رام الله- رغم أن حرب الإبادة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة نقلت على الهواء مباشرة، إلا أن المؤسسات الحقوقية الفلسطينية لم تتمكن من توثيق إلا ال قليل من الأدلة القانونية.
ويعني ذلك أن أمام هذه المؤسسات جهد كبير وطويل الأمد في تتبع الأدلة وجمع الشهادات على هذه الجرائم، وتحويلها لملفات حقوقية تضمن ملاحقة إسرائيل على كل جرائمها.
ولا يقتصر توثيق هذه الجرائم على أغراض الملاحقة القانونية، بل ضرورة التدوين للتاريخ والمستقبل، وتدرج في المناهج الفلسطينية لتعليمها للأجيال القادمة.
الجزيرة نت حاورت شعوان جبارين المدير العام لمؤسسة "الحق" وهي جمعية حقوق إنسان فلسطينية غير حكومية مقرها رام الله، للتعرف على أولويات العمل في جمع الأدلة والشهادات، والجهود التي تبذلها مع غيرها من المؤسسات الحقوقية لتحضير ملفاتها ورفع المزيد من القضايا ضد الاحتلال وقادته.
وفيما يلي نص الحوار:
حجم الجريمة يفوق قدرات كل المؤسسات في إطار التوثيق. سواء طريقة القتل والتدمير أو استمرارية ذلك على مدار عامين. ولكن برأيي أن الطواقم الطبية والإنسانية من أطباء وممرضين وطواقم الدفاع المدني والهلال الأحمر، هم مصدر المعلومة في هذه المرحلة، ولديهم كل أدلة الإبادة المتاحة للبناء عليها، وهو ما حاول الاحتلال التشكيك به، إلا أن كل المؤسسات الحقوقية ومراكز الأبحاث والمقررين الخاصين -وغيرهم- أقروا بأنها الجهات الأكثر دقة.
ونحن كمؤسسات حقوقية بدأنا بجمع الأدلة خلال الحرب، ولكن لم نستطيع توثيق واحد بالألف من حجم الجريمة، وهو ما يجعل المهمة الآن أصعب.
ويجب أن تدعم عمليات الجمع والتوثيق بفرق مهنية متخصصة، تحديدا في مواضيع التشريح وإطالة عمر الأدلة ليسهل دراستها فيما بعد، وتوفير المعدات الفنية.
وعلى سبيل المثال، تسلم الجثامين المفرج عنها بحاجة لبروتوكولات عملية تتبع لإثبات عمليات القتل الميدانية والتعذيب المسبق.
وكان لدينا شهادات عن جرائم وقعت بحق الأسرى من تعذيب وحشي وقتل عمد، والآن أصبح لدينا الدلائل على هذه الشهادات، فما نحتاجه توثيق كل حالة على حدة وجمع كل البيانات حولها، وإيجاد طرق لتأخير دراسة بعض الأدلة، مثل إيجاد أساليب لدفن الجثث بطريقة تمنع تحللها بسرعة للعودة لدراستها بشكل احترافي. فهناك العديد من النماذج العالمية في السابق تم فيها نبش المقابر وإثبات الجرائم بعد الكشف عن الجثامين.
وكنا قد احتجنا، لإثبات حالة، إلى معرفة إن كان الشخص قد دفن مع أحشائه أو لا، لو كانت الجثة مدفونة بطريقة علمية صحيحة كان نبش القبر وتحليل الجثة يجيب عن ذلك.
تكفي ولا تكفي.
ففي الجوانب الفنية العديدة، الطواقم المحلية كافية. ولكن لخصوصية هذه الجريمة المركبة يجب الترتيب والسماح لمكتب الادعاء الدولي للوصول إلى مسرح الجريمة، والحصول على المعلومات التي تهمه وفق الأصول.
ونحن نتحدث عن تنظيم وثائق قانونية بالغة الأهمية للتاريخ كله، ولن يقتصر آثارها على مدى محدود وسيكون لها ارتدادات كبيرة.
وهذه الوثائق سواء كانت شهادة مكتوبة أو مسجلة: الفيديو، الصوت، الشهادات، المحاضر، الرسومات، التقارير، الصور الطبية، صور الأمكنة، وغيرها. وكل أنواع الوثائق مهمة، والأهم كيفية حفظها وتصنيفها بحيث يسهل الرجوع إليها.
وبعض أساليب التوثيق قد يجدها الأهل صعبة عاطفيا، لذلك نحتاج أيضا إلى حملات رفع الوعي العام، كي لا نضيع أي إمكانية لإثبات جرائم الاحتلال، وهو ما نعمل عليه في مؤسسة الحق اعتمادا على طواقمنا القليلة وطواقم المؤسسات الأخرى.
وهنا لا بد من القول إننا نحتاج إلى أساليب ومنهجيات علمية جديدة ترتقي لحجم الجرائم التي حدثت واستمرت على مدار عامين.
فإلى جانب أنها جرائم غير مسبوقة، رغم بعض التقاطعات مع ما حصل عام 1948 مثل استهداف الطواقم الطبية والخدمية والإنسانية، إلا أننا نتحدث عن جريمة غير مسبوقة على مستوى العالم وليس على نطاق فلسطين فقط.
إلى جانب أن هذه جريمة الإبادة الأولى التي تبث بشكل مباشر عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وبالتالي علينا استخدام كل أنواع التكنولوجيا للحصول على الأدلة وأرشفتها، وكل ذلك بحاجة لطاقات هائلة لا تستطيع الفرق المحلية القيام بها بمفردها.
حتى القضايا التي عملنا عليها خلال الحرب لا تزال مستمرة، وعلى سبيل المثال جريمة الإبادة مستمرة في آثارها. فمثال التجويع وآثاره على المدى الزمني، نحن نتحدث عن جيل كامل سيتأثر على المدى الطويل.
وكل الملفات حاليا ملحة، القتل والتدمير واستهداف المدنيين على قطاع واسع، ومنع مقومات الحياة. ولكن برأيي الأهم حاليا التركيز على حالات الاعتقال والأسر، وباقي الجرائم التي تعرض لها الأسرى من اغتصاب وتعذيب وتنكيل وتجويع.
وما قمنا بجمعه خلال الحرب لا يذكر مقارنة مع حجم الجريمة، وهذا ليس فقط لملاحقة إسرائيل على جرائمها، وإنما نحن نعتقد أن من حق الأجيال أن تعلم، ويجب التوثيق لكتابة هذا التاريخ وتدريسه للأجيال.
ويجب أن تحمل المناهج الفلسطينية بشكل واضح وجلي حقيقة الجريمة التي وقعت بحق شعبنا الفلسطيني بكل تفاصيلها.
إدراج تفاصيل الإبادة في المناهج المحلية دور الجميع: الرسمي والمدني. وإن خضع المستوى الرسمي لضغوطات إسرائيل وأميركا، فعلى المجتمع المدني القيام بذلك حتى لو لجأنا إلى التعليم الشعبي واستغلال وسائل التواصل الاجتماعي والوسائل المتوفرة. وهذه مسؤولية إنسانية أخلاقية وطنية تاريخية بكل المعاني.
ما رأيناه من حالة هذه الجثث دليل على الجريمة بمعناها الممنهج وخاصة مع تكرار الحالات، أي أنها سياسة رسمية.
وكنا نقول في كل تقاريرنا إن هناك حالات إعدام ميداني للأسرى بعد اعتقالهم، وإن هناك آلافا من الأسرى مصائرهم مجهولة. والآن نحن نرى الدلائل واضحة على الجثث التي تم تسليمها. وهناك جثث سلمت ولا تزال مكبلة إلى الخلف كما اللحظة التي اعتقل فيها أصحابها، مما يدلل على جرائم تعذيب وقتل متعمد.
نعتبر الأسرى المفرج عنهم مصدر بالغ الأهمية، لذا على الجميع البدء بجمع الأدلة والشهادات منهم، قبل اختفاء علامات التعذيب من سوء المعاملة والجوع وقلة الطعام. وتوثيق ما حدث لهم بشكل شخصي، أو ما سمعوه عن غيرهم.
نحن كمؤسسة لم نبدأ بعد لأننا لا نملك طواقم خارج البلاد، والعمل في الدول العربية يحتاج لتصاريح. ولكن أرى أن على المؤسسات الحقوقية العربية في الدول التي أبعدوا لها أن تقوم بهذه المهمة، ليتمكنوا من الحصول على كل المعلومات وأن تكون شهادات مرئية أمام الكاميرا قبل أن تختفي الآثار.
من أهم المهام الآن هو البناء على هذه الحالة، من حيث التعميق وبناء العلاقات والتواصل مع المجتمعات المختلفة، والحديث أكثر عن الجرائم وإبرازها. صحيح قد نحتاج لسنوات لتوثيق كل حالة، ولكن يجب ألا نفقد ذاكرة وأصحاب هذه القصص الآن، وهو ما يعني ضرورة العمل عليها من خلال منهجية تطبقها جميع مؤسسات المجتمع المدني والرسمية، ويجب حملها من قبل هذه المؤسسات كلا بحسب قنواته إلى العالم. وعلى الجميع الاستمرار بالحديث عن الإبادة بصفتها حدثا مستمرا حتى بعد وقف إطلاق النار .
للأسف لا يوجد. الآن علينا العمل على إيجاد هذه الخطة، وهذا منوط بكل مكونات المجتمع المدني الفلسطيني، إلى جانب الرسمي الفلسطيني للنقاش من أجل التوصل لها.
السلطة الفلسطينية الآن مستبعدة من المسارات السياسية التي يتم التعامل فيها مع القضية الفلسطينية. ووضعها اليوم أسوأ مما نعتقد، فهي لا تتحكم في أموالها ولا تحمي المواطن، حتى لو كان في مناطقها.
وأي مسار سياسي لا يرتكز على القانون الدولي وحقوق الشعب الفلسطيني الأساسية من تقرير المصير والعودة…وغيرها، محكوم عليه بالفشل ولا يعول عليه، وهو ما لا تستطيع السلطة الآن فرضه.
والأصل أن دور السلطة هو الأساس، ولكن حتى الآن لا يوجد لها أي دور. ولكن ما نقوله حاليا، ما ننتظر من السلطة ومؤسساتها هو عدم غلق الأبواب في وجهنا كمجتمع محلي للقيام بدورنا ودورها.
ما يجري في الضفة هو إبادة جماعية صامتة. فإسرائيل تحاول فرض جوهر المشروع الصهيوني العميق الذي يقوم على فرض الحقائق على الأرض وطرد السكان وإحلال المستوطنين من خلال تحويل الضفة إلى سجن كبير. ويضاف له الحصار الاقتصادي والضعف الهائل للجسم المدني الرسمي وعجزه عن تقديم خدمات، كل ذلك لدفع الفلسطيني للبحث عن مستقبله خارج البلاد.
ولذا حان الوقت للعمل على تقوية الجبهة الداخلية والعمل على دعم الفلسطينيين على البقاء والصمود. ودوليا علينا الضغط على الدول التي اعترفت بفلسطين لإعطاء معنى عملي للاعتراف، وتحويله لإجراءات على الأرض لإنهاء الاحتلال أيضا.
لم يتم البت فيها بعد، وعادة ما تأخذ مثل هذه القضايا وقتا طويلا. ولكن الآن علينا تطوير الملف المقدم بحيث يتضمن كل الجرائم التي حدثت بعد تقديمها وما تم كشفه بعد وقف الحرب.
الملاحقات لم تتوقف وهي ليست بالجديدة، وهي على مستويين فردي ومؤسساتي، ونواصل العمل على هذه الملفات، ونتوقع المزيد من التضييق.
ويوجد كل يوم ضغط وملاحقة من اللوبي الصهيوني حول العالم ضدنا، عبر التشهير، والتضييق، والتهديد، ومطالبات بملاحقتنا واستهدافنا واتهامنا بمعاداة السامية .
وعلى المستوى المؤسساتي أيضا، فقد أصاب القرار الأميركي الأخير الدعم الموجه للمؤسسة والتمويل الخاص بها في مقتل. لدينا في المؤسسة 45 موظفا بلا رواتب من شهرين. ورغم ذلك لا يوجد خيار أمامنا إلا الاستمرارية، ولا يحق لنا التراجع عن هذا العمل الوطني المهم من أجل الأجيال القادمة.
المصدر:
الجزيرة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة
مصدر الصورة