هذا المقال بقلم شارل ميشيل، الرئيس السابق للمجلس الأوروبي ورئيس وزراء بلجيكا السابق، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN .
تقف أوروبا اليوم عند مفترقٍ حاسم من تاريخها، وسط عالمٍ تتسارع فيه الأزمات والتحوّلات، وتتعاظم فيه التحدّيات من اضطرابٍ جيوسياسيٍّ، وانقساماتٍ داخلية، وأزماتٍ مناخية تهدّد حاضر البشرية ومستقبلها. وفي خضمّ هذه العواصف، تبدو أوروبا مطالَبة بأن توازن بين أولويّتين متكاملتين: الحفاظ على سيادتها واستقلال قرارها من جهة، وتعزيز حضورها وانخراطها البنّاء في العالم من جهة أخرى .
إنّ أكبر ما يواجه الدبلوماسية وجهود بناء السلام في عصرنا هو تآكل الثقة بين الأمم والمؤسسات والشعوب. ونحن في أوروبا نملك تجربة فريدة في المصالحة، فقد نهضت قارتنا من رماد الحرب، وتعلّمت من مآسيها معنى البناء على أنقاض الانقسام. ومن هذا الإرث، علينا أن نتحرّك مجدداً كوسيطٍ صادقٍ من أجل السلام، وأن نستعيد شجاعتنا في الحوار، ولا سيّما مع منطقةٍ حيويّةٍ وهشّةٍ في آنٍ واحد كمنطقة الشرق الأوسط .
لقد شكّل توقيع وثيقة الأخوّة الإنسانيّة في أبوظبي عام 2019، بين قداسة البابا الراحل فرنسيس وفضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيّب شيخ الأزهر الشريف، علامةً فارقة في مسيرة السلام العالمي. فهي ليست مجرّد وثيقة دينية أو سياسية، بل إعلانٌ إنسانيٌّ عميق يقدّم للعالم رؤيةً جديدة لمستقبل العلاقات بين البشر. رسالتها بسيطة في ظاهرها، عظيمة في جوهرها: الحوار هو السبيل، والتعاون هو السلوك، والتفاهم هو المنهج. وهي تذكّرنا بأنّ العالم قادرٌ على تحويل الدبلوماسية الباردة إلى تواصلٍ إنسانيٍّ صادق، قائمٍ على الاحترام والمنفعة المتبادلة، في أوروبا وخارجها .
ويواجه العالم اليوم، أكثر من أي وقت مضى منذ عام 1945، مزيجاً غير مسبوقٍ من الصدمات والأزمات المتلاحقة التي تقلب موازين الاستقرار رأساً على عقب. وفي مثل هذه اللحظات، يسهل الانغلاق على الذات والانجرار وراء الأنانية القومية أو المصلحة الضيّقة. غير أنّ وثيقة الأخوّة الإنسانيّة تُعيد إلى الأذهان حقيقةً بديهيةً مفادها أنّ القيادة الحقيقية تبدأ بالشجاعة الأخلاقية، وأنّ السلام لا يُفرض بالقوة، بل يُبنى على أساس الكرامة والثقة والإنسانية المشتركة .
لقد استمدّت أوروبا قوتها عبر التاريخ من قدرتها على بناء الثقة وصناعة الحلول المبدعة وتفعيل أدوات القوّة الناعمة. واليوم، آن الأوان لتستعيد هذه الصفات، ولتتذكّر أنّ التأثير الحقيقي لا يتحقّق بالهيمنة، بل بالقدرة على جمع المختلفين حول رؤيةٍ مشتركة .
إنّ التمسّك بقيم الأخوّة الإنسانيّة يمكّن أوروبا من تجاوز الحسابات الجيوسياسية الضيّقة، لتكون جسراً بين الشعوب لا طرفاً في الصراعات. وهذا يعني أن تتعامل مع الجميع باحترامٍ متبادل، وأن تدعم مبادرات السلام الشعبية، وأن تقود بسياسةٍ قوامها التعاطف لا المساومة، والإنصات لا الإملاء .
وتشكّل قيم الأخوّة الإنسانيّة مصدر إلهام للقادة حول العالم. حين جلس البابا فرنسيس والإمام الأكبر أحمد الطيّب – وهما قائدا أعرق مؤسّستين دينيتين في العالم، الفاتيكان والأزهر الشريف – جنباً إلى جنبٍ في صرح المؤسس بأبوظبي ليوقّعا الوثيقة، انفتح فصلٌ جديد في التاريخ الإنساني الحديث. لقد حمل ذلك المشهد رسالةً بليغة إلى العالم: آن الأوان لأن نبني الفهم المتبادل، لا أن نكتفي بإدارة الخلافات .
ومنذ ذلك الحين، ألهمت الأخوّة الإنسانيّة مبادراتٍ إنسانيةٍ كبرى، من أبرزها جائزة زايد للأخوّة الإنسانيّة، وهي جائزةٌ عالميةٌ مستقلة تُمنح سنوياً للأفراد والمنظمات التي تعمل بإخلاصٍ من أجل تعزيز التعايش والسلام والتقدّم الإنساني. وقد أُطلقت الجائزة عقب توقيع الوثيقة، وكان الإمام الأكبر والبابا الراحل أول مَن نالها تكريماً شرفياً .
يشرفني أن أكون أحد أعضاء لجنة التحكيم الستّة للجائزة لعام 2026، حيث نطّلع على مئات الترشيحات لأشخاصٍ عاديين يقومون بأعمالٍ استثنائيةٍ في خدمة الإنسانية .
وفي الرابع من فبراير 2026، في الذكرى السابعة لتوقيع الوثيقة، سنجتمع في صرح المؤسس بأبوظبي لتكريم الفائزين في النسخة السابعة من الجائزة، احتفاءً بأبطالٍ حقيقيين يعملون بصمتٍ من أجل الخير العام .
آمل أن يتجاوب القادة والشعوب حول العالم – في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا والأمريكيتين وآسيا وأوقيانوسيا – مع صانعي التغيير الصامتين والأبطال غير المعروفين الذين يضعون الصالح العام فوق المصالح الشخصية أو السياسية، ويخدمون المجتمع أولاً. إن تكريم الفائزين بجائزة زايد للأخوّة الإنسانيّة لعام 2026 لا يهدف إلى الاحتفال فحسب، بل دعوة للجميع للقيادة بالقيم الإنسانية والثقة الراسخة .
في عالمٍ يزداد اضطراباً، تظلّ الأخوّة الإنسانيّة – بما تجسّده من قيم الاحترام والتضامن – أعظم ما نملكه من أدواتٍ وأقوى ما نرجوه من مصادر الأمل والهداية نحو مستقبلٍ أكثر إنسانيةً وعدلاً وسلاماً .
المصدر:
سي ان ان