بدأ رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر طرح رؤيته لمرحلة ما بعد وقف إطلاق النار في غزة، معلنا استعداد بلاده للقيام بدور قيادي في نزع سلاح حركة حماس، مستندا إلى خبرة بريطانيا في إقناع الجيش الجمهوري الأيرلندي بالتخلي عن سلاحه في أيرلندا الشمالية.
وأكد ستارمر أمام البرلمان أن نزع سلاح غزة خطوة حيوية لضمان استدامة الهدنة بين إسرائيل وحماس، مستشهدا بنجاح تجربة اتفاق الجمعة العظيمة عام 1998 الذي أنهى ثلاثة عقود من العنف الطائفي.
ورغم اعترافه بصعوبة المهمة، شدد ستارمر على أنها ضرورية لتحقيق سلام دائم، مشيرا إلى أن خبرة بلاده في "إخراج السلاح من المعادلة السياسية"، قد تكون نموذجا يحتذى به في الشرق الأوسط.
هذه المقارنة الجريئة أثارت جدلا واسعا حول مدى واقعية إسقاط تجربة أيرلندا الشمالية على صراع معقّد كالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
استند نموذج ستارمر إلى تجربة أيرلندا الشمالية التي تُوجت باتفاق الجمعة العظيمة عام 1998، حيث اعترف الاتفاق بالطموحات المشروعة للجمهوريين والوحدويين، وأسس حكومة محلية لتقاسم السلطة.
شمل الاتفاق إصلاحات أمنية وسياسية، منها نزع سلاح الجماعات المسلحة بإشراف لجنة مستقلة برئاسة الجنرال الكندي جون دي تشاستيلين.
ورغم الإرادة السياسية، تعثرت عملية نزع السلاح بسبب انعدام الثقة، ولم يعلن الجيش الجمهوري الأيرلندي (IRA) إنهاء كفاحه المسلح إلا في 2005 (أي بعد 7 سنوات)، بعد خطوات لبناء الثقة ومراقبة دولية لمخازن الأسلحة. وافق (IRA) على وجود شخصيات دولية كمفتشين، وتم التحقق من التخلص الكامل من ترسانة ضخمة من الأسلحة.
الدور البريطاني كان جزءا من صفقة شاملة، حيث خفّضت لندن وجودها العسكري وأزالت الحواجز الأمنية، بالتوازي مع تخلي الجماعات المسلحة عن السلاح. كما قبلت التفاوض مع حزب شين فين، الجناح السياسي للجيش الجمهوري، بعد إدراك الأطراف أن الصراع لا يُحسم بالقوة.
هذا الإدراك، إلى جانب إنهاك المجتمعين الكاثوليكي والبروتستانتي من دوامة العنف، مهّد لحلول وسط تاريخية. هكذا تحقق نموذج لنزع السلاح ناجح نسبيا: سلّم المسلحون سلاحهم مقابل مكاسب سياسية وضمانات، وتحولت قوى كانت متمردة إلى أطراف في الحكم المحلي.
لكن هل يمكن استنساخ هذا النموذج في غزة؟ الإجابة تتطلب تحليلا دقيقا لثلاثة أبعاد جوهرية: البعد السياسي، الذي يتعلق بشرعية الأطراف واستعدادها للتفاوض؛ البعد القانوني، المرتبط بالإطار الذي ينظم عملية نزع السلاح؛ والبعد التقني/الأمني، الذي يشمل آليات التحقق وضمانات التنفيذ.
من الناحية السياسية، يختلف السياق جذريا بين أيرلندا الشمالية وغزة. فالصراع في أيرلندا كان داخليا ضمن السيادة البريطانية، بينما يمثل صراع غزة وفلسطين مواجهة تحررية ضد احتلال معترف به دوليا بصفته احتلالا.
اتفاق الجمعة العظيمة 1998 تضمن اعترافا سياسيا بالطرف المسلح، إذ أُشرك حزب شين فين في الحكم، وأُقرّ حق تقرير المصير. أما في الحالة الفلسطينية، فالدعوات لنزع سلاح حماس- كما يطرحها ستارمر وغيره – تأتي دون أي ضمانات سياسية أو إشراك للحركة في مستقبل غزة، بل مع توجه لإقصائها بالكامل، رغم أنها فازت بانتخابات 2006، وتدير القطاع منذ أكثر من 15 عاما.
في أيرلندا، ألقى الجيش الجمهوري سلاحه بعد ضمانات سياسية ومكاسب ملموسة، بينما يُطلب من حماس التخلي عن الحكم والسلاح دون مقابل، ما يجعل المقارنة مجتزأة. كذلك، تعاملت بريطانيا مع العنف دون حرب إبادة أو حصار، بينما ردّت إسرائيل على مقاومة حماس بحملة عسكرية مدمرة وحصار خانق، ما يعكس اختلافا جوهريا في إدارة الصراع.
كما أن البنية السياسية للصراعين مختلفة: ففي أيرلندا، كان هناك طرفان محليان واضحان توصلا إلى صيغة توافقية داخل كيان الحكم الذاتي.
أما في فلسطين، فالوضع أكثر تعقيدا، مع انقسام داخلي واحتلال خارجي، ما يجعل أي ترتيبات تخص غزة فقط – كنزع سلاح حماس مقابل إعمار- غير كافية لحل القضية الفلسطينية الأشمل. لذا، فإن استنساخ النموذج الأيرلندي دون معالجة الجذور السياسية للصراع الفلسطيني ينطوي على مخاطرة كبيرة.
يتجلى الفارق القانوني بين الجيش الجمهوري الأيرلندي (IRA) وحركة حماس في تعريف كل منهما ضمن الأطر القانونية المحلية والدولية. فقد تعاملت بريطانيا مع الجيش الجمهوري بوصفه تنظيما إرهابيا غير قانوني، حيث حوكم أفراده كمجرمين دون الاعتراف بهم كمقاتلين شرعيين، ولم تُقرّ بوجود نزاع مسلح رسمي في أيرلندا الشمالية.
وحتى خلال مفاوضات السلام، تمسكت بريطانيا بسيادتها القانونية واستخدمت آليات العفو والإفراج المشروط دون منح أي صفة "أسرى حرب". وقد جسّد اتفاق الجمعة العظيمة معادلة "العفو مقابل السلام"، إذ أُفرج عن سجناء الفصائل ضمن تسوية سياسية داخلية دون مساءلة قضائية أو تدخل دولي.
في المقابل، ترى حركة حماس نفسها حركة تحرر وطني تقاوم احتلالا أجنبيا، مستندة إلى مبادئ القانون الدولي الإنساني وقرارات الأمم المتحدة التي تعترف بحق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال في النضال لنيل حريتها، بما في ذلك الكفاح المسلح ضمن قيود إنسانية.
وقد وسّع البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 نطاق النزاعات الدولية ليشمل حروب التحرر ضد الاحتلال والسيطرة الاستعمارية، وهو ما ينطبق على الحالة الفلسطينية. ورغم أن إسرائيل لم تصادق على البروتوكول، فإن دولة فلسطين انضمت إليه عام 1989، مما يمنح المقاومة الفلسطينية أساسا قانونيا دوليا.
كما أن حماس فازت بأغلبية مقاعد البرلمان الفلسطيني في انتخابات عام 2006، وتحظى بشعبية واسعة في الوسط الفلسطيني، ما يجعلها طرفا ذا شرعية سياسية واجتماعية، إضافة إلى كونها سلطة أمر واقع في غزة تتحمل مسؤوليات تجاه السكان بموجب القانون الإنساني الدولي.
أما في مسألة المحاسبة، فبينما طُويت صفحة النزاع في أيرلندا عبر العفو العام، يشهد النزاع الفلسطيني تحقيقا من المحكمة الجنائية الدولية في جرائم حرب محتملة تشمل جميع الأطراف، ما يجعل أي تسوية سياسية أكثر تعقيدا، إذ يخشى كل طرف من الملاحقة الدولية مستقبلا. وفي الوقت نفسه، تبقى إسرائيل قوة احتلال قانونيا رغم انسحابها من داخل غزة عام 2005؛ بسبب استمرار سيطرتها على المعابر والمجالين؛ الجوي والبحري، وفرضها الحصار.
وخلاصة القول: يمنح القانون الدولي حماس وضعا مغايرا عن (IRA)، إذ يعترف بحق الشعوب في مقاومة الاحتلال ضمن شروط محددة. لذلك، فإن أي مقاربة لنزع سلاح حماس يجب أن تُبنى على أسس قانونية عادلة تراعي واقع الاحتلال وحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم؛ لأن تجاهل هذه الخصوصية القانونية والسياسية سيجعل أي تسوية ناقصة.
البعد التقني-الأمني يبرز تباينا جوهريا بين تجربة نزع سلاح الـ(IRA) وحجم وتركيب ترسانة حماس، ويحدد مدى صعوبة تنفيذ عملية قابلة للتحقّق في غزة.
من حيث الترسانة، كان لدى الـ(IRA) مخزون محدود نسبيا تضمن بنادق خفيفة ومتفجرات (Semtex) وبعض القاذفات والذخائر المهربة، وكانت مخابئها محددة نسبيا في الريف وجزيرة أيرلندا ما سهل التحقّق الميداني بعد توافق قيادة الحركة.
في المقابل، تملك حماس ترسانة أكبر ومتنوّعة تشمل آلاف الصواريخ بأنواع ومدى مختلفين، قذائف هاون، طائرات مسيّرة هجومية، أسلحة مضادة للدروع ومخازن موزعة داخل شبكة أنفاق؛ إضافة إلى قدرات صناعية محلية تعيد إنتاج مكوّنات السلاح، ما يجعل الضبط الدائم أعقد بكثير.
بُنية الإخفاء والمرونة الصناعية تزيدان التعقيد: في حين أن مخابئ الـ(IRA) كانت قابلة للتعقّب والتحقّق بتنسيق محلي وإقليمي، بَنَت حماس نظامَ إخفاءٍ متداخلا، مما يجعل الوصول الآمن إلى مواقع التخزين والتعطيل مستحيلا عمليا دون تعاونها. لذلك أي عملية جمع أو تعطيل للأسلحة في غزة لا تُمثّل مجرد إزالة مخزون موجود، بل مواجهة قدرة متجددة على إعادة التصنيع والاختفاء، ما يفرض حلولا تقنية وأمنية مستمرة وليست مؤقتة.
نجاح نزع السلاح في غزة مشروط سياسيا وأمنيا:
ثالثا، يتطلب الأمر آليات مراقبة دائمة: (بحرية، برية، جوية وعمليات رقابة للمعابر)، وتقنيات كشف وتتبع (رغم محاولات المراقبة السابقة، فإن الوصول الفعلي إلى تلك المواقع ظل محدودا).
كما ينبغي اعتماد بروتوكول أمني يضمن سلامة المفتشين والسكان المدنيين، مع وجود آليات شفافة وقضائية تراقب التنفيذ، وتمنع أي تجاوز أو تعطيل للعملية.
الجانب التقني ممكن لكنه غير كافٍ بمفرده؛ نزع السلاح عمل فني وسياسي في آن معا. وغياب حل سياسي جذري أو تعاون القيادة سيؤدي إلى فراغ أمني وانشقاقات أو بروز مجموعات بديلة. لذا النجاح يحتاج إلى توافق سياسي إقليمي ودولي، وتفويض تنفيذي واضح، ومنظومة رقابية وطويلة الأمد مرافقة لبرامج اجتماعية-اقتصادية لإعادة الاستقرار.
إن نجاح أي عملية لنزع السلاح يعتمد أيضا على ضمان العدالة الانتقالية، وآليات محاسبة شفافة، ومشاركة مجتمعية واسعة تضمن قبول السكان، مع ضمانات دولية لحماية الحقوق وإعادة بناء مؤسسات أمنية تحظى بشرعية وطنية وطويلة الأمد وتدابير اقتصادية واجتماعية ملموسة ومستدامة.
التجربة الأيرلندية قد تحمل دروسا مفيدة، لكن استنساخ نموذج بلفاست في غزة يواجه اختلافات جوهرية تجعله محفوفا بالمخاطر. فمن ناحية، فإن نزع سلاح طرف مقاوم لا يُحلّ إلا ضمن اتفاق سياسي يُلبّي جزءا مهما من طموح هذا الطرف.
في أيرلندا، جرت تسوية داخل سيادة دولة واحدة أمّنت بدائل سياسية واجتماعية للمقاتلين، بينما في الحالة الفلسطينية يبقى الاحتلال الطويل، وغياب الحقوق الوطنية، والحصار المستمر عناصر مغيّبة إذا اقتصر التركيز على السلاح وحده.
فرض نزع السلاح بالإكراه في سياق استمرار الاحتلال (بكل شروره) سيولّد رد فعل مضادا ويعمّق الرفض الشعبي. لدى الجمهور الفلسطيني، يُنظر إلى السلاح أحيانا كصمام أمان ضد عدوان مستمر؛ لذا الوعود بالإعمار أو المساعدات المادية وحدها لا تكفي لاحتواء المخاوف، أو استبدال الشرعية الشعبية بالقوة المسلحة.
التجارب التاريخية تعلمنا أن نزع السلاح الفعلي عادة ما يتبع اتفاقات سياسية تُعالج الأسباب البنيوية للنزاع، لا يسبقه؛ ومحاولات معزولة لنزع السلاح من دون معالجة جذور المشكلة غالبا ما تؤدي إلى تجدد المقاومة، أو ظهور أشكال مسلحة بديلة.
فيما يخص تجربة منظمة التحرير الفلسطينية، لم يحدث نزع سلاح شامل وقابل للتطبيق داخل مناطق النزاع. فبعد خروج المنظمة من لبنان عام 1982، وانتقال قيادتها إلى تونس، شهدت بنية السلاح الفلسطيني تحولا كبيرا؛ إذ جرى حل أو تقليص بعض التشكيلات العسكرية، بينما أعادت فصائل أخرى تموضعها في الخارج.
وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، أدى اتفاق أوسلو عام 1993 إلى إنشاء أجهزة أمنية فلسطينية جديدة، نُقل إليها جزء من المقاتلين ضمن ترتيبات السلطة الناشئة، لكن ذلك لم يؤدِ إلى إلغاء كامل لآليات المقاومة.
مع مرور الوقت، ظهرت أنماط تسليح جديدة لأسباب سياسية وأمنية كثيرة: تصنيع محلي في غزة (كالصواريخ القصيرة المدى)، وتهريب عبر الأنفاق والمعابر، ودعم خارجي وفني سمح بإعادة بناء قدرات قتالية تختلف نوعيا عن ترسانة منظمة التحرير السابقة. وهكذا، أثبتت التجربة أن نزع سلاح قيادة واحدة لا يُنهي الظاهرة المسلحة ما دامت أسبابها الجوهرية قائمة.
غياب ضمانات أمنية متوازنة يمثل عقبة أخرى. إسرائيل تطالب بضمانات ضد الصواريخ والأنفاق، بينما يطالب الفلسطينيون بحماية مدنية، وإنهاء الحصار، ووقف الاعتداءات.
نزع السلاح من دون آليات تحقق وحماية سيترك السكان في وضع هش أمام قوة احتلال متفوقة عسكريا، ما ينهش الثقة في أي ترتيبات دولية.
يمكن الاستفادة من عناصر من تجربة أيرلندا، الوساطة الدولية، التدرج، الإدماج. لكن في غزة، كما في كل نزاع تحرري، لا يُنزع السلاح قبل أن يُستعاد الحق.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.