في مشهد أثار دهشة المراقبين وأعاد خلط الأوراق في السماء الإقليمية، عبر سرب من المقاتلات الصينية المتقدمة البحر الأحمر باتجاه الأراضي المصرية دون أن ترصده أنظمة المراقبة الأميركية المنتشرة في المنطقة.
العملية، التي كشفت عنها منصة "ناتسيف نت" الإسرائيلية، جرت في سرية تامة ضمن إطار مناورات "نسور الحضارة 2025" بين بكين والقاهرة، في خطوة وصفتها دوائر عسكرية بأنها "نقلة نوعية" في قدرة الصين على نشر قواتها الجوية خارج حدودها التقليدية.
الحدث لم يُقرأ في سياق عسكري صرف فحسب، بل كإشارة سياسية متقنة التوقيت، خصوصا أنه جرى في قلب المجال الحيوي الأميركي الممتد عبر البحر الأحمر، أحد أكثر الممرات البحرية تحصينا بالرادارات والقواعد الغربية.
ليس مجرد تمرين مشترك
رأى الباحث في العلوم السياسية الدكتور حامد فارس خلال حديثه إلى برنامج "ستوديو وان مع فضيلة" على قناة "سكاي نيوز عربية" أن ما جرى ليس مجرد تمرين مشترك، بل "نقطة تحوّل نوعية في السياسة الخارجية الصينية"، موضحا أن بكين لم تعد تعتمد فقط على أدوات "القوة الناعمة" في إفريقيا والشرق الأوسط، بل باتت تمزج بين الاقتصاد والسلاح والسياسة في تحركاتها.
ويشير فارس إلى أن أكثر من 12 طائرة صينية شاركت في هذه المناورات، بينها ست مقاتلات متطورة وخمس طائرات نقل استراتيجية وطائرة هليكوبتر، موضحاً أن المرور عبر البحر الأحمر – حيث تنتشر القواعد الأميركية وحاملة الطائرات "رومان" – دون رصدٍ أميركي يمثل "رسالة استراتيجية واضحة بأن التحركات الصينية لم تعد اقتصادية فقط، بل سياسية الطابع وموجهة نحو مناطق النفوذ الأميركي نفسها".
اختبار صيني للهيمنة الجوية الأميركية
التحليل العسكري للمناورة يُظهر أن بكين أرادت اختبار فعالية أنظمة الرصد الأميركية التي تغطي المجال الجوي للبحر الأحمر. فمرور طائراتها لمسافة تتجاوز 7000 كيلومتر دون اكتشافها من قبل الرادارات الأميركية أو الإسرائيلية يضع علامة استفهام كبرى حول كفاءة منظومات المراقبة الغربية.
ويرى فارس أن الصين اقتربت من التكنولوجيا العسكرية الأميركية، إن لم تتفوق عليها في بعض الجوانب، وعلى رأسها الصناعة الدفاعية وسرعة الإنتاج. فالصين – بحسب تقديراته – قادرة على تصنيع ما يصل إلى 200 ضعف عدد السفن التي تنتجها الولايات المتحدة خلال المدة الزمنية نفسها، وهو ما يمنحها تفوقاً في ما يُعرف بـ"اقتصاد الحرب الشامل".
تفوق صناعي مقابل خبرة قتالية
ورغم هذا التقدم، يقر فارس بأن واشنطن ما زالت تتفوّق في بعض المحاور، خصوصاً في الخبرة القتالية والتكنولوجيا الجوية المتقدمة، نتيجة خوضها حروباً متعددة في بيئات متنوعة.
لكن التفوق الصيني في المواد الخام والمعادن النادرة يمنحها قاعدة إنتاجية صلبة، قادرة على مراكمة القدرات العسكرية بوتيرة متسارعة.
وفي موازنة دقيقة بين القوتين، يرى فارس أن الصين اليوم تمتلك القدرة على "مجاراة" الولايات المتحدة في مجال التكنولوجيا العسكرية، وأن عبور سربها نحو مصر دون رصد يشير إلى اختراق نوعي في تقنيات التخفي والاتصالات.
هل هناك تفاهم أميركي – صيني؟
الحدث أثار فرضية أخرى في الأوساط السياسية: هل سمحت واشنطن للصين بهذا التحرك ضمن تفاهم غير معلن؟
فارس يستبعد هذا الاحتمال تماما، مؤكدا أن "الولايات المتحدة لا يمكن أن تغامر بسمعتها العسكرية وتسمح بمرور طائرات صينية في نطاق راداراتها".
ويضيف أن الصور التي التُقطت للطائرات الصينية في قاعدة وادي الريش المصرية شمال غرب خليج السويس تؤكد أن العملية حقيقية وليست ضمن تفاهم أو تنسيق مسبق.
"لو كان هناك اتفاق، فما الذي يدفع واشنطن لأن تُظهر للعالم أن الصين تتفوق عليها تكنولوجياً؟" يتساءل فارس، قبل أن يخلص إلى أن "ما حدث تفوق صيني فعلي، لا مناورة سياسية".
مصر.. الحليف المتوازن بين الشرق والغرب
أما عن اختيار مصر كمسرح لهذه المناورات، فيرى فارس أن القرار لم يكن عشوائياً، بل كان "خيارا ذكيا من بكين". فالقاهرة تمتلك موقعاً جغرافياً محورياً على خطوط الملاحة العالمية، إضافة إلى بنية تحتية عسكرية متطورة وشبكة علاقات استراتيجية متوازنة مع الشرق والغرب.
الصين، بحسب فارس، أرادت أن تؤكد حضورها في منطقة تعد من نطاق النفوذ الأميركي التقليدي، لكنها فعلت ذلك عبر دولة تتمتع بسيادة واستقلال في قراراتها الدفاعية.
وأكد فارس أن مصر "حليف استراتيجي لجميع القوى الكبرى"، وأن تعاونها العسكري مع الصين ليس موجها ضد الولايات المتحدة أو أي طرف آخر. فالقاهرة سبق أن تعاونت مع فرنسا في مقاتلات الرافال، ومع ألمانيا وإيطاليا وأستراليا في برامج بحرية وغواصات، في إطار سياسة تنويع الشركاء التي تتبعها لحماية أمنها القومي.