في ظل صعود الخطاب العالمي لحقوق الإنسان، لم يعد للدول أن تحدد أوضاع المقيمين الأجانب انطلاقا من رؤيتها السيادية الخاصة، إذ تزايدت القيود القانونية والأخلاقية التي تلزمها باحترام حقوق المهاجرين وضمان كرامتهم. ومن هنا، تحول المهاجر من "موضوع تنظيمي" إلى "فاعل حقوقي" في النظام الدولي المعاصر، يمثل نقطة تحول جوهرية أفرزت الحاجة إلى تأسيس ما يمكن تسميته بالقانون الدولي للهجرة، فرعا قانونيا ناشئا يتفاعل مع حقوق الإنسان والقانون الإنساني، ويستقل عنهما في الوقت نفسه.
وفي هذا السياق، جاء كتاب "القانون الدولي للهجرة" للباحث عبد الصمد العباسي، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ليشكل إضافة نوعية إلى المكتبة القانونية العربية، في ميدانٍ لم يحظَ بعد بما يستحقه من الدرس والتأصيل.
وامتد الكتاب على 264 صفحة، ضمت ملخصا تنفيذيا، ومقدمة، وثلاثة فصول، وخاتمة وافية، فضلا عن المراجع والفهارس والجداول التوضيحية. غير أن قيمته الحقيقية تتجاوز الشكل والمنهاج، إلى بناء إطار نظري جديد لفهم العلاقة المعقدة بين الهجرة الدولية والقانون الدولي، وإلى الدفاع عن مشروعية عد هذا المجال فرعا قائما بذاته من فروع القانون، يقوم على مبادئ الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان، ويتجاوز حدود المقاربة التقليدية التي قسمت الناس إلى "مواطنين" و"أجانب".
وينطلق العباسي من فرضية مركزية مفادها أن ظاهرة الهجرة الدولية لم تعد شأنا ثانويا أو عارضا في العلاقات الدولية، بل تحولت إلى عامل ضاغط يعيد تشكيل بنية القانون الدولي ذاته. فمع تزايد تعقد أوضاع المهاجرين وتنوع فئاتهم، وتداخل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والسياسية، باتت القواعد الكلاسيكية المنظمة لوضع الأجانب غير كافية، بل عاجزة عن مجاراة الواقع الجديد. فالهجرة اليوم ليست مجرد انتقال أفراد بين الحدود، وإنما هي تعبير عن دينامية عالمية تمس جوهر السيادة الوطنية، وتختبر قدرة الدول على المواءمة بين مصالحها الداخلية والتزاماتها الحقوقية الدولية.
ويبين الكتاب أن هذا الحقل المعرفي الجديد لا يزال فقيرا في التأليف على الصعيدين العربي والعالمي. فمع أن الهجرة أصبحت من أكثر القضايا حضورا في الخطاب السياسي والبحثي، فإن الأعمال الأكاديمية التي تناولتها من زاوية قانونية خالصة تبقى محدودة جدا، وغالبا ما تقتصر الدراسات المتوافرة على معالجة وضع الأجانب أو قضايا الجنسية أو اللجوء السياسي، دون بناء منظومة متكاملة تنظم العلاقات القانونية الناشئة عن حركة الهجرة.
وفي عرضه النقدي لمسار هذا الحقل، يرصد العباسي أربعة اتجاهات رئيسة في الأدبيات السابقة:
غير أن العباسي لحظ أن هذه الأعمال -على أهميتها- لم تنجُ من مآخذ منهجية، من أبرزها خلط المركز القانوني بين المهاجر واللاجئ، وتجاهل البعد الثقافي، وإغفال خصوصية الهجرة العمالية التي تمثل الغالبية الساحقة من التحركات البشرية عبر الحدود، كما يشير إلى أن المحاولات العربية بقيت متفرقة، تتناول قضايا الهجرة ضمن القانون الدولي الخاص أو في سياق دراسات التنمية، دون صياغة نظرية متماسكة تضعها في إطار قانوني شامل.
ويناقش الكتاب الصعوبات الكبرى التي تواجه الباحث في هذا الميدان، وأبرزها غياب مدونة قانونية موحدة يمكن الاحتكام إليها. فالمصادر المتعلقة بالهجرة الدولية تتوزع بين اتفاقيات ثنائية ومتعددة الأطراف، ومواثيق أممية، وتشريعات إقليمية ووطنية، إلى جانب أعراف وممارسات دولية غير مكتوبة. هذه التعددية تجعل من مهمة الباحث أشبه بمحاولة استنباط منطق كامن من بين نصوص متشظية ومتعارضة أحيانا، مما يستلزم جهدا تأويليا وفقهيا دقيقا لاستنباط النسق الناظم بينها.
ورغم هذه التحديات، يأتي كتاب العباسي ليملأ فراغا في المكتبة العربية، مقدما معالجة تجمع بين التحليل الفقهي المقارن والطرح التعليمي المنهجي، وقد اعتمد فيه على مناهج متنوعة تجمع بين المقاربة الاجتماعية القانونية والمنهاج المقارن والاستقرائي، إلى جانب توظيف أدوات تحليل حديثة لرصد المفاهيم وتطورها، بما في ذلك استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحليل المصطلحات والاتجاهات البحثية العالمية. وبهذا، يقدم العمل نموذجا في التكامل بين التحليل القانوني والبعد المعرفي، بعيدا عن النمط التكراري السائد في كتب حقوق الإنسان العامة.
الهجرة ليست حركة أحادية الاتجاه، بل علاقة متبادلة بين دول الإرسال والاستقبال والعبور، تفرض على جميع الأطراف تطوير آليات تعاون قانوني متكاملة
ويُبنى الكتاب على ثلاثة فصول مترابطة، تشك ل مع ا نسق ا متدرج ا من التأصيل إلى التطبيق.
ويتناول الفصل الأول الإطار النظري لمفهوم القانون الدولي للهجرة، متتبعا تطور الفكرة منذ العصور القديمة حتى تشكلها الحديث، ليبرهن على أن الاعتراف بوجود هذا الفرع القانوني لا يقوم على اجتهاد أكاديمي محض، بل على تطور تاريخي متواصل أنتج قاعدة معرفية واجتماعية تسوّغ استقلاله.
ويركز الفصل الثاني على مصادر هذا القانون، محللا الاتفاقيات الدولية والإقليمية والتشريعات العرفية والوطنية ذات الصلة، ومحددا نطاق تطبيقها زمانا ومكانا وأشخاصا. فالمهاجرون -لا اللاجئون أو النازحون- يشكلون النطاق الأساسي لهذا القانون، الذي يغطي مراحل الرحلة كافة، من بلد النشأة إلى العبور ثم الاستقرار في بلد المقصد.
ويعالج الفصل الثالث المبادئ العامة المؤسِسة للقانون الدولي للهجرة، وعلى رأسها مبدأ المساواة وعدم التمييز، مع استحضار مبدأ "الاستثناء السيادي" الذي يمنح الدول حق تقييد حركة الأفراد لأسباب أمنية أو اقتصادية. وينتهي هذا الفصل إلى تحليل الحقوق العملية التي يجب أن يتمتع بها المهاجرون، مثل الحق في العمل والتعليم والرعاية الصحية، بوصفها التزامات على عاتق الدول في ضوء القانون الدولي.
ويقد م العباسي في خاتمة كتابه أطروحة حاسمة، مفادها أن القانون الدولي للهجرة قد تجاوز مرحلة التشك ل إلى مرحلة التبلور، وأنه يمتلك اليوم مقو مات فرع قانوني مستقل ، له موضوعه ومصادره ومؤسساته الخاصة، وإنْ بقي في حاجة إلى مزيد من التوحيد والتنظيم. فالمسار التاريخي لهذا القانون يبرهن أنه لم ينشأ فجأة، بل تطو ر تدريجي ا من داخل القانون الدولي العام ، حين بدأت الدول تتحمل مسؤولياتها تجاه الأجانب، ثم تبلور مع توس ع منظومة حقوق الإنسان التي منحت المهاجرين مركز ا قانوني ا واضح ا، وصولا إ لى اللحظة الحالية التي تتشابك فيها القضايا الحقوقية بالاقتصادية والأمنية والثقافية.
ويرى المؤلف أن هذا الفرع القانوني يتميز بطابع دينامي مرن يتيح له التطور مع تغير أنماط الهجرة واحتياجاتها. فالهجرة ليست حركة أحادية الاتجاه، بل علاقة متبادلة بين دول الإرسال والاستقبال والعبور، تفرض على جميع الأطراف تطوير آليات تعاون قانوني متكاملة. ومن هنا تبرز أهمية اعتماد منظور كوني يقوم على مبدأ الكرامة المشتركة بدلا من المقاربة الأمنية الضيقة التي لا تزال تتحكم في سياسات كثير من الدول.
ولا يقف هذا العمل عند حد العرض أو التوصيف، بل يسعى إلى تأسيس وعي قانوني عربي جديد بقضية الهجرة، فالمؤلف يدرك أن العالم العربي يعيش مفارقة معقدة: فهو مصدر للهجرة وممر لها ومستقبل لغيره من المهاجرين في الوقت ذاته، ومع ذلك لم تتبلور لديه بعد منظومة فكرية أو تشريعية قادرة على معالجة الظاهرة في بعدها الدولي. ومن ثم، يمثل الكتاب دعوة إلى توطين المفهوم في الفضاء العربي، وإلى إدماج دراسات الهجرة ضمن البرامج القانونية والسياسية والاقتصادية، على أنها أداة لفهم تحولات العولمة المعاصرة.
يمكن القول إن كتاب عبد الصمد العباسي يحاول أن يؤسس لمرحلة جديدة في دراسة العلاقة بين القانون والسيادة والهجرة، فهو لا يكتفي بإعادة توصيف الظاهرة، بل يسهم في إعادة تعريف دور الدولة ذاتها في عالم متحول، حيث لم تعد السيادة المطلقة قادرة على تبرير القيود المفرطة على حركة البشر، فالقانون الدولي للهجرة -كما يصوره المؤلف- ليس مجرد تجميع للاتفاقيات والمعاهدات، بل نسق قيمي ومعرفي يعيد التوازن بين حقوق الأفراد ومصالح الدول، ويجعل من الكرامة الإنسانية نقطة انطلاق لأي تشريع مقبل.
إن ما يقدمه هذا العمل يتجاوز البعد القانوني البحت ليصل إلى أفق إنساني وفلسفي، إذ يذكر بأن حركة الإنسان في طلب العمل أو الأمان أو الكرامة ليست جريمة بل هي حق أصيل، وأن القانون الدولي للهجرة إنما يسعى إلى تنظيم هذا الحق لا إلى مصادرته. ومن ثم، فإن هذا الكتاب يمثل إضافة فكرية مهمة لدارسي القانون الدولي ولكل من يهتم بفهم تحولات العالم الحديث، حيث تتقاطع الحدود السياسية مع أسئلة العدالة والحرية وحقوق الإنسان.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة