باريس- في سابقة نادرة في تاريخ الجمهورية الفرنسية، أفرجت محكمة الاستئناف في باريس، أمس الاثنين، عن الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي بصفة مؤقتة بعد أقل من 3 أسابيع قضاها في السجن.
ساركوزي، الذي تقلد رئاسة الدولة بين عامي 2007 و2012، دخل سجن "لاسانتيه" في باريس يوم 21 أكتوبر/تشرين الأول الماضي عقب حكم بالسجن 5 سنوات بتهمة التورط في مؤامرة جنائية تتعلق بتمويل حملته الرئاسية بأموال ليبية.
وقد شكلت مغادرته السجن لحظة مفصلية في سجل المساءلة السياسية والقضائية داخل فرنسا. فالرجل الذي عرف دهاليز السلطة في يوم من الأيام، يجد نفسه يعود إلى الحرية مقيدا بالمراقبة، كمن خرج من زنزانة صغيرة إلى أخرى أكبر اسمها الرأي العام.
أصدرت محكمة استئناف باريس قرارها بالإفراج عن ساركوزي شريطة بقائه تحت إشراف قضائي حازم. ومن بين هذه الشروط، حظر مغادرة الأراضي الفرنسية، ومنعه من التواصل مع أي طرف من أطراف الملف، لا سيما مساعديه أو الشهود أو أفراد من وزارة العدل.
ووفقا للمادة 144 من قانون الإجراءات الجنائية، لا يجوز استمرار الاحتجاز إلا إذا كان "الوسيلة الوحيدة" لحماية الأدلة، أو منع الضغوط على الشهود أو الضحايا، أو منع التواطؤ الاحتيالي، أو منع الفرار أو العودة إلى الإجرام، أو حماية المتهم وضمان استمرار وجوده أمام العدالة.
وبالتالي، رأت المحكمة أن السجين السابق لا يشكل "خطر فرار" يستوجب بقاءه في الحجز، مما دفعها إلى إصدار أمر بالإفراج عنه. وكان هذا هو موقف النيابة العامة في الجلسة، التي طلبت الإفراج عنه، مشترطة إخضاعه للرقابة القضائية، وهو قرار أيدته المحكمة.
كما أوضحت أوساط قضائية أن القرار جاء نتيجة مراجعة دقيقة لطلب فريق الدفاع، مما جعل القضاة يعتبرون أن بقاءه خلف القضبان لم يعد ضروريا في هذه المرحلة.
وقد أعرب ساركوزي عبر حسابه على منصة " إكس " عن امتنانه لكل من دعمه ودافع عنه، وقال "لقد تأثرت برسائلكم الداعمة بشدة، ومنحتني القوة لتحمل هذه المحنة. تم تطبيق القانون وسأستعد الآن للاستئناف. طاقتي منصبّة فقط على إثبات براءتي والحقيقة ستنتصر".
أصبح "نيكولا ساركوزي" أول رئيس فرنسي يسجن منذ الحرب العالمية الثانية، فقد بدأ تنفيذ عقوبة بالسجن لمدة 5 سنوات في زنزانة انفرادية لا تتجاوز مساحتها 9-12 مترا مربعا في سجن لاسانتي بباريس، ترافقه 3 كتب وتلفاز مؤجر مقابل 14 يورو شهريا.#الجزيرة_الوثائقية #وراء_كل_صورة_حكاية pic.twitter.com/3SFYVsAveZ
— الجزيرة الوثائقية (@AljazeeraDoc) October 26, 2025
وأثار شرط عدم لقاء ساركوزي بوزير العدل جيرالد دارمانان تساؤلات عدة وجدلا واسعا، خاصة وأن المادة 138 من قانون الإجراءات الجنائية لا تنص على أي معايير لمنع الاتصال بشخص أو مقابلته. وبررت محكمة الاستئناف حظر استقبال ساركوزي ولقائه دارمانان وأعضاء فريقه بالحرص على "تجنب أي خطر يعيق سير الإجراءات ويقوّض استقلال القضاء".
كما أشارت إلى أن الوزير قد يتلقى معلومات بشأن قضايا حساسة بموجب المادتين 35 و39-1 من قانون الإجراءات الجنائية، وأن هناك ما يدعو إلى الخوف من أن يتمكن الرئيس الأسبق من الوصول إلى هذه المعلومات من خلال اتصالاته مع أمين الأختام وموظفيه.
وبررت المحكمة هذا القلق بالتذكير بأن ساركوزي قد أُدين سابقا بالفساد النشط واستغلال النفوذ في قضية تتعلق بمدعٍ عام كبير لدى محكمة النقض، مما أثبت "قدرته على التلاعب بمختلف أجهزة الدولة رغم أنه لم يعد يشغل منصبا رسميا".
بعيدا عن أنظار الرأي العام طوال الوقت وممثلا فقط بمحاميه كريستوف إنغران، الذي صرّح بأنه سيتولى الآن الاستئناف، تدفقت ردود فعل الطبقة السياسية لوصف هذا القرار القضائي الجديد.
واعتبر رئيس حزب الجمهوريين برونو روتايو في تغريدة أن إطلاق سراح ساركوزي كان متوقعا، مضيفا "رئيس الجمهورية السابق، المُفترضة براءته، أصبح أخيرا حرا طليقا. لقد واجه هذه المحنة بشجاعة وعزيمة، مدفوعا بإرادته الراسخة لإثبات براءته".
من جانبه، قال رئيس التجمع الوطني اليميني المتطرف جوردان بارديلا "كان التنفيذ المؤقت غير مبرر. لذا، أعتقد أن وراء ذلك رغبة في إذلال نيكولا ساركوزي. إن إطلاق سراحه يُظهر أنه لا يستوفي، موضوعيا، أيا من المعايير التي تُفضي إلى أمر احتجاز مؤجل".
مجتمع القضاة الهش
لنرجع إلى زنزانة ساركوزي ونطل على احوال القضاء الفرنسي حاضرا ومستقبلا لنتعلم فنحن في بلاد قضاؤها مريض وهذه حقيقة يعرفها كل من دخل إلى محكمة .
الرجل ذهب إلى سجن La Santé برجليه.
كان ممسكاً بيد زوجته… المغنية كارلا بروني.
ربما ستلهمها هذه اللحظة الدرامية…… pic.twitter.com/MvShezLX8v— Taoufik bouachrine (@Taoufikbouachr1) November 9, 2025
وفي حين أشاد اليمين باحترام القضاء لمبدأ افتراض البراءة، ردّ حزب " فرنسا الأبية " اليساري الراديكالي بسخرية. وقالت النائبة مانون أوبري "لحسن الحظ أن ساركوزي لم يفز بالانتخابات عام 2012، وإلا لما كان ليخرج من السجن بما كان يقترحه".
وتعني النائبة بذلك وعد حملة الرئيس السابق بتشديد القانون بحيث لا يمكن منح السجناء الإفراج المشروط إلا بعد قضاء "ثلثي مدة عقوبتهم على الأقل". وهو ما لم يتحقق، فقد سُجن ساركوزي بموجب نظام الحبس الاحتياطي نظرا لاستئنافه الحكم.
ونظرا لمكانة ساركوزي في البلاد، كانت محكمة استئناف باريس تعلم مُسبقا أنها ستواجه وابلا من الانتقادات عند البت في طلب الإفراج عنه. فإذا قررت إبقاءه رهن الاحتجاز، سيستمر أنصاره في الاحتجاج، ولو اختارت وضعه تحت المراقبة القضائية بناء على طلب النيابة العامة، لرأى قطاع كبير من الجمهور ذلك معاملة تفضيلية.
ولا يعني إطلاق سراح الرئيس الفرنسي الأسبق نهاية ملفه أمام القضاء، بل بداية مرحلة الاستئناف التي يُتوقع عقدها في الربيع أو أوائل سنة 2026، مما يعني وضعه تحت مراجعة القضاء بشكل مكثف.
سياسيا، تشهد البلاد أجواء من التجاذب. فمن جهة، يراه أنصاره ضحية "استهداف سياسي"، ومن جهة أخرى، يعتبر خصومه أن ما حصل "تساهل غير مسبوق مع شخصية بارزة".
وعلى مستوى الرأي العام، بدأ نقاش واسع بشأن مدى استقلال القضاء والتمييز الذي يحدث عندما يمثل رئيس سابق للجمهورية أمام القانون. أما على المستوى القانوني، فإن القرار يثبت أن هناك ظرفا مؤقتا "بإشراف قضائي" لا يلغي الحكم الابتدائي، بل يعيد ساركوزي إلى كنف الحياة اليومية بشروط.
المصدر:
الجزيرة