في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
غزة– في قلب المعاناة التي تخنق قطاع غزة ، حيث تتقاطع رائحة الغبار مع أنين النزوح، وُلدت فكرة "فرسان غزة"، وهو فريق شبابي تطوعي خرج من رحم الألم، لا يملك سوى الإصرار على أن يكون الإنسان إلى جانب الإنسان.
ووسط الدمار وركام البيوت، اجتمع شبان وشابات بدافع المسؤولية الإنسانية، ليكونوا سندا لأهلهم ودعما للصامدين في وجه الحرب، وليقولوا بفعلهم قبل كلامهم إن "الحياة لا تزال ممكنة".
بدأت الحكاية عام 2024، في خضم حرب الإبادة على غزة، حين اجتمع بعض الأصدقاء في مركز مدمر وسط مدينة غزة ، وقرروا أن يحوّلوا عجزهم إلى فعل، عبر مجموعة أنشطة صغيرة للأطفال، لم تكن سوى محاولة لبث الفرح في عيون اعتادت الخوف.
ومع تزايد الحاجة في المخيمات والملاجئ، توسع النشاط شيئا فشيئا، حتى صار الفريق يعمل على برامج دعم نفسي وتوعية ومساعدات ميدانية للفئات الأكثر هشاشة، لم يكن في أيديهم كثير من الموارد، لكنهم امتلكوا شيئا لا يُشترى ألا وهو إرادة الحياة.
يقول قائد فريق "فرسان غزة"، معتصم المحلاوي، للجزيرة نت إن "الفكرة وُلدت من شعور بالعجز أمام ما يراه يوميا من وجع الناس في الشوارع، كان الدافع بسيطا لكنه نقي، قررنا أن نكون نقطة نور وسط هذا الظلام، فانطلقنا فعليا بعد العدوان الأخير حين قلنا معا: لننتصر للإنسان".
ويرى معتصم أن الهدف الحقيقي للفريق ليس مجرد توزيع مساعدات أو تنظيم فعاليات، بل إعادة الحياة للناس ولو جزئيا، وزراعة الأمل في أرواح أنهكتها الحرب.
ويعمل الفريق على خلق مساحات آمنة للأطفال والنساء للتعبير واللعب والتعلّم، ويؤمن بأن كل لحظة حياة تستحق أن تُعاش مهما كانت الظروف.
يقول معتصم بابتسامة متعبة "نستخدم كل ما هو متاح، أحيانا نعيد تدوير المواد لنصنع منها شيئا يُستخدم من جديد، لأن الإبداع صار وسيلتنا الوحيدة للبقاء".
أما الدعم الذي يتلقونه فمحدود للغاية، ومعظم الجهود تطوعية خالصة، لكنهم يصرون على الاستمرار لأن ما يهمهم -كما يقول أحد المتطوعين- "أن يشعر الناس أننا بجانبهم، لا أننا نساعدهم من بعيد".
وخلال الأشهر الماضية، نفذ الفريق ورش دعم نفسي للأطفال، وجلسات رسم وتفريغ انفعالي، ولقاءات نسائية للحديث عن الصمود والقدرة على التكيّف في أوقات الخطر.
وتؤكد المتطوعة هناء أبو عطايا، التي تشرف على عدد من هذه الورش، أن الفكرة الأساسية هي مساعدة الأمهات على السيطرة على الخوف ونقله إلى طمأنينة.
تضيف للجزيرة نت: "أشرفت على ورشة للأمهات عن كيفية التعامل مع الأطفال وقت القصف، وكيف تمنح الأم أبناءها الأمان رغم الخطر، الهدف أن نشعرهم أن الحياة مستمرة حتى في أسوأ الظروف"، وتوضح أن الفريق يختار المواضيع بناء على احتياجات المناطق المهمشة، بعد استماع مباشر للناس وتحديد ما ينقصهم.
ورغم ما تراه هناء يوميا من مآس، فإن الفن -كما تقول- يمنحهم جميعا طريقة مختلفة للشفاء.
وتتذكر بحزن طفلة صغيرة جلست في إحدى الورش لترسم بيتها، وقالت "هنا كنت أنام، وهنا مات أخي"، لم تجد هناء كلمات تواسيها، فاكتفت باحتضانها، وشعرت أن الرسم كان أصدق من كل العبارات.
أما المتطوع محمود زعتر، فيرى أن التحدي الأكبر ليس في تنظيم الفعاليات، بل في إيجاد مساحات آمنة للناس وسط بيئة مدمرة، يقول "نبدأ دائما بالاستماع، ونحاول أن نفهم احتياجات الناس أولا، ثم نبحث عن مكان يمكن أن نجتمع فيه، حتى لو كان تحت شجرة، بعدها نوزع المهام بسرعة ونبدأ العمل".
يروي محمود للجزيرة نت قصة شاب فقد منزله، لكنه أصر على مساعدتهم في تنظيم ورشة للأطفال، وقال لهم "أنا ما عندي بيت، بس عندي طاقة أعطيها"، ويضيف بابتسامة حزينة "هذا الموقف غيّر نظرتي للحياة، إذ أدركت أن العطاء لا يحتاج إلى بيت، بل إلى قلب".
الفريق لا يكتفي بالأنشطة النفسية، بل يطلق بين الحين والآخر مشاريع إنسانية متكاملة، مثل توزيع الطرود الغذائية والمياه النظيفة على الأسر النازحة، وتوفير أدوات مساعدة لذوي الإعاقة مثل الكراسي المتحركة والعكازات.
كما نظم مبادرات للأمهات بعنوان "أم بأمان" تتضمن حقائب ولادة وعناية بالأم والطفل، ومشروع "تمكينكِ" للفتيات واليافعات الذي يقدّم جلسات دعم نفسي وتثقيف صحي وتدريب على مهارات الحياة، مثل القيادة وإدارة الوقت.
وحتى الجرحى الذين فقدوا أطرافهم، وجدوا ضمن الفريق من يفكر فيهم، عبر مبادرة لإنتاج أطراف صناعية بسيطة بمساعدة مهندسين وورش محلية، يحرص الفريق أيضا على تنفيذ فعاليات دمج مجتمعي لذوي الاحتياجات الخاصة، وورش توعية لكبار السن والنساء عن الصحة النفسية والتعامل مع الأزمات والتربية الإيجابية، مؤمنين بأن الدعم النفسي هو الركيزة الأولى لإعادة بناء أي مجتمع محطم.
تفاعل الناس مع أنشطة الفريق كان لافتا، فالأطفال ينتظرون الفعاليات بفارغ الصبر، والنساء يقطعن المسافات الطويلة رغم التعب، والشباب يتطوعون للمساعدة دون مقابل.
يصف معتصم هذا التفاعل بقوله "الناس عطشى لأي مساحة فيها دفء، لأنهم يحتاجون فقط لمن يقول لهم: لستم وحدكم".
ومن بين خطط الفريق القادمة مشروع "حكايات من الركام"، الذي يهدف إلى توثيق قصص الأطفال والنساء من خلال الفن والرسم والكتابة، يعلّق معتصم "نؤمن بأن الحكاية هي أول خطوة نحو الشفاء، وأن من يروي ألمه يصبح أقوى".
على الطرف الآخر من الصورة، يحكي المستفيدون قصصهم التي تبدو كامتداد لرسالة الفريق؛ الشاب علي مقداد يقول إنه سمع عن "فرسان غزة" من أحد جيرانه في النزوح، فشارك في ورشة للكتابة عن الشباب في زمن الحرب، ويضيف بابتسامة خجولة "كتبت عن طموحاتي والصعاب التي نواجهها، ومن وقتها صرت أؤمن بأن هناك أملا؛ الورشة كانت مثل نافذة وسط الجدار".
أما سارة شلبي، وهي أم نازحة، فتصف مشاركتها في ورش الفريق بأنها كانت بمثابة حضن إنساني وسط الخوف، وتقول "كنت أبحث عن مكان أتكلم فيه بدون خوف؛ وجدت فيهم دفئا إنسانيا. صرت أضحك أكثر وأتكلم مع أولادي وأشعر أنني لست وحدي، كانت الورشة مثل جلسة شفاء جماعي".
وبينما تتحدث، يركض طفل صغير يحمل لوحا ملونا، هو عبد الله الحناوي ذو السبعة أعوام، الذي يقول بعفوية تُلخّص الحكاية كلها "لعبنا لعبة الألوان، ورسمت بيتنا الجديد اللي بتمنى يصير".
في النهاية، لا يبدو أن "فرسان غزة" مجرد فريق تطوعي، بل أشبه بجسر من الأمل يمتد فوق بحر من الخراب، إنهم ليسوا مؤسسة كبيرة ولا يملكون تمويلا ضخما، لكنهم يملكون ما هو أعمق من ذلك: الإيمان بأن النهوض من الرماد ممكن، وأن العطاء لا يحتاج إلى موارد بقدر ما يحتاج إلى إنسانية.
في كل نشاط لهم، تُزرع بذرة حياة جديدة في أرض أنهكتها الحرب، وبين الركام، يرفع هؤلاء الشبان راية واحدة تقول ببساطة وعناد "لننتصر للإنسان".
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة