموعة من الساسة والمثقفين ذوي الميول العالمية "غير الوطنية"، الذين يؤيدون أيضا أفكارا معادية لما يقولون إنه الثقافة الأميركية التقليدية، مثل الترحيب بالتنوع الديني والعرقي وتشجيع الحريات الجنسية والمساواة بين الجنسين.

أعادت حركة "ماغا" تشكيل المنظومة الاجتماعية عبر خطاب يقوم على مظلومية "الرجل الأبيض متوسط الحال" في الولايات المتحدة، وحددت عدوا واضحا له: المعولمين. وجمعت مجموعة من المطالب الاجتماعية تحت شعار "لنجعل أميركا عظيمة من جديد"، الذي يمكن ترجمته في هذه الحالة: لنجعل الموارد الأميركية حكرا لأهلها الأصليين البيض من جديد.

في المقابل، أتاح المشهد نفسه فرصة لصعود اليسار الجديد. ولا يطرح هذا اليسار وصفة اشتراكية ماركسية جاهزة على طريقة الاتحاد السوفياتي، بل يطرح خطابا ينطلق مما سمّاه لاكلو وموف بـ"الديمقراطية الجذرية" (radical democracy).

تعني الديمقراطية عمليا وبالأساس الحق في المشاركة السياسية الحرة لجميع المواطنين. لكن في نظر لاكلو وموف وغيرهما من اليساريين، ومن قبلهم ماركس بالطبع، فإن المشاركة السياسية لا تكفي لتحقيق العدالة، لا بد من حد أدنى من المساواة الاقتصادية أو إعادة توزيع الثروة بما يقلص التفاوت الطبقي.

ويزيد اليساريون الجدد كذلك أمرا آخر، وهو أن من الضروري أن تمتد الديمقراطية إلى الجانب الثقافي، بحيث لا يقع أي تمييز في المشاركة مثلا بين البيض والسود، وبين المسلمين واليهود من جهة والمسيحيين من جهة أخرى، وبين الرجال والنساء، وليس أيضا بين أصحاب الميول الجنسية الغيرية وما يسمى بمجتمع الميم (LGBTQ).

هذه الرؤية الديمقراطية الجذرية تستهدف إعادة تشكيل المجتمع وفق مطالب تتفق وتختلف مع المطالب التي تطرحها حركة "ماغا"، لكنها ترفع شعارا مختلفا، ما يسميه لاكلو "الدال الفارغ أو العائم" (floating signifier)، أي الكلمة التي لا تدل على معنى محدد، وإنما يمكن تغيير محتواها.

فممداني، الذي فاز بمنصب عمدة نيويورك في الانتخابات العامة في 4 نوفمبر/تشرين الثاني 2025 بـ 50.4% من الأصوات، يرفع شعار "القدرة على تحمل مصاريف المعيشة" (affordability)، ويضع تحت ذلك مطالب اقتصادية تتعلق بإيجارات السكن وأسعار المواصلات والسلع الغذائية، ويعد بمواصلات مجانية، وحضانات عامة مجانية، وتجميد أسعار الإيجارات، وبناء 200 ألف وحدة سكن ميسورة تكلفة.

لكن ممداني أيضا يجعل ضمن خطابه المساواة بين المهاجرين والملونين والمسلمين من جهة، وبين الأميركيين البيض من جهة أخرى. وبينما تحدد شعبوية "ماغا" عدوا لها، ما تسميه المعولمين، تحدد شعبوية ممداني اليسارية عدوا لها، ما تسميه "فاحشي الثراء" (the ultra-wealthy, oligarchs)، وهو اللفظ الذي استخدمه بايدن للمفارقة في خطابه الوداعي.

من هنا يُمكن أن نفهم كيف أدت خلخلة البنية الاجتماعية الأميركية بعد عام 2008 إلى ظهور حراكيْن سياسيَّيْن كان من الصعب تخيّل وصولهما إلى البيت الأبيض أو إلى عمودية نيويورك قبل عشرين سنة، الأول هو حركة "ماغا" التي أوصلت ترامب إلى الرئاسة، والحراك الديمقراطي الاشتراكي الذي أوصل ممداني إلى منصب عمدة نيويورك، المدينة التي تُعد القلب النابض للرأسمالية العالمية.

ومن هنا يُمكننا أن نفهم كيف أمكن للاشتراكية أن تصبح فاعلا سياسيا حقيقيا في المدينة الرأسمالية الأكبر بالعالم، وكيف عاد شبح ماركس، لا باعتباره نبيًّا للحتمية التاريخية، بل بوصفه محللا لعلاقات القوة وفاضحا للقناع الذي يغطي الحياد الزائف للدولة والقوانين والأفكار.

لقد أدرك الأميركيون الذين صوّتوا لممداني أن الثروة المتزايدة لـ"الواحد بالمئة" لا تترك قليلا لا يُذكر لـ"التسعة وتسعين بالمئة"، بل تأخذ من أفقهم وحاضرهم ومستقبلهم. ولم تعد حجة التساقط التي تَعِدُ بازدهار القاعدة حين تصبح القمة ثرية كافية لإقناع الجمهور بعدالة السياسات الاقتصادية. كانت نيويورك، عاصمة الرأسمالية العالمية، هي الساحة التي اختيرت لهذا الصراع الجديد حول شكل الديمقراطية وتوزيع الثروة.

وبينما يقف إيلون ماسك على أعتاب الحصول على تريليون دولار يضيفها إلى ثروته لتجعله أغنى من سويسرا أو إندونيسيا، يختار سكان أكبر مدينة أميركية عمدة شابا من أصول أفريقية وآسيوية، مسلما ومحسوبا على الحركة الاشتراكية، يَعِدُ بتجميد الإيجارات وحافلات مجانية. ربما لم يتنبأ ماركس بهذا المشهد بالضبط، لكنه كان يعرف أن الرأسمالية، باعتبارها سلطة أمر واقع، وبكل تناقضاتها، تخلق شكل مقاومتها، وتولِّد بنفسها القوى السياسية التي تستطيع أن تعارضها، والدليل الحي هو ما نشهده في نيويورك في خريف عام 2025.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا