آخر الأخبار

ما هو مرض الدفتيريا الذي ظهر في الجزائر بعد اختفائه بعقود؟

شارك
مصدر الصورة

في وقت يشهد الطب سباقاً عالمياً نحو العلاجات الجينية والذكاء الاصطناعي، عادت بكتيريا قديمة لتذكّر بأن أبسط اللقاحات ما تزال خط الدفاع الأول ضد الأمراض.

خلال الأيام الماضية، أعلنت وزارة الصحة الجزائرية تسجيل حالتي وفاة بمرض الدفتيريا، المعروف أيضاً باسم "الخُنّاق"، في ولاية سكيكدة شرقي البلاد، بينها حالتا وفاة، في أول تفشٍّ من نوعه منذ عقود.

وقالت الوزارة إنها شكّلت خلية أزمة في مديرية الصحة والسكان بالولاية لمتابعة الوضع الوبائي واتخاذ الإجراءات الوقائية بالتنسيق مع السلطات المحلية. وأوضحت أن حملة تلقيح استباقية شملت أكثر من 500 شخص، مؤكدة أن الوضع "تحت السيطرة" وأن المراقبة الميدانية مستمرة بشكل يومي.

المرض الذي كانت الجزائر قد قضت عليه منذ منتصف القرن الماضي بفضل برامج التطعيم الوطنية، عاد اليوم ليذكّر بخطورة تراجع معدلات التلقيح في بعض المناطق النائية.

ويأتي ذلك بعد أسابيع من تسجيل موريتانيا تفشياً مماثلاً أودى بحياة 15 شخصاً وأصاب أكثر من 200 آخرين، ولايتي الحوضين والعصابة، جنوب شرق البلاد، ما أثار مخاوف من عودة أمراض يفترض أنها اختفت مع تطور أنظمة الصحة العامة في المنطقة.

وأكدت وزارة الصحة الموريتانية أن المرض تحت السيطرة ومحصور في مناطق محددة، وأن آخر حالة مسجلة كانت منذ أيام، وحملة التلقيح متواصلة، ولا داعي لأي إنذار صحي.

مصدر الصورة

بين يوليو/ تموز وسبتمبر/ أيلول 2024، سُجلت ما لا يقل عن عشر حالات إصابة بمرض الدفتيريا في مخيم أمبرا للاجئين في موريتانيا، بينها حالتا وفاة. ومن بين المصابين ثمانية أطفال، ستة منهم دون سن الخامسة، وجميعهم غير مطعمين ضد المرض. واستجابةً للتفشي، جرى تطعيم أكثر من ألف شخص، بينهم نحو 70 من العاملين الصحيين، في محاولة لاحتواء انتشار العدوى.

وفي اليمن، وثّقت وزارة الصحة العامة والسكان، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، ما مجموعه 6765 حالة اشتباه بالدفتيريا، بينها 429 وفاة، وذلك حتى ديسمبر/ كانون الأول 2020، عقب انتشار المرض في 23 محافظة.

وخلال الفترة بين يناير/ كانون الثاني وديسمبر/ كانون الأول 2020، أُبلغ عن 1710 حالات إصابة مؤكدة، بينها 134 وفاة، وكانت الفئة العمرية الأكثر تأثراً تتراوح بين 6 و15 عاماً، فيما سُجلت النسبة الأكبر من الحالات في محافظة صعدة.

وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، أبلغت منظمة الصحة العالمية عن 1671 حالة اشتباه جديدة بالدفتيريا في اليمن، بينها 109 حالات وفاة، مقارنة بـ1283 حالة خلال عام 2022.

ويعزو الخبراء تزايد الإصابات إلى تعطل برامج التطعيم وصعوبة الوصول إلى المناطق المحاصرة، ما جعل الدفتيريا أحد أبرز مظاهر انهيار النظام الصحي في اليمن.

الأعراض والعلاج

مصدر الصورة

تعرّف دائرة المعارف البريطانية الدفتيريا بأنها مرض معد وخطير تسببه بكتيريا Corynebacterium diphtheriae، ( بكتيريا الخُنَّاق الوتدية) التي تنتقل أساساً عبر الرذاذ التنفسي من خلال العطس أو السعال، أو من خلال مشاركة الأدوات مثل الأكواب، وأدوات المائدة، والملابس، والفراش مع شخص مصاب.

وتدخل البكتيريا إلى الجسم عبر الأنف أو الفم، وتتكاثر على الأغشية المخاطية مكوّنة غشاءً رمادياً سميكاً في الحلق قد يسدّ مجرى الهواء، وهي العلامة الأبرز للمرض.

ولا تقتصر خطورة الدفتيريا على انسداد الحلق فقط، إذ تفرز البكتيريا سماً قوياً ينتقل عبر الدم إلى القلب والأعصاب والكليتين، مما قد يؤدي إلى التهاب عضلة القلب أو شللٍ في الأعصاب، وفي الحالات الشديدة إلى الوفاة.

وتبدأ الأعراض عادة بالتهاب الحلق والحمّى وصعوبة البلع، ثم تتطور سريعاً إلى ضيقٍ في التنفس وبحةٍ في الصوت، ما يجعل التشخيص المبكر أمراً حاسماً.

ويشدّد الأطباء على أن العلاج يجب أن يبدأ فور الاشتباه دون انتظار نتائج المختبر، إذ يعتمد العلاج على مضاد السم (antitoxin) والمضادات الحيوية مثل البنسلين أو الإريثروميسين، إلى جانب العزل والعناية الداعمة للمصاب لتجنّب انتشار العدوى.

أنواع الدفتيريا

مصدر الصورة

تنقسم عدوى الدفتيريا إلى عدة أنواع رئيسية، تختلف في مواقع الإصابة ودرجة خطورتها:

1. الدفتيريا الأنفية الأمامية:

تظهر فيها طبقة الغشاء داخل فتحتي الأنف. يمتص من هذا الموقع كمية ضئيلة جداً من السم، مما يقلل من خطرها على الحياة ويجعل المضاعفات نادرة.

2. الدفتيريا الحلقية (الفموية):

هي النوع الأكثر شيوعاً. تقتصر العدوى غالباً على منطقة اللوزتين. يتعافى معظم المصابين إذا تلقوا العلاج المناسب بسرعة باستخدام مضاد سم الدفتيريا.

3. الدفتيريا البلعومية الأنفية (Nasopharyngeal):

تعدّ من أكثر أشكال الدفتيريا فتكاً. تنتشر العدوى فيها من اللوزتين لتشمل أنسجة الأنف والحلق، وقد يغطيها الغشاء بالكامل أحياناً، ما قد يؤدي إلى تسمم الدم (Septicemia).

4. الدفتيريا الحنجرية:

تنتج عادةً عن انتشار العدوى من البلعوم الأنفي إلى الحنجرة. قد تسبب انسداداً في مجرى التنفس، مما يستدعي إدخال أنبوب تنفس أو إجراء عملية فتح القصبة الهوائية (Tracheotomy) لإعادة فتح مجرى الهواء.

5. الدفتيريا الجلدية:

يؤثر هذا النوع على الجلد ولا يستهدف الجهاز التنفسي.

تاريخ المرض واللقاح

مصدر الصورة

لم تكن الدفتيريا مجرد مرض، بل كارثة إنسانية متكررة قبل عصر اللقاحات. ففي عام 1735، تفشى المرض في نيو إنغلاند في أمريكا الشمالية، التي كانت مستعمرة بريطانية آنذاك، وقتل آلاف الأطفال خلال أشهر.

وفي أوروبا، كان يعرف هذا الوباء خلال القرن التاسع عشر بـ "البلاء الأبيض" بسبب مشاهد الاختناق الجماعي للأطفال التي أرعبت الأسر والمجتمعات. وتذكر دائرة المعارف البريطانية أن الدفتيريا كانت من الأسباب الرئيسية لوفيات الأطفال في أوروبا وأمريكا قبل اكتشاف اللقاح، إذ كانت تعرف بلقب "القاتل الخانق".

وفي عام 1883، نجح العالمان الألمانيان إدوين كليبز وفريدريش لوفلر في عزل البكتيريا المسببة للمرض. فتح هذا الاكتشاف الباب أمام تطوير أول علاج فعال يعتمد على المصل المضاد للسمّ في تسعينيات القرن نفسه، وذلك بفضل أبحاث إميل فون بهرنغ وباول إرليخ اللذين طورا مبدأ "المناعة السلبية". وقد فاز بهرنغ بجائزة نوبل عن هذا الإنجاز العلمي الكبير.

وفي عشرينيات القرن العشرين، أحدث العالم الفرنسي غاستون رامون ثورة علمية حين طور في معهد باستور بباريس لقاح التوكسويد (toxoid)، وهو شكل معطل من السمّ يحفز الجهاز المناعي دون أن يسبب المرض.

ومنذ إدخال اللقاح إلى برامج التطعيم الروتينية للأطفال، انخفضت معدلات الإصابة بشكل دراماتيكي، حتى اختفى المرض تقريباً من أوروبا وأمريكا في منتصف القرن العشرين.

برامج التطعيم

للوقاية من الدفتيريا، يجب أن ينتج الجسم مضاد السم الخاص به استجابةً للتحصين النشط باستخدام سم الدفتيريا. ولقد أصبح التحصين النشط إجراءً روتينياً في العديد من الدول من خلال تحصين الأطفال بتوكسويد الدفتيريا.

وتوكسويد الدفتيريا هو شكل من السم الخارجي تم تعطيله بحيث أصبح غير سام، لكنه يحتفظ بقدرته على تحفيز تكوين مضاد السم بمجرد حقنه في الجسم.

وعادةً ما يعطى توكسويد الدفتيريا لأول مرة بعدة جرعات متتالية خلال الأشهر الأولى من حياة الطفل، مع جرعات تعزيزية خلال السنة أو السنتين التاليتين، ومرة أخرى عند سن الخامسة أو السادسة.

ويعدّ التحصين الحديث ضد الدفتيريا ضمن جداول التحصين الروتينية للأطفال، فبحلول سبعينيات القرن الماضي، أصبح لقاح الدفتيريا ضمن اللقاح الثلاني (DTP) إلى جانب السعال الديكي والتيتانوس، مما حمى ملايين الأطفال حول العالم.

على الرغم من أن التطعيم الجماعي جعل الدفتيريا من الأمراض النادرة في العالم الحديث، فإن ظهورها مجدداً في الجزائر واليمن وموريتانيا يذكّر بأن الانتصار على الأوبئة ليس دائماً.

وكان حال الدفتيريا مشابهاً في روسيا وبعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق في تسعينيات القرن الماضي، حيث شهدت تفشياً مفاجئاً للمرض بعد انهيار النظام الصحي، وسُجلت آلاف الحالات في غضون أشهر.

وفي نيجيريا، أفاد المسؤولون في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2023 بأن أكثر من 600 شخص، أغلبهم من الأطفال، توفوا بسبب الدفتيريا منذ بدء التفشّي في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2022. ومع وجود 14 ألف حالة مشتبه بها، يُعدّ ذلك التفشّي أسوأ بكثيرَ من التفشّي السابق في عام 2011، عندما تم الإبلاغ عن 98 حالة فقط.

وحتى في الدول المتقدمة ظهرت الدفتيريا، فرغم أن هذا المرض يعدّ نادراً في المملكة المتحدة لأن الأطفال يلقّحون ضده بشكل روتيني، ولكن في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2022 كشفت بي بي سي النقاب عن ارتفاع عدد حالات الدفتيريا بين اللاجئين الذين وصلوا في تلك الفترة إلى المملكة المتحدة إلى أكثر من 50 حالة، وجاء ذلك بعد تأكيد إصابة مهاجر توفي بعد أسبوع من وصوله إلى بريطانيا على متن قارب صغيرَ.

وهناك أسباب أخرى لعودة هذا المرض، إذ يشير الخبراء إلى أن الفجوات المناعية بين الأجيال تعد من أهم أسباب عودة المرض، فالكثير من البالغين لم يحصلوا على جرعات التنشيط التي يُوصى بها كل 10 سنوات، مما يجعلهم عرضة للإصابة رغم تلقيهم اللقاح في الطفولة.

وكذلك يساهم الازدحام المدرسي، وضعف البنية المختبرية، وتأخر التشخيص، في تسهيل انتشار العدوى قبل اكتشافها، وهو ما يفسر سرعة انتشار الحالات في بعض المناطق.

اللقاحات ليست رفاهية

تعد الدفتيريا مثالاً واضحاً على أن اللقاحات ليست رفاهيةً طبية، بل حجر أساس في حماية المجتمعات. وما نشهده في الجزائر واليمن وموريتانيا يثبت أن البكتيريا لا تعرف الحدود، وأن مكاسب الصحة العامة يمكن أن تتراجع بسرعة حين تهمل برامج الوقاية.

كما تكشف عودة الدفتيريا عن عوامل مختلفة تتقاطع في نتائجها، ففي اليمن كان الانهيار الصحي والحرب، وفي الجزائر وموريتانيا كان ضعف التغطية بالتطعيم وتراجع الخدمات الصحية في المناطق النائية. ومع اختلاف السياقات، فإن الخلاصة واحدة وهي ضعف المناعة المجتمعية التي تُعد الأرض الخصبة لعودة أي وباء.

ورغم التقدم العلمي، فإن بكتيريا عمرها قرن نجحت في تذكير العالم بأن الأمن الصحي لا يقل أهمية عن الأمن الغذائي أو الدفاعي، وأن مرضاً يمكن منعه بإبرة واحدة لا يجب أن يسجل ضحايا في القرن الحادي والعشرين.

فأي تراجع في برامج التحصين قد يفتح الباب أمام عودة أمراض منسية، وقد حذّرت منظمة الصحة العالمية من "انتكاسة عالمية" في التلقيح بعد جائحة كورونا، حيث أجّلت حملات التطعيم المدرسية وفُقدت ملايين الجرعات في الدول النامية، مما خلق "فراغات مناعية" داخل مجتمعات بأكملها.

ولا تقف المشكلة عند الجانب الطبي فقط، إذ تلعب المعلومات الخاطئة والمخاوف من اللقاحات دوراً متزايداً في تراجع الإقبال على التطعيم، خصوصاً في المناطق الريفية أو بين فئات سكانية تفتقر للتثقيف الصحي.

ويؤكد خبراء الصحة العامة أن المعركة اليوم ليست فقط في المختبرات والمستشفيات، بل أيضاً في ميدان الاتصال الصحي والإعلام المسؤول، الذي يشرح بلغة بسيطة أن اللقاح آمن وضروري، وأن تركه قد يكلّف الأرواح.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا