آخر الأخبار

هل انتهى عصر الوصاية السورية في لبنان؟

شارك

شكلت زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى لبنان محطة هامة في مسار العلاقات السورية اللبنانية، بوصفها بداية صفحة جديدة بعد عقود من التوتر والتأزم والخلل. وأعلنت نهاية عصر الوصاية التي كان يمارسها نظام الأسد البائد في لبنان، عبر تحويل لبنان إلى ساحة خلفية له، واستخدامه ورقة في صراعاته الإقليمية والدولية، فضلا عن ازدراء نظام الأسد المخلوع، فكرة الدولة اللبنانية، وعدم اعترافه بها.

الأهمية والتوقيت

لا تأتي أهمية الزيارة في كونها الأولى من نوعها لوزير الخارجية السوري إلى بيروت منذ سقوط نظام الأسد البائد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، ولا تجسدها فقط اللقاءات التي عقدها الشيباني مع كل من رئيس الجمهورية جوزيف عون، ورئيس الحكومة نواف سلام، ووزير الخارجية يوسف رجي، ووزير العدل عادل نصار، ومدير المخابرات طوني قهوجي، ومدير عام الأمن العام حسن شقير، إنما تكمن أيضا في أنها تمثل خطوة أولى في مسار إعادة تطبيع العلاقات بين الدولتين على أسس مختلفة، في ضوء التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية المشتركة.

وكذلك العمل على حلحلة الملفات العالقة، بدءا من ملف الموقوفين والمعتقلين في السجون اللبنانية، مرورا بملف اللاجئين السوريين في لبنان، ووصولا إلى العلاقات الاقتصادية، وملف إعادة الإعمار، وفتح المعابر التجارية، ووقف عمليات التهريب، وترسيم الحدود البرية والبحرية، بما فيها مزارع شبعا.

تعتبر الزيارة إحدى ثمار اللقاء المشترك الذي جمع الرئيسين؛ السوري أحمد الشرع، واللبناني جوزيف عون في نيويورك، على هامش أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة.

وجاءت في ظل مرحلة انتقال سياسي جديدة في سوريا، تسعى إدارتها الجديدة إلى الانفتاح على دول الجوار والعالم، وإعادة تموضع سوريا بوصفها دولة طبيعية، تنتهج الحوار ولغة المصالح المشتركة في علاقاتها الدولية، بعد عقود عديدة من العزلة الدولية، والقطيعة مع المحيط الإقليمي، والعربي، التي انتهجها نظام الأسد، وتسببت في خضوع البلاد لعقوبات دولية، على خلفية سلوكه الدموي حيال الشعب السوري، ورعايته الإرهاب.

إعلان

كما أن الزيارة تزامنت مع لحظة لبنانية حساسة، يتصدرها تصاعد النقاش الداخلي حول تسليم سلاح "حزب الله" اللبناني، وإعادة تموقع لبنان في الخارطة الإقليمية الجديدة، خاصة إثر تراجع نفوذ بعض القوى التقليدية، وتقدم الدور العربي في صياغة التوازنات.

حيث تشير نتائجها إلى أن المرحلة المقبلة ستشهد تشكيل لجان مشتركة لمراجعة مجمل الاتفاقيات الثنائية، وتحديد أولويات التعاون الاقتصادي والأمني، تمهيدا لانعقاد اجتماع موسع على مستوى الوزراء في بيروت قبل نهاية العام الجاري؛ لوضع خارطة طريق جديدة للعلاقات بين البلدين، تشمل قضايا الأمن والاقتصاد والحدود، وتضع أسس علاقة أكثر استقرارا بين دمشق، وبيروت.

اعتبر الشيباني أن الزيارة وفرت فرصا "تاريخية وسياسية واقتصادية لنقل العلاقة الأمنية المتوترة في الماضي، إلى علاقة متطورة تصب في صالح الشعبين".

كما أنها حملت رسائل متعددة الاتجاهات، بعضها نحو الداخل السوري الذي يُظهر انفتاحا سوريا على جيرانه بعد سنوات من العزلة والقطيعة، وبعضها الآخر إلى الداخل اللبناني الغارق في انقساماته، والذي يحتاج إلى ترتيب العلاقة مع الجار السوري.

إضافة إلى رسالة موجهة نحو الإقليم الساعي إلى تثبيت معادلة استقرار جديدة تمنع أي فراغ قوة قد تستغله أطراف أخرى، لكن التحدي الأهم يتجسد في قدرة الحكومتين على تحويل ما اتُفق عليه خلالها إلى خطوات تنفيذية ملموسة، بعيدا عن لغة المجاملات الدبلوماسية.

من الوصاية إلى الشراكة

كان لافتا أن تستبق الإدارة السورية الزيارة بإبلاغ وزارة الخارجية اللبنانية عبر السفارة السورية في لبنان، قرار تعليق عمل "المجلس الأعلى اللبناني السوري"، وحصر كل أنواع المراسلات بين البلدين بالطرق الرسمية الدبلوماسية.

وهو الأمر الذي يشي بأن دمشق تريد أن تحصر العلاقات بين الدولتين، وبين الحكومتين، بشكل مباشر، وعبر الوسائل الدبلوماسية، وليس عبر المجلس سيئ الصيت، الذي شكله نظام الأسد عام 1991، وترأسه نصري خوري، وبقي مستمرا بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان عام 2005، ولم يتم إلغاؤه على الرغم من المطالبات المتكررة من قبل القوى اللبنانية السيادية، والذي تبعه توقيع نظام حافظ الأسد مع لبنان، إبان فترة رئاسة إلياس الهراوي، اتفاقية "الأخوة والتعاون والتنسيق" 22 مايو/أيار 1991، بغية إضفاء الشرعية السياسية على تنظيم العلاقات بين سوريا ولبنان.

لكن الاتفاقية كانت مجرد غطاء قانوني لبسط نفوذ نظام الأسد في لبنان، حيث حوله إلى ساحة لتصفية الحسابات على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والأمنية، وبات أي قرار سياسي لبناني لا يمر دون موافقة نظام الأسد وأجهزة استخباراته، فضلا عن أن لبنان أضحى ورقة بيده يستخدمها في كل صراعاته الإقليمية، وذلك على حساب العلاقة بين الشعبين؛ السوري، واللبناني، اللذين يجمعهما كثير من قواسم العيش المشترك في الإطار "المسكوني" التاريخي بينهما.

تكمن رمزية إلغاء المجلس الأعلى اللبناني السوري في القطع مع سياسة الوصاية التي كان ينتهجها نظام الأسد في لبنان، وتدخل من خلالها في كل شاردة وواردة فيه، خاصة على المستويين؛ السياسي، والأمني.

إعلان

من هنا نفهم تعليق الرئيس عون الذي اعتبر أن "القرار السوري بتعليق العمل في المجلس الأعلى اللبناني السوري يستوجب تفعيل العلاقات الدبلوماسية، وننتظر في هذا الإطار تعيين سفير سوري جديد في لبنان؛ لمتابعة كل المسائل من خلال السفارتين؛ اللبنانية والسورية في كل من دمشق وبيروت".

إذًا، أرادت الإدارة الجديدة من خلال زيارة الشيباني لبيروت، إيصال رسالة مفادها الرغبة في فتح آفاق جديدة في علاقة سوريا مع لبنان، يجري الانتقال فيها من موقع الوصي المتسلط إلى موقع الشريك الفعلي، وتحكمها مبادئ الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية، وتقوم على الندية والمصالح المشتركة.

يعكس كل ذلك رغبة في تجاوز إرث الماضي، وبناء علاقة مؤسساتية متوازنة، والقطع مع الإرث المخادع لنظام الأسد الذي كان يصور كلا البلدين مهدَدا على الدوام من الآخر، واعتاد تحميل مسؤولية كل الأزمات والنكسات للبلد المجاور، وعلى وضع أي خلاف أو تعارض في الرأي أو الرؤية في خانة خدمة العدو الصهيوني ومؤامراته.

مشهدية جديدة

اختلف مشهد العلاقات السورية اللبنانية الجديدة مع مشهدها في عهد الوصاية. وقبله كانت هناك خطوات لمأسسة هذه العلاقات، منذ بداية خمسينيات القرن العشرين المنصرم، مع إلغاء الوحدة الجمركية، وقيام المصرفَين المركزيين؛ اللبناني، والسوري، وغيرها من الخطوات الأخرى، لكنها بقيت محدودة، ولم تذهب بعيدا في هذا المجال.

وانتقل النشاط المالي والاقتصادي لجزء هام من رأس المال السوري إلى لبنان، عندما حاصرت إجراءات وشعارات نظام البعث حركة الرساميل وأوقفت العديد من نشاطاتها.

بالمقابل، كانت العِمالة السورية تنمو في لبنان، وجذبت أعدادا كبيرة من فقراء الشعب السوري، لكن التسلطية والهيمنة أنتجتا علاقات نفعية ما بين فئات مافيوية سلطوية في البلدين. وتكونت فئات حاكمة، سياسية ومالية، في كل من سوريا ولبنان، خلال فترات الصراع المحلية والإقليمية.

واستغل نظام حافظ الأسد ظروف الحرب الأهلية اللبنانية التي نشبت عام 1975، وبدأ بدعم أطراف من أجل بسط نفوذه الأمني والعسكري والسياسي في لبنان، ثم تدخل عسكريا بضوء أخضر عربي وأميركي، ومكنه ذلك من إحكام سيطرته عليه، وبات يتحكم في قرارات السلم والحرب في لبنان، وفي مختلف تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية فيه، عبر شبكة استخباراته المتعددة.

لم يكتفِ الوريث بشار الأسد بالسير على خطى أبيه في فرض الوصاية على لبنان، بل تمادى في تسلطه وعجرفته. وشكل اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في 14 فبراير/شباط 2005، لحظة فارقة، حيث اضطر نظام الأسد إلى سحب قواته من لبنان تحت الضغط الدولي والعربي، لكن وصايته لم تنتهِ، إذ تولى إدارتها حليفه حزب الله اللبناني، إضافة إلى المافيات المالية والاقتصادية الموالية له في لبنان.

بعد اندلاع الثورة السورية منتصف مارس/آذار 2011، حاولت الحكومة اللبنانية اتخاذ موقف النأي بالنفس، لكن حزب الله توغل في الأراضي السورية، وراح يقاتل الشعب السوري؛ دفاعا عن نظام الأسد، وارتكب مجازر كثيرة بحق الحاضنة الشعبية للثورة السورية.

أعلن سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 عن بداية مشهدية جديدة في العلاقات السورية اللبنانية، وبداية نهاية نظام الوصاية على لبنان.

وجاءت زيارة الشيباني إلى بيروت كي تتوج هذه المشهدية الجديدة، التي تدشن مساعي لبنائها على أسس سليمة ومتوازنة، بعيدا عن نهج الوصاية والهيمنة وهواجس الأمن والتوجس وعلاقات القوة والضعف.

المطلوب هو ألا تختصر العلاقات ما بين سوريا ولبنان في علاقات ما بين وزارات وأجهزة، أو بين فئات ومكونات، وأن يستفيد الشعبان؛ السوري، واللبناني منها بمقدار ما تفرضه علاقات الجيرة والأخوة وبحدودها القصوى، من خلال إقامة علاقات متبادلة بين القوى الحية والمؤسسات والمنظمات المدنية والأهلية في كلتا الدولتين، بوصفها الحامل الحقيقي لتلك العلاقات، التي لا يمكنها أن تنمو وتقوى إلا في ظل مناخ ديمقراطي وتعددي، يضمن تحقيق التكامل والتعاون في شتى المجالات بين البلدين.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا