آخر الأخبار

يوميات من غزة حيث لا فناء لثائر

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

في غزة، حيث الإبادة على مرأى ومسمع من العالم مستمرة لعامين، وصارت البلاد بيوت عزاء مفتوحة، كتب 100 كاتب وفنان يومياتهم في "استعادات مقلقة، يوميات غزة، مئة كاتب وفنان من غزة يكتبون عن الحرب" ليقدّموا رواية جماعية للحياة في ظل الحرب.

ويوثق الكتاب الذي حرره عاطف أبو سيف تجربة إنسانية تكاد لا تتكرر، يصور فيها صمود الناس، ونزوحهم وذكرياتهم، ومحاولاتهم للحفاظ على حيواتهم وسط الدمار، ويقدم زاوية فريدة: شهادات مباشرة، وتأملات أدبية، ولقطات لحياة تحاول الاستمرار رغم المحن.

وهنا لا تُختصر الحكاية في الدمار أو النزوح فحسب، بل في أصوات الأحياء الذين كتبوا ليذكَروا العالم بمأساتهم، ليقولوا: نحن هنا، لنا ذكرياتنا وأحلام، وليل الاحتلال منجلٍ لا محالة. "استعادات مقلقة" إذن، ليس توثيقًا للحرب فحسب، إنه وثيقة إنسانية تثبت أن الكتابة فعل مقاومة.

مصدر الصورة المؤلَف يصوّر الصمود والنزوح والذكريات ومحاولات الحفاظ على الحياة وسط الدمار (الجزيرة)

الكتابة عن الحرب من داخلها

لا يكتفي الكتاب بنقل الأحداث وليس هذا هدفه، بل يأخذ القارئ معه ليعيش الحكاية القاسية مع الذين كتبوا من قلب القصف والحصار حيث تحمل الكلمات أصداء العذاب والألم، لتشكل نصا يعكس صراع الإنسان مع الموت، ومحاولاته للنجاة، ويصير كل نص منها أشبه بنافذة تطل على أرض غزة بكل تفاصيلها: شوارعها، بيوتها المدمّرة، خيامها، ذكريات أطفال يبحثون عن لحظة أمان.

والكتابة في هذا العمل فعل وجودي بامتياز، فهم لم يكتبوا بعد انتهاء الحرب بل في خضمها، تحت ضغط القصف والدمار، وهذا يجعل النصوص شاهدة على لحظات حقيقية لا يمكن التقاطها إلا من الداخل، بعيدا عن أرقام الإعلام ولقطات الكاميرات التي غالبا ما تبسط المعاناة وتختزلها إلى صور ثابتة قلما تظهر أبعادها الإنسانية.

ويتقاطع في الكتاب 3 مستويات لغوية:


* الواقعية التي تنقل تفاصيل الحياة اليومية تحت الحصار والقصف.
* الشاعرية التي تنسج لحظات تأملية عن الحب والحنين والأمل.
* الفانتازيا التي تمنح الكتابة مساحة للخيال في مواجهة الواقع الوحشي.
إعلان

ويجعل هذا المزج النصوص أكثر ثراء وصدقا، ويتيح للقارئ أن يعيش الحرب بأبعادها الإنسانية، بعيدا عن كونها حدثا تاريخيا أو سياسيا، فالخطر والموت والذكريات والأحلام كلها تتقاطع في نصوص الكتاب لتشكل فسيفساء الحياة اليومية في غزة.

الكتّاب والفنانون المشاركون

شارك في هذا المشروع الأدبي 100 كاتب وفنان فلسطيني من غزة، يمثلون أصواتًا مختلفة ومتنوعة.

وبعضهم استُشهِد لاحقًا، ومنهم أحمد الكحلوت، بلال عقل، رفعت العرعير، نور الدين حجاج، هبة أبو ندى، هبة محمد المدهون. وهؤلاء الذين نالوا الشهادة بعد الكتابة، صارت نصوصهم شاهدة على وجودهم ومقاومتهم الأدبية.

كما تضم الكوكبة كُتابا ما زالوا يكافحون داخل غزة أو خارجها. وكل المشاركين لم يكتبوا للنداء الإعلامي أو الشهرة، إنما لتثبيت الذاكرة الجمعية وحماية الهوية الإنسانية، وإعادة تعريف الحياة الفلسطينية من الداخل، بعيدا عن الصور النمطية أو الأخبار المجردة من التفاصيل الحياتية.

النزوح وفقدان الهوية

من أبرز الموضوعات التي يعالجها الكتاب: النزوح القسري وأثره على الإنسان، وأزمة الانتقال من حي إلى آخر يوصف بأنه "أكثر أمنا" كما تروج رواية المحتل أو من شمال القطاع إلى جنوبه، ففي غزة كل هذا -على ما فيه من مشقة ومهالك- لا يعني النجاة بالضرورة.

والنصوص تضيء على جانب إنساني قد لا يُلتفَت له مع صخب الموت والانتقال: النزوح ليس انتقالا فحسب بل هو هروب بالقليل حيث يفرض النزوح على الإنسان اختيار الأجزاء التي سيأخذها معه، والأجزاء التي سيتركها للموت.

يقول أحد المشاركين في الكتاب:

"أجهِّزُ نفسي لأنزح من هذه الخيمة أيضا، ربما نزحتُ بعدد أصحاب المعلقات العشر، أو ربما بعدد علوم اللغة الاثني عشر، وربما أيضًا بعدد بحور الشعر العربي الستة عشر، جلبتُ معي في هذه الخيمة ما شاء الله لي من علماء اللغة والأدب والقراءات، أسامرهم وأذاكرهم، لا أنسى سؤالاتي لسيبويه ولا لأبي عمرو ولا لابن مالك، كان أبو حيان دائمًا معي حادَّ المزاج متقلِّبَه، كنتُ أطربُ جدًّا لسعة علم السيوطي، جمع من مسائل العلم أدناها وأقصاها، ولم يغادر صغيرة ولا كبيرة فيه إلا أحصاها…".

وتدور التجربة اليومية التي يركز عليها الكتّاب في فلك ما يسببه النزوح من غربة في النفس، فالنزوح في حقيقته صراع للحفاظ على الهوية والذاكرة والأمل، فهنا يختبر الإنسان فقدان الأمان، ويواجه صعوبة في التمييز بين المسارات التي تؤدي إلى النجاة أو الموت، وتعطي هذه التفاصيل والمعاني الدقيقة للكتاب خصوصيته، وتخرجه عن السرد العادي وتجعله تجارب من لحم ودم.

الحرب ما بين الصورة والأرض

يبرز الكتاب بوضوح الفارق بين مشاهدة الحرب على وسائل الإعلام وبين عيشها تجربة حية، الصور والمرئيات على كثرتها لا تنقل فزع النفوس، ولا الفجيعة والتلوع من فقدان الأحبة، ولا لحظات البحث عن الماء أو الطعام وسط الركام.

ويقدم الكتّاب المشاركون للقارئ وجهًا إنسانيًا للحرب: لحظات الانفجار وما يرافقها من أصوات وصراخ وفقدان أمان، واللحظات القصيرة للابتسامة أو المساعدة المتبادلة بين الجيران. فهذه الجوانب الإنسانية العميقة يصعب أن تُلتقط إلا من داخل التجربة، وهو ما يجعل الكتاب وثيقة حقيقية للحياة في غزة.

الذاكرة الجمعية والمقاومة بالكتابة

يُظهر المؤلَف أن الكتابة فعل مقاومة. وكل نصّ يمثل محاولة للحفاظ على الوجود الإنساني، وتثبيت الحياة أمام آلة الحرب الصهيونية الوحشية التي تسعى للمحو والإبادة. والكتابة هنا ليست مجرد فن، بل وظيفة اجتماعية وتاريخية: تثبت الحق في الوجود، وتعيد توجيه الانتباه إلى قصص الأفراد الذين غالبًا ما تُهمل حكاياتهم في السرد التاريخي التقليدي.

إعلان

وهكذا تصبح "استعادات مقلقة" مشروعًا لإنقاذ الذاكرة الجمعية، إذ يوثّق لحظات لم يُكتب عنها من قبل: الضحك، والخوف، والرحيل، والأمل في مواجهة الخراب. فالمؤلَف يقدم نموذجًا للكتابة المقاومة، حيث يتحول النص الأدبي إلى سلاح يقاوم النسيان.

تأثير الحرب على النسيج الاجتماعي

لا يغفل الكتاب أيضًا تأثير الحرب على العلاقات الاجتماعية، فالنصوص فيها وقفات عند ارتفاع الأسعار، وندرة الموارد، وغياب الأمن وما يخلفه كل ذلك من ضغوط جديدة على المجتمع. وإلى جانب هذا تظهر في النصوص ملامح إنسانية من تقريب البلاء بين الناس : الفزعة بين الجيران، والتعاضد بين الأسر، وإصرار الناس على حماية بعضهم البعض. وبهذا يقدم المؤلَف صورة متكاملة للمجتمع الفلسطيني: هشّ ومتعب في الأوقات القاهرة، لكنه مقاوم، حيّ في روحه، ومتمسك بالكرامة الإنسانية والحق في الحرية والأرض.

التجربة الأدبية بوصفها مرآة للمجتمع

من الناحية الأدبية، ينجح الكتاب في الجمع بين اليوميات، والقصة القصيرة، والشعر، والتأملات. ويتيح هذا التنوع للقارئ أن يرى غزة بوصفها فضاءً إنسانيًا متكاملًا: حيث تصرخ المدن، وتختبئ الذكريات، ويتحدى الأمل الموت كل دقيقة.

وفي كل نصّ هناك إحساس بأن الكتابة ليست محض فعل فردي، بل تجربة جماعية تعكس صمود المجتمع، وأحلامه، وكفاحه المستمر. وهذا ما يجعل المؤلَف تجربة ثقافية فريدة، ومصدرًا مهمًا لفهم الحياة اليومية في غزة تحت الحصار.

الكتابة ضد الفناء

يغادر القارئ هذا المؤلَف وقد لمس جوهر الكتابة وغايتها، إذ صارت وسيلةَ نجاة ووجود. إن "استعادات مقلقة" ليس توثيقًا للحرب فحسب بل هي دليل على أن الكتابة تحمي الإنسان من الفناء، وتجعل صوته أقوى وأصخب وأبلغ من آلات الموت والقتل والتدمير والتجويع.

وبهذا الشكل، يجمع الكتاب بين الأدب والتاريخ والشهادة الإنسانية والذاكرة الجمعية، ليصبح مرجعًا ثقافيًا وأدبيًا يقدم للقارئ العربي والعالمي غزة كما عاشها أهلها وكما رأوا من أهوال حقا.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة


الأكثر تداولا حماس دونالد ترامب اسرائيل

حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا