آخر الأخبار

رأي.. إردام أوزان يكتب: الشرق الأوسط.. ذاكرة بلا تعلّم

شارك
مصدر الصورة Credit: Gettyimages

هذا المقال بقلم الدبلوماسي التركي إردام أوزان *، سفير أنقرة السابق لدى الأردن، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN .

الشرق الأوسط يتذكر كل شيء، لكنه يتعلم القليل. بعد 50 عامًا من حرب 1973 وحظر النفط -الذي رسّخ تفاهم النفط مقابل الأمن بين المنتجين الإقليميين والقوى الغربية- بات الهيكل الذي بُني في تلك اللحظة يتشقق. الدولة الريعية، و ال دولة الأمنية، و"النظام الإقليمي" الذي تقوده الولايات المتحدة، قُدمت جميعها كضمانات للاستقرار.

اليوم، تتعرّض هذه الركائز نفسها لضغوط. قرار جديد لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بشأن غزة يضع إطارًا لـ"مسار" نحو إقامة دولة فلسطينية من خلال قوات حفظ استقرار خارجية، وترتيبات انتقالية، ووعود مشروطة. في سوريا والسودان واليمن وليبيا، أصبح انهيار الدولة أمرًا طبيعيًا.

تعزّز روسيا وإيران أدوارهما من خلال الحروب، والوكلاء، ومساومات تُعقد فوق رؤوس المجتمعات المحلية. والمفارقة قاسية: الهشاشة ليست جديدة، ومع ذلك تعيد الخيارات السياسية نفسها إنتاجها باستمرار.

من الريع النفطي إلى الدول الهشة

الرّيع عزز الولاء، لكنه أيضًا خلق الهشاشة. خصصت الأنظمة الملكية الدعم. وأنشأت الأنظمة العسكرية دولًا أمنية. وأعاد الحلفاء الخارجيون تدوير عائدات النفط وقدموا ضمانات أمنية. أُدرج المواطنون في "صفقة ريعية": قبول حقوق محدودة وإقصاء سياسي مقابل الرعاية الاجتماعية الأساسية، والوظائف، والشعور بالحماية. كانت الشرعية معاملاتية، وليست دستورية.

لكن الريع خلق التبعية. وعرقل التنوع الاقتصادي. ورسخ تحالفات الحكم وشبكات المحسوبية. وعندما تراجعت الإيرادات، انهارت الصفقة. كانت الحرب الأهلية اللبنانية بمثابة إنذار مبكرة. واليوم، تكشف سوريا والسودان واليمن وليبيا عن النمط نفسه: بمجرد انهيار الصفقة الريعية أو شبه الريعية، تنهار الدولة. الهشاشة لم تعد استثناءً، بل أصبحت القاعدة.

كان الدرس واضحًا: لا يمكن للرّيع أن يحل محل المؤسسات أو التمثيل أو حكم القانون. ومع ذلك لا تزال الحكومات تتمسك بالدعم، والقرارات المالية الغامضة، والقمع، وكأن التاريخ لم يثبت حدودها. الفساد لا يزال منتشرًا، بل ويستمر في النمو. وتُظهر أزمة الديون في المنطقة كيف أن الإصلاحات المالية التي تُفرض دون شرعية لا تؤدي إلا إلى تعميق انعدام الثقة. المواطنون يطالبون بالعدالة والحقوق والمساءلة وليس بالمساعدات.

الأسعار أعلى في جميع القطاعات بما فيها الغذاء، والوقود، والإسكان، والخدمات. التضخم يثقل كاهل الأجور والمدخرات. الدعم الحكومي أقل، مثقل بالديون والتقشف. في سبعينيات القرن الماضي، أدى الريع إلى زيادة الاستهلاك. اليوم، النهج نفسه يصطدم بتكلفة الأساسيات وتناقص الدخل. نموذج السبعينيات لا يمكنه الصمود أمام أسعار عشرينيات القرن الحالي.

الصدمات المناخية تعمق الهشاشة. كان النفط في الماضي يدعم أسطورة النمو. الآن، الحرارة تدمرها. نقص المياه يهدد الزراعة. ويتفاقم انعدام الأمن الغذائي. والمواطنون يرون حكوماتهم غير مستعدة، أو غير راغبة، أو غير قادرة على حمايتهم. ويستمر تراجع الثقة.

التشديد المالي يزيد الوضع سوءًا. وارتفاع أسعار الفائدة يؤدي إلى زيادة الديون، بينما يدفع رؤوس الأموال إلى الهروب، وتفقد العملات قيمتها.

يُلحق التقشف الضرر بالفقراء في الغالب، ويُبقي النخب محمية. ويمكن أن تنهار الدول الهشة بسرعة إذا توقفت المساعدات الخارجية أو الدعم الأمني. تختفي القدرة على الصمود بين عشية وضحاها. حدثت هذه الدورة من قبل في المنطقة، التي ترفض بعناد تغيير اقتصادها السياسي.

من السيطرة السلطوية إلى الشرعية المجزّأة

القمع أسكت المعارضة، لكنه لم يعالج الضعف أبدا.

أظهرت الأنظمة العسكرية القوة من خلال الأجهزة الأمنية وحكم الحزب الواحد. وعززت الملكيات شرعيتها الأسرية عبر التعددية الخاضعة للرقابة. جرى تجريم المعارضة أو نفيها. ارتبط الاستقرار بالإكراه بدلا من الشمول.

لكن السيطرة لم تمنح سوى وهم الاستقرار. عندما فشلت الأنظمة السلطوية، ظهرت المظالم إلى العلن. وعكس انهيار سوريا وصراع السودان وانقسام اليمن وعدم استقرار ليبيا، سيادة منهارة وشرعية مفقودة. الحدود تبقى على الخرائط، لكن السلطة تتداعى على الأرض.

الشرعية أصبحت الآن أمرًا بالغ الأهمية. كانت فيما مضى صفقة تعتمد على الولاء. أما اليوم، فهي معيارية تضم الشمول والمساءلة والشفافية والعدالة. المواطنون يطالبون بالمصداقية. وبدونها، تنهار القدرة على الصمود.

تفاقم التعددية القطبية هذا التناقض. فبينما تبدو القدرة على الاستقلال أكبر في الشكل إلا أنها أضعف في الجوهر. لا تزال الولايات المتحدة ذات نفوذ، وتنافس روسيا والصين لاكتساب النفوذ، ويتمتع اللاعبون الإقليميون مثل تركيا وإيران والسعودية والإمارات وإسرائيل وقطر بنفوذ كبير. المنطقة تواجه خيارات أكثر ولكن بسيادة أقل. تتوزع القوة، وتبقى الشرعية هشة.

تركيا مثال على التحول من الأطراف إلى المركز. تتواصل مع الجيران من خلال ممرات الطاقة وتسهيل التجارة ومبادرات إعادة الإعمار والدبلوماسية الإنسانية. وترى نفسها جسرا.

ومع ذلك، فإن التضخم وتقلبات العملة وديناميكيات السياسة الداخلية تحد من طموحاتها. تركيا لديها أهمية لكنها لا تستطيع حل التشرذم الإقليمي وحدها. دورها هو الشراكة لا الهيمنة.

روسيا وإيران تحولان الصراع إلى نفوذ. روسيا تعزز نفوذها في المنطقة وتتفاوض في قضايا متنوعة. شبكات حلفاء إيران تحول الأزمات الداخلية إلى مفاوضات إقليمية. الحرب تصبح دبلوماسية بوسائل أخرى. والمجتمعات تدفع الثمن.

خطط غزة الجديدة، مثل السلطات الانتقالية وقوات حفظ الاستقرار وحزم الدعم الاقتصادي، معرضة لتكرار النمط نفسه: الأمن أولًا، الشرعية لاحقًا. أموال دون مؤسسات. مشاريع دون سيادة. سلام دون عدالة.

بعد خمسين عاماً من حرب 1973، تواجه المنطقة مرة أخرى نقطة تحول حاسمة، لكن مع دول أضعف، وتفاقم تحديات المناخ، وزيادة الديون، ومجتمعات أكثر انقسامًا. تكلفة تكرار الاستراتيجيات القديمة -مثل الريعية دون إصلاح، والأمن دون شرعية، أو خطط السلام دون عدالة- أصبحت اليوم أعلى بكثير.

الشرق الأوسط.. ذاكرة بلا تعلم

ثروات النفط وعدت بالازدهار، لكنها خلقت التبعية.

الحكم السلطوي وعد بالاستقرار، لكنه أنتج التشرذم.

التعددية القطبية وعدت بالاستقلالية، لكنها تكشف عن ضعف. القوة تتضاعف، والثقة تتضاءل.

الدَّرس بسيط: بدون شرعية، تنهار القدرة على الصمود. بدون تعاون قائم على العدالة، يزداد التشرذم عمقًا. بدون ثقة، يستحيل تحقيق الازدهار.

الشرق الأوسط لا يعاني من فقدان الذاكرة. بل يعاني من التكرار. يتذكر كل حرب، وكل انقلاب، وكل إصلاح فاشل.

يعرف الحقيقة، لكنه يرفض العمل بها.

الخطر ليس في الجهل، بل في ذاكرة بلا تعلم، في تاريخ بلا تحوُّل.

* نبذة عن الكاتب:

إردام أوزان دبلوماسي تركي متمرس يتمتع بخبرة 27 عامًا في الخدمة الدبلوماسية. وقد شغل العديد من المناصب البارزة، بما في ذلك منصبه الأخير كسفير لدى الأردن، بالإضافة إلى مناصب في الإمارات العربية المتحدة والنمسا وفرنسا ونيجيريا.

ولد في إزمير عام 1975، وتخرج بمرتبة الشرف من كلية العلوم السياسية بجامعة أنقرة. واكتسب معرفة واسعة بالمشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الشرق الأوسط، حيث قام بتحليل تعقيدات الصراعين السوري والفلسطيني، بما في ذلك جوانبهما الإنسانية وتداعياتهما الجيوسياسية.

كما شارك في العمليات الدبلوماسية المتعددة الأطراف، وتخصص في مجال حقوق الإنسان والتطورات السياسية الإقليمية. وتشمل مساهماته توصيات لتعزيز السلام والاستقرار من خلال الحوار والتفاوض بالتعاون مع المنظمات غير الحكومية والمنظمات الدولية. ويواصل حاليا دراساته عن الشرق الأوسط بينما يعمل مستشارا.

سي ان ان المصدر: سي ان ان
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا