شهدت الجلسات رفيعة المستوى خلال الدورة الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة لعام 2025 زيادة لافتة في عدد المتحدثين الذين وصفوا الحرب في قطاع غزة بأنها " إبادة جماعية ". فقد ارتفع عدد الدول التي استخدمت هذا الوصف إلى 44 دولة، وذكر غزة 151 متحدثا في خطاباتهم، بزيادة 18 دولة عن العام الماضي، مما يعكس تصاعد القلق الدولي إزاء الانتهاكات المستمرة وتصاعد حدة النزاع في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وحسب تقرير أعدته مجموعة الأزمات الدولية، فإن الاهتمام الدولي تراجع نسبيا بالنزاع في أوكرانيا، خاصة من الدول خارج إطار الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو)، في حين ظل السودان حاضرا بوصفه أكبر أزمة إنسانية في العالم، لكن من دون نمط جغرافي واضح في الاهتمام الدولي.
كما برزت قضية إصلاح الأمم المتحدة بقوة، وسط تصاعد الحديث عن تحديات المنظمة الدولية السياسية والمالية، ومع الحديث عن مبادرة "الأمم المتحدة 80" كمحور رئيسي لتوفير حلول هيكلية وتوفير في التكاليف.
وفي مقابلة مع الجزيرة نت، تقدم المحللة والباحثة في الأمم المتحدة مايا أونغار تحليلا لهذه التحولات في اهتمامات القادة العالميين، مبينة أن استخدام عبارة "إبادة جماعية" للتعبير عما يحدث في غزة ارتبط بتقارير دولية حديثة وتصعيد مستمر في العدوان، بما في ذلك استنتاج لجنة التحقيق الدولية المستقلة التابعة للأمم المتحدة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة.
ويمكن تلخيص أهم القضايا التي ذكرها محللو خطابات الزعماء في الأمم المتحدة على النحو التالي:
وتعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة جلساتها سنويا في سبتمبر/أيلول بنيويورك ، وتشهد النقاشات العامة مشاركة أكثر من 190 قائدا وممثلا للدول الأعضاء، وتشكل هذه الجلسات فرصة لاستعراض القضايا الدولية الكبرى ورسم السياسات الأممية للعام التالي.
وحسب تقرير مجموعة الأزمات، فقد احتلت القضية الفلسطينية مرتبة الصدارة في نقاشات الجمعية العامة لعام 2025، إذ أشار 151 متحدثا إلى غزة أو فلسطين ، مقابل 146 في العام السابق.
غير أن التحول الأبرز تمثل في ارتفاع عدد الدول التي وصفت الوضع في غزة "بالإبادة الجماعية"، وهو ما ذكرته 44 دولة، أي بزيادة 18 دولة عن السنة الماضية. ويتمركز هذا التحول أساسًا في دول آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية والكاريبي، بينما لم يتغير موقف معظم الدول الغربية.
وتربط أونغار بين هذا التصاعد في الخطاب واستمرار النزيف الدموي في غزة، إضافة إلى تقارير أممية حديثة خلصت إلى توصيف جرائم إسرائيل في القطاع "بالإبادة الجماعية"، مما جعل القضية الفلسطينية في واجهة الاهتمام السياسي الدولي، وبارتفاع يمثل 69% عن العام الماضي.
يذكر أن قطاع غزة تعرض على مدى العامين الماضيين إلى عدوان إسرائيلي غير مسبوق، استشهد إثره نحو 70 فلسطينيا وأصيب أكثر من 170 ألفا، فضلا عن تعرض نحو 90% من البنية التحتية إلى التدمير، ونزوح أغلب سكان القطاع البالغ عددهم نحو 2.3 مليون.
رغم أن أزمة أوكرانيا كانت موضوعا أساسيا في خطابات القادة هذا العام، فإنها سجلت تراجعًا بلغ 30%، إذ تطرقت إليها 106 دول فقط هذا العام مقابل 116 العام الماضي، و138 في 2022.
وحسب ما قاله محللو مجموعة الأزمات، فقد برزت ظاهرة امتناع 51 دولة عن ذكر روسيا صراحة عند الإشارة لأوكرانيا، في دلالة على تزايد الحذر الدبلوماسي.
ويقول تقرير المجموعة إن عديدا من هذه الدول يصور الحرب الآن كقضية أوروبية بحتة، على الرغم من استمرار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في تأكيده تداعيات الحرب عالميا. وفي الوقت نفسه، فقدت الجمعية العامة بعضا من أهميتها بالنسبة لأوكرانيا كمنتدى لتغيير الرأي الدولي حول النزاع.
وحسب تحليل أونغار -للجزيرة نت- فإن ذلك يعود أيضا إلى تلاشي المخاوف الأولية بشأن تداعيات الحرب على الأمن الغذائي العالمي، مقابل استمرار الاهتمام بها في الدوائر الغربية (الاتحاد الأوروبي والناتو) ليصبح الملف أوكرانيًا بحتًا في عيون كثيرين خارج تلك الدوائر.
وتعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة جلسات استثنائية بناء على التطورات العالمية الكبرى، ففي أواخر عام 2022 وأوائل 2023 كانت أوكرانيا محور قرارات وعمليات تصويت مكثفة حول دعم سيادتها وعقوبات على روسيا، أما في عام 2025، فقد تقلص عدد تلك القرارات رغم أن الحرب ما زالت مستمرة.
رغم اتساع دائرة الأزمة الإنسانية السودانية، فإن الحرب هناك لم تلقَ اهتماما مماثلا، إذ أشار تقرير مجموعة الأزمات إلى أن 62 دولة فقط ذكرت السودان في خطاباتها هذا العام مقارنة بـ65 في السنة الماضية.
كما لم يكن هناك نمط جغرافي واضح في الدول التي تناولت هذا الملف، إذ ذكرته 20 دولة أفريقية، وسُجل تفاوت كبير بين أعضاء المجموعة الأفريقية في الإشارة إلى السودان بين عام 2025 وما قبله.
ويشير تحليل الباحثة في الأمم المتحدة إلى أن السودان يُعامل غالبا كأزمة "منسية" في الساحة الدولية، بعكس الانتظام الملحوظ في الإشارات إلى غزة وأوكرانيا، مبينة أن ذلك يرتبط بعدم تبلور أولويات واضحة للملف السوداني على أجندة دولية متزاحمة.
يأتي هذا التراجع في الأزمة التي خلفتها الحرب في السودان رغم أن المنظمات الأممية صنفت السودان هذا العام أكبر أزمة إنسانية على مستوى العالم، حيث تجاوز عدد النازحين داخليا وخارجيا حاجز 10 ملايين، في ظل تراجع الاستجابة الدولية وانحسار المساعدات منذ العام الماضي.
ونشبت الحرب في السودان يوم 15 أبريل/نيسان 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ، وما زال أوارها مشتعلا، مما خلف عشرات آلاف القتلى وتشريد ملايين الأشخاص بين نزوح داخلي ولجوء في دول الجوار، في واحدة من كبرى الأزمات الإنسانية في تاريخ البلاد.
ارتفع عدد الدول التي ناقشت ملف الإصلاح في الجمعية العامة إلى 128 دولة، مقابل 100 في 2024، وتركز محور الاهتمام على أمرين:
وتقول أونغار إن هذا التصاعد يمثل 28% زيادة عن العام السابق بين الدول المطالبة بإصلاحات في الأمم المتحدة، مؤكدة أن هذا يرجع جزئيا إلى وجود اعتراف بأن عملية "الأمم المتحدة 80" ليس لديها خيار سوى النجاح، وإلا فقد يتهدد وجود المؤسسة نفسها.
وأضافت المحللة والباحثة في الأمم المتحدة أن المناقشات في الأسبوع رفيع المستوى أشارت إلى أن الأزمة المالية للأمم المتحدة تعني تغييرات كبيرة بالنسبة إلى المنظمة، وأي مناقشة جديرة بالاهتمام حول مستقبل الأمم المتحدة في السلام والأمن الدوليين يجب أن تأخذ ذلك في الحسبان.
وتاريخيا، شكلت سنوات الأزمة المالية أو الأزمات الجيوسياسية الكبرى دافعا لمبادرات إصلاحية في الأمم المتحدة، وقد يمهد عام 2025 لما يعتبره بعض الخبراء أكبر تحوّل في هيكل المنظمة منذ تأسيسها.
وتُظهر التحليلات السابقة كيف انعكست التحولات الجيوسياسية في خطابات قادة الدول خلال الجمعية العامة لعام 2025 على الاهتمامات الدولية، فأصبحت غزة أكثر قضايا السلام والأمن حضورا، وتراجعت أولوية أوكرانيا خارج الدوائر الغربية، وبقي السودان أزمة إنسانية من دون زخم سياسي متواصل.
أما ما يتعلق بإصلاح الأمم المتحدة، فقد فرض نفسه كملف مركزي يستشرف مستقبل المنظمة في ظل أزمات مالية وسياسية متصاعدة. وبينما ترسم هذه الاتجاهات ملامح السياسات المقبلة، تشير الوقائع إلى أن قدرة الأمم المتحدة على الاستجابة الفاعلة ستبقى رهينة لإرادة الدول الأعضاء وسرعة تحولات الرأي العالمي، خاصة في ظل تغير القيادة المرتقب للمنظمة، حسب تقرير مجموعة الأزمات الدولية.