أثار إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن الاتفاق بين إسرائيل وحماس موجة من ردود الفعل المتضاربة في الحلبة السياسية الإسرائيلية. إذ انقسم اليمين الصهيوني على نفسه بين مؤيد للاتفاق ومعارض له، في حين اندفع معارضو الائتلاف إلى إعلان تأييدهم غير المشروط للاتفاق.
وبدا واضحا من طبيعة ردود الفعل السياسية أن هناك من يؤيد الاتفاق انطلاقا من واقع أنه يعني نهاية الرؤية اليمينية المسيحانية بعد اصطدامها بالواقع مقابل من يعارضون الاتفاق أيضا رفضا لهذا المنطلق. وربما لهذا السبب نظر جميع أطراف الحلبة السياسية الإسرائيلية إلى الاتفاق على أنه لحظة تاريخية تؤسس لتوجه مغاير لما كان عليه الوضع قبل الاتفاق.
والأمر لا يتصل فقط بطبيعة الحرب والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين بعد أكثر من عامين على الأسر، وإنما كذلك بما يمكن أن يقود إليه الاتفاق من تغيير شامل في الرؤية السياسية. إذ ليس صدفة أنه تعاظمت مع تطور الحرب وامتدادها الزمني أفكار حاولت التعويض على صدمة 7 أكتوبر/تشرين الأول بتعزيز الاندفاع ليس فقط نحو ضم المزيد من أراضي الضفة والقطاع وتهجير سكانها، وإنما كذلك عرض تأييد فكرة أرض إسرائيل الكبرى من جانب رئيس الحكومة، المطلوب للجنائية الدولية، بنيامين نتنياهو.
وكان نتنياهو وشركاؤه في اليمين المتطرف ، مثل بتسلئيل سموتريتش و إيتمار بن غفير وإسرائيل كاتس، قد طوروا مفهوم الحرب الدائمة مما جعل كل فرص التوصل لاتفاق تتحطم على صخرة رفضهم. ولذلك، وبصرف النظر عن توفر أسباب كثيرة لاندفاع إدارة ترامب التي قدمت دعما غير محدود للحكومة اليمينية في حربها، اضطر رئيسها للإعلان عن أنه بخطته لإنهاء الحرب ينقذ إسرائيل من غضب العالم.
وإذا كان لكلام ترامب من معنى، فإنه شخصيا بما نشر من تسجيلات لمكالمته الحاسمة مع نتنياهو كان يقصد أن إسرائيل ليس بوسعها الاستمرار في مواجهة العالم الذي سئم سلوكها المتعجرف. وفي مقابلة مع "فوكس نيوز" بعد إعلان الاتفاق، أشار ترامب إلى محادثة أجراها مع نتنياهو: "أخبرته أن إسرائيل لا تستطيع محاربة العالم أجمع. لقد توحد العالم أجمع".
وبكلمات أخرى قال إنه، رغم تأييده لإسرائيل لا يستطيع مواصلة الدفاع عنها في مواجهة العالم بأسره. وهذا ما ينسجم إلى حد كبير مع ما يحاول عدد من المعلقين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين تأكيده في مقالاتهم وتصريحاتهم التي ترى أن إسرائيل قد تكون حققت إنجازات عسكرية مرموقة لكنها منيت بهزيمة سياسية واضحة.
عموما وبعد إعلان ترامب عن الاتفاق سارع نتنياهو لإعلان أن "هذا يوم عظيم لإسرائيل. سأعقد اجتماعا للحكومة غدا للموافقة على الاتفاق وإعادة جميع رهائننا الأعزاء إلى ديارهم. أشكر جنود الجيش الإسرائيلي الأبطال وجميع قوات الأمن الذين أوصلونا إلى هذا اليوم بشجاعتهم وتضحياتهم. أشكر الرئيس ترامب وفريقه من أعماق قلبي على التزامهم بهذه المهمة المقدسة لتحرير رهائننا. بعون الله، سنواصل معا تحقيق جميع أهدافنا وتعزيز السلام مع جيراننا".
ولكن اجتماع الحكومة تأخر عن موعده بأكثر من 4 ساعات جراء خلافات ظهرت ليس فقط بين نتنياهو ومعارضي الاتفاق من حزبي اليمين المتطرف سموتريتش وبن غفير، وإنما كذلك من داخل حزبه الليكود. وقد اضطر ترامب للاستعانة بالمبعوثين الأميركيين ستيف ويتكوف وجاريد كوشنر بقصد إقناع الوزراء بأن ما تم التوصل إليه هو أفضل الممكن وأنه يجنب إسرائيل خطرا أكبر. ومع ذلك استمر الخلاف مع حزبي الصهيونية الدينية وعوتسما يهوديت اللذين صوتا ضد الاتفاق، وعمدا إلى وضع "خطوط حمراء"، وصولا إلى التهديد بالانسحاب من الحكومة.
ويعلم نتنياهو أن تهديدات حزبي اليمين المتطرف ليست المشكلة بسبب أن هناك شبكة أمان للاتفاق من أحزاب المعارضة. ولكن المشكلة في الأصل هي مقدار قناعة نتنياهو شخصيا بالاتفاق ومدى إحساسه بأن هذا الاتفاق يضمن له البقاء في الحكم أم يسقطه. وهو يدرك أن الاتفاق، إذا لم يتم نسفه، فإنه سوف ينسف أغلب الأسس التي يقوم عليها الفكر اليميني الذي يمثله شخصيا والقائم على التوسع والضم.
ويشعر نتنياهو بأنه مضطر لتضخيم مزايا الاتفاق وحتى البدء بالحديث عن تطلع للسلام، لكنه في قرارة نفسه يعرف أن هذا ليس بالضرورة ما يؤمن به الآخرون. وقديما قال حكماء في إسرائيل إن مواقف اليمين هي التعبير الحقيقي عما في النفوس، لكن إنهاء الحرب يتطلب تنازلا عن هذه المواقف وهو ما يقدر عليه فقط الوسط واليسار وليس اليمين.
رحّبت المعارضة بالاتفاق، إذ أعلن زعيم المعارضة يائير لبيد: "في هذين العامين الصعبين، هذه لحظة نور عظيم في الظلام. عسى أن تعود ملائكة السلام سالمين". كما كتب رئيس حزب أزرق أبيض، بيني غانتس: "تستيقظ أمة بأكملها هذا الصباح على أمل وترقب، لعودة قريبة لإخواننا وأخواتنا، بعد عامين من المعاناة".
كما كتب رئيس حزب إسرائيل بيتنا، أفيغدور ليبرمان ، على شبكة إكس: "صباحٌ مفعمٌ بالأمل والفرح. نتطلع، مع شعب إسرائيل بأكمله، إلى عودة جميع المختطفين والمختطفات إلى ديارهم".
ومن المعارضة، كتب أيمن عودة ، رئيس حزب حداش/العربية للتغيير، أنه "سعيد بتوصل الجانبين إلى اتفاق بشأن المرحلة الأولى من الاتفاق لإنهاء الحرب"، مضيفا: "لم تثبت أي حرب أكثر من هذه الحرب أنه لا يوجد حل عسكري. من الآن فصاعدًا، يجب تحرير كلا الشعبين من نير الاحتلال، لأننا جميعا ولدنا أحرارا".
أما في حكومة نتنياهو، فإن الوضع مختلف، إذ إن الترحيب بالاتفاق لا يخرج من صميم القلب وإنما يميل لأن يكون لفظيا. وحتى الآن المطروح على الحكومة هو الفصل الأول من الاتفاق المتعلق بالإفراج عن الأسرى في ظل بقاء الجيش الإسرائيلي في القطاع.
وهذا يخفف أثر الاتفاق بسبب النتيجة المباشرة له. لكن التقديرات تتحدث عن صدمة ستحدث عند إقرار إنهاء الحرب، خصوصا إذا بقيت حماس في الصورة. وهذا ما هو معلن حاليا من جانب وزراء "عوتسما يهوديت" الذين هددوا بالاستقالة من الحكومة. وفي حين لم يُهدد الصهاينة المتدينون رسميا بالاستقالة، لكنهم يُوضحون أن جميع الخيارات مطروحة.
وثمة قناعة متزايدة بأن من غير المتوقع أن يؤدي الانسحاب من الحكومة إلى الإطاحة بها. الشيء الوحيد المُحتمل هو حل الكنيست مع تحديد موعد مُتفق عليه للانتخابات.
وتجدر الإشارة إلى أن إسرائيل دخلت عام انتخابات، لذا فإن مسألة موعدها المُحدد هذا العام لا تُثير قلق نتنياهو. بطريقة أو بأخرى، على الأقل في الوقت الحالي، من غير المُتوقع أن ينسحب أي حزب من الحكومة. وسيسمح كل من الصهيونية المتدينة و"عوتسما يهوديت" بمرور المرحلة الأولى من الاتفاق -على الرغم من معارضتهما- ثم سيدرسان التطورات ويقرران مسار استمرار الحزبين في ظل حكومة نتنياهو.
وكان زعيم الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريتش، قال: "هناك خوف كبير من عواقب إخلاء السجون وإطلاق سراح الجيل القادم من قادة الإرهاب الذين سيبذلون قصارى جهدهم لمواصلة سفك دماء اليهود هنا، لا سمح الله". وأضاف أنه لا ينوي التصويت لصالح الاتفاق. "لهذا السبب وحده، لا يمكننا الانضمام إلى هذه الاحتفالات قصيرة النظر والتصويت لصالح الاتفاق".
كما أن الوزيرة من حزبه، أوريت ستروك وبعد أن رحبت بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين معتبرة ذلك إنقاذا لهم استدركت قائلة إنه إلى جانب الفرح، هذا الاتفاق "يحمل في طياته عارا عظيما. عار على تطبيع إطلاق سراح الإرهابيين مقابل الرهائن، وعار مُسبق على جميع ضحايا هذا النهج الدموي: تضحيات دماء، وضحايا عمليات اختطاف لاحقة، عار على مجرد ذكر الدولة الفلسطينية في تلك الاتفاقية، بعد وقت قصير من قرار الكنيست بأغلبية ساحقة بأنها تُشكل خطرا وجوديا علينا".
وكان التساؤل الأكبر في إسرائيل يدور حول سبب قبول نتنياهو بعرض كان يمكن أن يتحقق مع بداية الحرب في نظر البعض وفي أكتوبر/تشرين الأول العام الفائت في نظر آخرين. ولاحظ باروخ قرا في موقع "والا" الإخباري أن هناك سببين يقفان خلف ذلك.
وأكد أن هناك كذبة شائعة بأنه لم تعرض على نتنياهو مثل هذه الصفقة في الماضي. ويرى أن إسرائيل رفضت أصلا مبدأ الصفقات الشاملة وأن سموتريتش وبن غفير رأيا في عبارة إنهاء الحرب قضاء على حلم الاستيطان في غزة، في حين رأى نتنياهو أن ذلك يسقط حكومته. وتمسكت الحكومة بالنصر المطلق عنوانا لإفشال كل مبادرة.
ويرى قرا أن سببي تغيير موقف نتنياهو يتمثلان في أن الانتخابات المبكرة باتت خيارا قويا وهو ما يتجه إليه، وقرار المحكمة الجنائية الدولية حول الإبادة الجماعية الذي قاد إلى عزلة دولية لا فكاك منها.
ويرى نداف إيال في "يديعوت أحرونوت" أن "هوية الأسرى الفلسطينيين الذين سيتم إطلاق سراحهم ليست جزءا عرضيا من الأخبار الرائعة والمبهجة. ليس من حقنا أن ندفن رؤوسنا في الرمال بعد 7 أكتوبر، وبعد خبر مقتل يحيى السنوار . أُطلق سراحهم في صفقة شاليط. ستنظر إسرائيل إلى وجه كل أسير يُطلق سراحه بهذه الطريقة وتسأل: هل هذا يحيى السنوار التالي؟ كيف ستُكسر حلقة القتل والخطف والقتل والعودة؟".
وتحت عنوان "نصر عسكري، خسارة سياسية" كتب آفي يسخاروف في يديعوت أحرونوت أن "الإنجازات العسكرية الكبيرة التي حققها الجيش الإسرائيلي في العامين الماضيين لم تترجم إلى إنجازات سياسية فحسب، بل أصبحت فشلا سياسيا فادحا، وهو ما يُضفي عليه وصف "الفشل" دلالات كبيرة. رغم الدمار الهائل في غزة، ورغم العدد المتزايد للقتلى الفلسطينيين (67 ألف قتيل)، ورغم تعرض الجناح العسكري لحماس لضربات موجعة وفقدانه كامل قيادته العليا، ترى حماس في "طوفان الأقصى" نصرا لا غير. مع أنه ليس نصرا في معارك قطاع غزة أو ضد جنود جيش الدفاع الإسرائيلي، إلا أنه نصر على الصعيدين السياسي والدولي. تنتصر حماس لأن العمل العسكري العنيف يهدف إلى تحقيق أهداف سياسية، وهي تحققها واحدة تلو الأخرى، بينما حوّلت دولة إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو استمرار الحرب إلى هدف سياسي، بل سياسي، وأهملت الأهداف السياسية للحرب".
أما بن كسبيت في "معاريف" فتحدث عن ضرورة المحاسبة: "سنجري الحسابات لاحقا. لقد أجرينا بعضها بالفعل. عندما يتضح، للأسف، أن الحرب انتهت وأن حماس لا تزال قائمة. عندما يتضح أن "حماس وافقت على تجميد السلاح"، وعندما يتضح أنه كان من الممكن التوصل إلى اتفاق مماثل في وقت أبكر بكثير، سيتعين علينا تقديم حساب لأنفسنا وسنكون ملزمين بتشكيل لجنة تحقيق رسمية. لكن أولا، دعونا نراهم يعودون إلى ديارهم. 20 إسرائيليا أصبحوا أفرادا من عائلاتنا جميعا".
إسرائيل أبرمت الاتفاق غير أن تنفيذه يفتح بوابات واسعة نحو أفق مجهول تتحطم فيه أحزاب وأفكار وتسميات.