مع صعوبة الوصول إلى مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور الواقعة غربي السودان، التي تحاصرها قوات الدعم السريع منذ أكثر من عام، أصبح الصحفيون المحليون القلائل المتبقون في المدينة، من المصادر النادرة للأخبار والمعلومات، لنقل ما يدور داخلها.
وعندما تسرّبت الأنباء الواردة من الفاشر، عن نفاد المواد الغذائية التي كانت موجودة هناك، وتوقّف آخر المطابخ الجماعية الطوعية - التي كانت توفّر الطعام للسكان العالقين - عن العمل، تواصلتُ مع أحد هؤلاء الصحفيين للحصول على مواد مصوّرة، توثّق تأثير هذا التوقّف، فكانت إجابته صادمة.
قال لي إنه لا يستطيع مغادرة مقر سكنه، لأن جسده لم يعد يقوى على الحركة بسبب الجوع.
وأضاف الصحفي، الذي كان يتحدث بصوت واهن: "لا يوجد طعام أو مواد غذائية في الفاشر. خرجتُ قبل يوم بحثاً عن أي شيء يمكن شراؤه وأكله، لكنني لم أجد شيئاً. المتجر القريب الذي كنت أذهب إليه أصبحت رفوفه فارغة تماماً".
وأوضح الزميل الصحفي، الذي فضّل عدم ذكر اسمه: "أُصبتُ بالملاريا بسبب الجوع.. والآن أفكر في مغادرة المدينة، رغم أن الوضع غير آمنٍ. سمعتُ أن بعض النساء لقين حتفهنّ في مراكز الإيواء بسبب الجوع. السكان الآخرون يقولون إنهم في انتظار الموت. ليس لديهم ما يفعلونه، خاصة وأن معظمهم من النساء والأطفال".
تضم مدينة الفاشر، آخر معاقل الجيش السوداني في إقليم دارفور، مئات الآلاف من الأشخاص، غالبيتهم من النساء والأطفال، يعيشون في ظروف إنسانية شديدة التعقيد، وسط استمرار المعارك بين الجيش والفصائل المتحالفة معه من جهة، وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، من جهة أخرى.
وتسعى قوات الدعم السريع إلى السيطرة على المدينة الاستراتيجية، التي تشكل مركزاً تجارياً واقتصادياً مهماً في الإقليم، وتقع على مفترق طرق تجارية تؤدي إلى الحدود مع دولتَيْ ليبيا وتشاد.
يقول شهود عيان إن قوات الدعم السريع أحكمت سيطرتها على المناطق المحيطة بالفاشر تماماً، عبر وضع سواتر ترابية، تُستخدم لمنع دخول المواد الغذائية، أو خروج السكان.
وقال أحد التجار لبي بي سي إن القليل من المواد الغذائية كان يصل إلى الفاشر خلال الشهر الماضي، ولكن بعد اكتمال وضع السواتر الترابية، لم يعد من الممكن إدخال أي شيء.
وأضاف بالقول: "قوات الدعم السريع تتحكم في إدخال كل شيء إلى المدينة عبر بوابات صغيرة يحرسها جنود. كانوا يسمحون بإدخال المواد الغذائية مقابل مبالغ مالية ضخمة، لكنهم رفضوا مؤخراً إدخال أي شيء، حتى الدُخُن والعيش (الذرة الرفيعة)، مهما كانت الإغراءات المالية".
الأرقام التي ترصدها الأمم المتحدة حول الأوضاع في الفاشر تبدو صادمة.
وتقول المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة إن واحداً من كل أربعة أشخاص في الفاشر، يواجه خطر الجوع الشديد، مشددة على أن البرنامج يحذّر من أن العديد من السكان العالقين، يواجهون هذا الخطر، "واستمرار هذا الوضع أمر غير مقبول".
وأضافت تقول: "الناس هناك مضطرون لأكل علف الحيوانات. هذا أمر غير ممكن، ولا بد من السماح لنا بإيصال المساعدات، التي أصبحت جاهزة بالقرب من الفاشر، ونحن مستعدون لإيصالها".
طوال الأشهر الماضية، اعتمد السكان العالقون في المدينة بشكل أساسي، على المطابخ الجماعية التي توفّر الطعام مجاناً، في ظل تعذّر إدخال المساعدات الإنسانية، عبر وكالات الأمم المتحدة.
أما الآن، فقد توقّفت كل المطابخ عن العمل، حتى المطبخ الوحيد الذي كان مستمراً لم يعد قادراً على مواصلة عمله، بحسب محيي الدين شوقار، وهو أحد مؤسسيه.
وقال: "لقد توقفنا تماماً بعد نفاد المواد الغذائية من الفاشر. وحتى إن وُجد شيء للشراء، فإن التجار يطلبون مبالغ خيالية لا يمكننا توفيرها، لأننا نعتمد في التمويل على مساهمات الناس".
جرت محاولات عديدة لإدخال المساعدات الإنسانية الدولية إلى داخل المدينة المحاصرة.
وتزايدت آمال السكان بشكل كبير في إمكانية وصول المساعدات، عندما أكّد مبعوث الرئيس الأمريكي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مسعد بولس، في مطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري، أن قوات الدعم السريع وافقت على إدخالها.
لاحقاً، أكد قائد هذه القوات، الفريق محمد حمدان دقلو، الشهير بـ"حميدتي"، صحة هذه المعلومات، وقال في بيان إنه على استعداد للتعاون من أجل إدخال المساعدات، وذلك بعد أشهر من الممانعة.
لكن لم تمضِ سوى أيام قليلة على هذه التأكيدات، حتى تصاعدت المعارك بشكل غير مسبوق بين الأطراف.
ارتفعت وتيرة المعارك باستخدام الأسلحة الثقيلة والطائرات المُسيَّرة، وزادت قوات الدعم السريع من عمليات قصف الأحياء والمناطق السكنية، وفقاً لبيانات صادرة عن تنسيقية لجان مقاومة الفاشر.
تقول التنسيقية، التي تعمل في المجال الإنساني، إن شبح المجاعة بدأ يخيم على المدينة.
وأوضحت في بيان: "لم يعد هناك ما يؤكل. اليوم نفدت كل المواد الغذائية، وغابت حتى البدائل التي كان الناس يتشبّثون بها للبقاء. اختفى الأمباز (علف الحيوانات)، والمدينة أصبحت محاصَرة من كل الاتجاهات: حصار الميليشيات، وصمت الدولة، ولامبالاة العالم. نحن نكتب ونصرخ ونناشد، لكن يبدو أن كلماتنا تسقط في فراغ. لا طائرات مساعدات، لا جسرَ إنسانياً، لا تحرّكَ دولياً حقيقياً، ولا تدخلَ برّياً لفك الحصار. فقط الوقت يمضي، الجوع يزداد، والموت يحصد الأرواح".
وأضافت: "الوقت ينفد، والجوع سيقتلنا قبل المدافع".
في الأسبوع قبل الماضي، تمكّن الجيش من إيصال ذخائر ومواد غذائية لضباطه وجنوده المحاصرين في وسط الفاشر، عبر إسقاط جوّي، نفّذته طائرات من طراز "أنتونوف".
وقال الجيش حينها في بيان، إن عملية الإسقاط كانت ناجحة، وإن الأسلحة والمواد الغذائية والطبية وصلت إلى قواته والفصائل المتحالفة معها. ونُشِرَت صور ومقاطع مصوّرة أظهرت استلام الجنود لهذه المواد.
ورغم أن هذه الخطوة لاقت ترحيباً من قبل الجنود، فإنها قوبلت بانتقادات من بعض السكان العالقين.
وقال أحد السكان لبي بي سي، مفضلاً عدم ذكر اسمه: "كان يمكن للجيش أن يُسقط موادَ غذائية لنا نحن السكان. شاهدنا أكثر من مرة طائرات الأنتونوف، وهي تُسقط الذخائر والمواد الغذائية داخل مقر الفرقة السادسة (قيادة الجيش)، لكنها لم تصلنا، ولم تهتم بأمرنا. في السابق، كانوا يتحجّجون بأن الأجواء غير آمنة ولا يمكن إسقاط المواد الغذائية، لكن عندما عادوا للإسقاط، اهتموا بالعساكر وأهملونا نحن المدنيين".