في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
حين قررت واشنطن غزو العراق عام 2003، بدت الأسباب مُحكمة أمام الأميركيين الغاضبين قبل أن يكشف الزمن هشاشتها تباعا. ومع ذلك لم يجرؤ إلا قلّة من الساسة على قول "لا" في وجه آلة الحرب. ومن بين تلك القلّة تقدّمت فرنسا بصوت وزير خارجيتها دومينيك دوفيلبان لتذكّر بأن القانون الدولي له لغة لم تعرفها أميركا، وأن للحرب ثمناً لا تُسدّده الذرائع الواهية.
فغداة هجوم الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، رسمت إدارة جورج بوش الابن خريطةً عريضة لحملة لا تنتهي على ما تسميه تهديدا متماديا في أرض العرب والمسلمين.
كانت الذريعة تتبدّل فيما الجوهر ثابت، مرةً باسم الحرب على الإرهاب، وأخرى بذريعة إنقاذ النساء المسلمات من الاضطهاد في أفغانستان، وثالثة تحت غطاء دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ثم الحجة الأكبر وهي التخلص من أسلحة دمار شامل عراقية، لم توجد إلا في التقارير الأميركية.
في تلك السنوات، حدّد بوش المعادلة بصرامة وبصلف فقال إن العالم ينقسم إلى فريقين لا ثالث لهما، "معنا" أو "ضدّنا". وعلى هذا الإيقاع أدّت أنظمة عربية وإسلامية دور الوكيل الأمني؛ فظهرت سجون للاحتجاز بالإنابة، وتكاثرت الاستجوابات القاسية والتعذيب الممنهج الذي يحمل أسماء بيروقراطية مهذبة.
وبعد نحو عقدين، وفي زمنٍ هرول فيه معظم القادة الغربيين إلى دعم إسرائيل بلا شروط في حربها الإبادية على غزة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، عاد الصوت نفسه ليخترق إجماعا مشينا جديدا.
خرج دوفيلبان، الذي صنع شهرته الأممية يوم قال "لا" مدوّية لحرب العراق، لينتقد ما وصفه بـ"جنون قاتل" يتكشّف في غزة، واتّهم حكومة بنيامين نتنياهو بالسير في مخطط تطهير عرقي وجغرافي لشعبٍ بأكمله، كما حذّر من أن صمت أوروبا أمام الفظائع يعدّ مشاركة في الجريمة.
استعاد دوفيلبان بذلك شعبية عربية كان قد تمتع بها في السابق، فكأنه مبعوث فرنسا إلى الضمير الشرقي مرة أخرى.
وبين "لا" الأولى في نيويورك و"لا" الثانية التي بُثّت عبر الشاشات في الفواصل ما بين عرض الإبادة الإسرائيلية، يقف رجل الدولة الشاعر في مكانه ذاته؛ فهو يراهن على لغة القانون حين يقدم الذرائعَ كل منافق عليم اللسان. ومن ثم يلوح السؤال: من هو دومينيك دوفيلبان، وكيف تشكّلت مسيرته حتى غدا خصماً لواشنطن ولتل أبيب في آنٍ واحد؟
إن الحكاية تبدأ من قاعةٍ زرقاء ذات خشب أملس في الأمم المتحدة، وتمتد عبر دهاليز السياسة الفرنسية وصراعاتها، ثم تعود اليوم إلى اختبار المبدأ في غزة التي يبيدها الاحتلال منذ عامين.
وُلد دومينيك ماري فرنسوا رينيه غالوزو دوفيلبان في الرباط عام 1953، في بيتٍ ديبلوماسيّ تتنقّل بين المغرب وفنزويلا ثم الولايات المتحدة. وقد درس في معهد العلوم السياسية في باريس، قبل أن يلتحق بالمدرسة الوطنية للإدارة (ENA)، وهو المعمل الفرنسي الأشهر لتفريخ كبار موظّفي الدولة.
كبر دوفيلبان داخل تقاليد الدولة الأم: دولة تُعلّم أبناءها أن الأناقة اللغوية ليست كماليات، وأن البيروقراطية فنٌّ مدنيٌّ أشدُّ تركيباً مما يبدو. في الخلفية، كان والده، كزافيي دوفيلبان، عضوًا في مجلس الشيوخ عن الفرنسيين ورئيسا للجنة الشؤون الخارجية في المجلس لسنوات، ما وفّر للابن رائحة كواليس السياسة باكرا.
لاحقًا، عرّفته دهاليز وزارة الخارجية على جاك شيراك في الثمانينيات، فصار من أقرب مستشاريه للسياسة الخارجية، قبل أن يصبح عام 1995 الأمين العام للإليزيه طوال سبع سنوات، وهو منصبٌ يوازي، من حيث النفوذ، يد الرئيس الخفية في الإدارة. هناك ترسّخ إيمانه بكبرياء فرنسا الجمهوريٍّ الذي يرى في واشنطن حليفاً وندّاً في آن.
وفي عام 2002، أصبح دوفيلبان وزيرا للخارجية. ثم جاءت تلك المنصة في نيويورك، ليلقي الكلام كما لو أنه يلقي قصيدة. هناك قال عبارته التي صارت لازمةً تُقتبس: "الحربُ اعترافٌ بالفشل".
وبعد الخارجية، انتقل إلى وزارة الداخلية (2004–2005) ليواجه وجهاً آخر للسياسة الفرنسية، في الأحياء الشعبية، وبين بطالة الشباب، ووسط الخلافات مع الأقليات وأسئلة الهوية، وعنف الشرطة من ضمن ملفات أخرى عديدة.
وحين تصاعدت في مطلع 2004 الاعتداءات على مقابر ومعالم دينية يهودية وإسلامية، أصدر مجموعة إجراءات شملت حماية المواقع الحساسة، وتنشيط الحوار بين ممثلي الديانات في البلاد، والبدء في ملاحقات قضائية خففت من الاحتقان.
وفي خطاباته ألمح إلى المفارقة الفرنسية التي تجعله صارمًا في تطبيق القانون، لكنه في نفس الوقت حريص على التعايش الديني والثقافي في الحيّ الواحد.
وفي 31 مايو/أيار 2005 وصل دوفيلبان إلى قصر ماتينيون رئيسًا للحكومة على وقع زلزال الاستفتاء الأوروبي الذي رفضه الفرنسيون وأسقط مشروع الدستور، فاختار أن يفعّل خطابا لإدارة الأزمة، لا مجرد إدارة وتسيير لحياة المواطنين اليومية.
ثم جاءت ليالي خريف 2005؛ حين اشتعلت الضواحي الباريسية جراء مقتل شابين على أيدي الشرطة الفرنسية، فاستندت الحكومة إلى قانون 1955 لإعلان الطوارئ ومنح المحافظين صلاحية فرض حظر التجول. حاول دوفيلبان أن يزاوج بين لغة الأمن العام ولغة ترميم العقد الاجتماعي، بينما كان وزير داخليته نيكولا ساركوزي يفضّل خطاباً مباشراً وحادا.
وعندما غادر دوفيلبان مقعد رئيس الوزراء في 2007 كان قد ترك إرثًا من المواقف العاقلة، التي لم تُترجم إلى سياسات على الأرض، في درس بليغ عن حدود الإصلاح السياسي في حال افتقاره إلى سند شعبي أو آلة مجتمعية تدعمه.
بعد الحكومة، توزّع نشاط دومينيك دوفيلبان بين السياسة والفكر والأعمال والدبلوماسية غير الرسمية. فقد أسّس في 2008 شركة الاستشارات "Villepin International" التي عملت وسيطاً وميسِّراً لعلاقات الأعمال بين أوروبا ودول الشرق الأوسط وشرق آسيا، مستنداً إلى شبكته التي راكمها في الدولة، ثم حوّلها منصّةً لعقود وصفقات واستشارات استراتيجية خاصة، مع قدرٍ مقصود من التكتم حول الزبائن والمهام.
بالتوازي، أطلق في 2010 حزبًا لمنافسة ساركوزي في رئاسيات 2012، لكنه انسحب في مارس/آذار 2012 بعد عجزه عن جمع عدد التوقيعات الكافية لدعم ترشحه.
بعد ذلك استقرّ دوره كصوتٍ عاقل ومحلل وكوسيط ذكي بين الأفكار، كتب وألّف وظهر بانتظام في المنابر، وساند إيمانويل ماكرون في 2017 باعتباره خياراً توفيقيا في مواجهة تصاعد تيار أقصى اليمين.
ومع اندلاع حرب غزة عاد حضوره إلى الواجهة الأوروبية من خلال مقالات ومقابلات تُدين ممارسات الإبادة الإسرائيلية، وتدعو لتعليق الاتفاقيات الأوروبية مع إسرائيل وفرض حظر سلاح وإحالات القادة الإسرائيليين إلى المحكمة الجنائية الدولية؛ ثم في صيف 2025 أطلق حركة جديدة باسم "فرنسا الإنسانية" بوصفها منصة مجتمع مدني وسياسي عابرة للانقسامات ومفتوحة على احتمالية المشاركة في انتخابات الرئاسة الفرنسية عام 2027 من غير إعلانٍ نهائي بالترشح.
لكن السؤال الذي حضر في بداية مسيرته ولازال حاضرًا فيها هو سؤال العلاقة مع الولايات المتحدة وموقف فرنسا من محاولة فرض الهيمنة الأميركية المطلقة على السياسة الدولية.
صباح 14 فبراير/شباط 2003، وقف وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دوفيلبان أمام مجلس الأمن، متحديًا اندفاع الإدارة الأميركية بقيادة جورج بوش الابن لغزو العراق. كثيرون آثروا الصمت أو الاصطفاف مع واشنطن خوفًا، لكن دوفيلبان أعلن موقف فرنسا بلا صارخة في وجه الحرب.
خلال خطابه التاريخي القصير الذي لم يتجاوز 15 دقيقة سرد حججًا رصينة ضد الغزو: المفتشون الدوليون يحققون تقدمًا في نزع سلاح العراق، ولم تُستنفد بعد جميع طرق التفتيش السلمي؛ واستخدام القوة ينبغي أن يكون "خيارًا أخيرًا" نظرًا لما سيجرّه من "عواقب وخيمة على البشر والمنطقة والاستقرار الدولي".
أكد دوفيلبان أنه "لا تسامح مع صدام حسين ونظامه"، لكن الحرب ليست حتمية الآن. وشدّد: "لا شيء يضمن أن طريق الحرب سيكون أقصر من طريق التفتيش… على العكس تمامًا"، محذرًا من إلقاء الشرق الأوسط والعالم في أتون "اللا أمان واللا عدل واللا استقرار" إذا اندلعت الحرب.
كانت الجملة الأكثر وقعًا هو ما قاله بهدوء وتركيز: "لا شيء يضمن أن طريق الحرب سيكون أقصر من طريق التفتيش، بل على العكس تماما".
ثم استدعى ذاكرة أوروبا الطويلة: بلد قديم هو فرنسا، من قارة عريقة هي أوروبا، عرفت الحروب والاحتلال، ولا تنسى الدَّيْن الذي عليها لمقاتلي الحرية القادمين من أميركا [يقصد خلال الحرب العالمية الثانية وهزيمة النازيين بفضل التدخل الأميركي]، لكنها تعرف أيضاً كيف تقف مستقيمة أمام التاريخ، متمسكة بقيمها، ومؤمنة بأن بناء عالم أفضل لا يكون إلا معا. ختم دوفيلبان كلمته بـ"Merci" (شكرًا بالفرنسية) وانتهى إلى الصمت.
عندها دوّى تصفيق حار عمّ أرجاء المجلس. كان أمرًا غير مسبوق في جلسات مجلس الأمن الرسمية، خاصة إزاء خطابٍ يعارض الحرب. كسرت الوفود التقاليد الصارمة، وصفّق حتى بعض ممثلي الدول دائمة العضوية كالصين وروسيا وألمانيا، بينما كاد مندوب الكاميرون يقف تحيةً لولا أن تمالك نفسه في اللحظة الأخيرة احترامًا للبروتوكول.
في المقابل، غادر وزير الخارجية الأميركي كولن باول القاعة غاضبًا بعد أن سمع رفضًا عالميًا لخيار الحرب على لسان دوفيلبان ومؤيدي كلمته. حاول باول جاهدًا في الكواليس الضغط على الدول المترددة، لكن كلمات دوفيلبان قلبت الموازين وأربكت المخطط الأميركي البريطاني لتمرير قرار أممي يبرر الغزو والاحتلال اللاحق.
صحيحٌ أن بوش الابن مضى في شن الحرب بعد أسابيع دون تفويض أممي، لكن خطاب دوفيلبان أعاد الاعتبار لفكرة التعددية القطبية ولو بشكل رمزي وكبح التغوّل الأميركي.
تقول الإعلامية الفرنسية فلافي فلامان إن خطاب وزير خارجيتها كان استباقيًا وبعيد النظر؛ فهدفه لم يكن منع الحرب ذاتها التي كان الأميركيون عازمون على خوضها، بل تحذير المجتمع الدولي من الشرخ الخطير الذي قد تُحدثه الحرب بين الغرب والعالم الإسلامي.
داخليًا في فرنسا، حظي موقف الرئيس جاك شيراك ووزيره دوفيلبان بقبول كاسح. ارتفعت شعبية شيراك إلى 90% في الاستطلاعات، وهو رقم قياسي بتاريخ الجمهورية الفرنسية، وسط موجة تأييد وحدت اليمين واليسار خلف رفض الحرب.
روى شابٌ من ضاحية درانسي الباريسية لصحيفة الغارديان حينها كيف امتلأت شرفات بيوت المهاجرين العرب بأطباق الأقمار الصناعية لمشاهدة قناة الجزيرة التي أبرزت هذه الأحداث والوقائع التي هزّت باريس. لقد رسمت كلمات دوفيلبان لفرنسا آنذاك صورة القوة الغربية العادلة القادرة على قول الحق في وجه الحليف الأميركي.
في حوار له في 23 مايو/أيار من نفس العام مع "فرانس 3″، أي بعد أكثر من شهرين على اجتياح الولايات المتحدة الأميركية للعراق، ورغم الكثير من الدبلوماسية الا أن الخلاف بين باريس وواشنطن حضر دون مواربة في كلام دوفيلبان، خلاف في التصور وفي تفكيك المشاكل وفي إيجاد الحلول.
قال دوفيلبان إن الموقف الفرنسي التقليدي هو التحدث مع الجميع. التحدث مع ياسر عرفات ، الرئيس المنتخب للشعب الفلسطيني، والتحدث مع رئيس الوزراء الفلسطيني، والتحدث مع جميع شعوب المنطقة وعلى رأسهم الإسرائيليين في المقام الأول، وهو موقف شبيه بباقي الدول الأوروبية، في الوقت الذي ينظر الأميركيون إلى هذه الأمور من زاوية أخرى.
يرى وزير الخارجية الفرنسي السابق أن حوار الحضارات والفهم المتبادل بين الثقافات هو أحد أسس الدبلوماسية الفرنسية، لذلك يجب الدفاع عن ذلك وعدم الخضوع لتهديدات الإرهاب والعنف.
في هذا السياق يبدو دوفيلبان، رجل الدولة الذي يحب الشعر والتاريخ، كمن يرد على الفكرة من حيّزها العملي لا النظري. فحين عاد في أواخر 2023 لينتقد ما يجري في غزة لم يكتف برفض الإبادة، بل رفض أيضا التصور الخرافي الذي رسمه الرئيس الأميركي ترامب لغزة باعتبارها مدينة فاخرة تُغطي الخراب بفنادق ومجمعات سكنية راقية ومراسي يخوت.
قال دوفيلبان ضمنيا إن هذه الصورة ساذجة لأنها ترى الفلسطينيين مستهلكين محتملين لا بشرا لهم ذاكرة وكرامة وحق في العدالة والاعتراف. كيف يُنكس علم الحداد على موتى لا يعترف بهم أحد؟ وكيف يُبنى سلامٌ على أرض لم تحتضن أشلاء أصحابها الذين قتلهم الاحتلال؟
ببساطة يعتبر السياسي الفرنسي ورجل الدولة الذي حمل حقائب كثيرة من أحد أهم الذين فهموا نوعا خطورة اللعبة التي يلعبها الغرب في فلسطين المحتلة، من خلال دعم إسرائيل ومحاولة التنصل من هذه الخطوة غير المحسوبة عبر إنشاء مدينة تتقد شوقا لحلم أميركي يرعاها اقتصاديا وسياسيا ويجعل منها منطقة منزوعة السلاح ومنزوعة الشرف.
يستغرب دوفيلبان من النظرة الأميركية والحل الذي يروج له ترامب بدعم من رؤوس أموال من عدة دول والتي تتخيل غزة عبارة عن مدينة متطورة تنبسط في جنباتها الفنادق الفاخرة والمنتجعات السياحية التي يأتي إليها الأغنياء من كل حدب وصوت، ثم مولات، مولات كثيرة تتناثر في كل مكان.
اليوم يثير دومينيك دوفيلبان خلافا داخل فرنسا. فريقٌ يرى أنّه تبدّل ولم يعد ذلك المعبّر عن يمينٍ فرنسيٍّ كلاسيكيٍّ عرفناه في عهد جاك شيراك، وفريقٌ آخر يجادل بأنّ الرجل لم يتغيّر في جوهره، بل إنّ اليمين منذ زمن نيكولا ساركوزي هو الذي انجرف نحو التشدد، فبدت مواقف دوفيلبان ثابتةً قياسا بما حولها.
ومن المواضيع التي كتب فيها كثيرا إعلاميا، كان هو موضوع طريقة تناول دوفيلبان مع ما يحدث في غزة منذ السابع من أكتوبر، لذلك، ولمحاولة فهم ذلك يجب العودة إلى الفترة التي كان فيها عضوا في حكومة تعكس طريقة تفكيره وتوجهه السياسي والإيديولوجي في عهد شيراك.
خلال فترة حمله لحقيبة الخارجية لم يكن دوفيلبان يبخل في إظهار علاقات الود الكبيرة التي تجمع ما بين فرنسا وإسرائيل، تعددت المناسبات والزيارات لدولة الاحتلال، وكان القاسم المشترك هو التأكيد على اعتبار إسرائيل امتداد لفكرة حضارية تحترمها فرنسا وتقدرها كثيرا.
في كلمة ألقاها في القدس المحتلة بتاريخ 25 مايو/أيار 2003 مثلا، حول تاريخ العلاقات بين فرنسا والشعب اليهودي في إطار الترويج لخطة إحياء السلام التي قدمتها كل من أوروبا، والولايات المتحدة، وروسيا، والأمم المتحدة، وصف دوفيلبان إسرائيل بالأرض الغنية بالتاريخ وأغرق في مدح الشعب اليهودي. الغريب أن رئيس الوزراء الإسرائيلي حينها أريئيل شارون قاطع كلمة دوفيلبان احتجاجًا على نية الرجل لقاء الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في رام الله.
يتبنى دوفيلبان فكرة غربية كلاسيكية حول المقاومة الإسلامية حماس، فقد أدرجت فرنسا أثناء خدمته حركة حماس كمنظمة إرهابية بجناحيها السياسي والعسكري، ورغم في ديسمبر/كانون الأول من العام 2014، ألغت محكمة العدل الأوروبية هذا الإدراج لأسباب إجرائية إلا أنه وبضغط فرنسي تمت إعادة حماس إلى قوائم الإرهاب في مارس/أذار من العام 2015 بعد الاستئناف.
لكنّ حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة أعادت ترتيب الأصوات داخل فرنسا. دوفيلبان الذي طالما رأى حماس على لائحة الإرهاب الأوروبية وجد نفسه يصطدم بجدار وحشية إسرائيل، فقد قُتلت أعدادٌ مهولة من الفلسطينيين أطفالًا ونساء وشيوخًا بلا تمييز، واكتملت دائرة الحصار بالتجويع، وفرضت حكومة إسرائيل اليمينية سياسة أمرٍ واقع لا تلتفت كثيرًا لأمن إسرائيل في مقابل انتهاز الفرصة لصالح إبادة شعب بأكمله.
وعلى منصات فرنسية متعددة دعا دوفيلبان إلى تعليق الاتفاقية الأوروبية مع إسرائيل وفرض حظر أوروبي للسلاح. وذهب أبعد حين طالب في طرح تصعيدي بإحالة الحكومة الإسرائيلية والقيادات العسكرية الرئيسة إلى المحكمة الجنائية الدولية عبر مسعى أوروبي جماعي. وبهذا فتح سجالا واسعا حول حدود التضامن الغربي مع إسرائيل ومعنى الالتزام بالقانون الدولي عندما تكون الجرائم موثقة جهارا.
بدأ توجس دوفيلبان مما تقوم به إسرائيل مبكرا، ففي نوفمبر/تشرين الثاني 2023، أي بعد أسابيع من السابع من أكتوبر، حل السياسي الفرنسي ضيفا على برنامج "لوكوتيديان" (برنامج سياسي محسوب على اليسار). خلال هذا اللقاء انتقد دوفيلبان الهيمنة المالية على وسائل الإعلام وعالم الفن والموسيقى من طرف التيار الموالي لإسرائيل وهو ما يمنع بروز بعض الأصوات المعارضة.
جاء هذا الكلام تعليقا على مصير بعض النجوم الأميركيين، مثل سوزان ساراندون أو بيلا حديد، اللتين تم استبعادهما بسبب مواقفهما من الحرب على غزة، حينها وصف دوفيلبان ما حصل بمثابة عنف الفكر الأحادي في الولايات المتحدة الأميركية.
قال دوفيلبان خلال الحلقة إن القاعدة المالية المفروضة اليوم على الحياة الثقافية في الولايات المتحدة تملك وزناً كبيراً. وأضاف أنه يرى للأسف ظلالاً لذلك في فرنسا أيضاً، وأن هذا كله مؤسف على صعيد الحرية والقدرة على تشكيل رأي عام متوازن. وكان هذا التصريح كفيلاً بأن يحوله في نظر كثيرين إلى خصم لإسرائيل يُتهم بمعاداة السامية من دون تمحيص كاف في مضمون كلامه.
وجاء أول رد فعل من إيريك سيوتي الذي كان آنذاك رئيس حزب الجمهوريين، وهو من العائلة السياسية لدوفيلبان السياسية. قال سيوتي إن تصريحات زميله تذكره بلحظات تآمرية مظلمة أو على الأقل غامضة، معبّرا عن صدمته الكبيرة من قراءته لما يحدث في الشرق الأوسط.
وهاجم يوناتان عرفي، رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، دوفيلبان بشدة معتبراً أن كلماته، بوعي أو بغير وعي، تنتمي إلى خطاب معاد للسامية على نحو خفي. وقال إن هذا الخطاب يلمّح من دون تصريح إلى أن اليهود هم حزب المال العالمي ومحركو وسائل الإعلام والفنانين.
ولم يسكت دوفيلبان. فقد دافع عن نفسه على شاشة قناة "إل سي إي" فقال إنه يمكن انتقاد الولايات المتحدة من دون أن يكون المرء معاديا للسامية. ويمكن انتقاد الصهيونية المسيانية لدى جزء من الحكومة الإسرائيلية من دون الوقوع في معاداة السامية.
ويمكن دعم فكرة العدالة للشعب الفلسطيني من دون الانزلاق إلى الكراهية. وأضاف قائلاً إن رئيسا سابقا للجمهورية خاض حملة انتخابية منتقدا سلطة المال ولم يكن معاديا للسامية في إشارة إلى أنّ نقد النفوذ المالي ليس قريناً تلقائيا بخطاب الكراهية.
ولا يتسع المقام لحصر كل ردود الفعل والحوارات والتصريحات التي خرجت عن دوفيلبان بشأن غزة وفلسطين ومشكلة الشرق الأوسط.
غير أن بعض المواقف ترك أثراً قوياً في الداخل والخارج. فهو لا يتردد في وصف ما يجري في غزة بأنه علامة تطهير عرقي وتطهير جغرافي.
ويرى أن على الأوروبيين واجبا أخلاقيا وسياسيا للتدخل بقوة من أجل المنع والردع. وهو يكرر أن القضية ليست إنقاذ الفلسطينيين وحدهم، بل هي أيضا إنقاذ لأوروبا نفسها، وللنموذج الغربي، وللعولمة والديمقراطية والليبرالية التي طالما بُشّر بها في كل مكان.
وخلال استضافته على أثير إذاعة "فرانس أنفو" دعا إلى تعليق الاتفاقية الأوروبية مع إسرائيل وفرض حظر أوروبي على السلاح. وبيّن أن الهدف ليس فقط إيقاف الجنون الذي سيقود إسرائيل إلى تدمير نفسها، بل إرسال رسالة واضحة تقول إن سياسة الأمر الواقع باتت متجاوزة وإن الأوروبيين لا يمكنهم الرضوخ لها في ظل ما تشهده غزة من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وفق توصيف محكمة العدل الدولية.
وفي تصريح جديد له في مايو/أيار الماضي اعتبر أن نوايا إسرائيل باتت واضحة. فالمرحلة الأولى هي إعادة احتلال غزة، والمرحلة الثانية ترحيل سكانها. ويرى أن الهدف الحقيقي لحكومة نتنياهو هو الترحيل، وهو ما يمثّل علامة على التطهيرين العرقي والجغرافي كما يقول.
وإلى جانب تعليق الاتفاقيات الأوروبية وفرض حظر السلاح، أضاف مطلبا تصعيدياً جديدا يتمثل في إحالة الحكومة الإسرائيلية بأكملها والقيادات العسكرية الرئيسة إلى المحكمة الجنائية الدولية عبر طلب جماعي أوروبي.
ولم يعد دوفيلبان يرى أنّ إيقاف إسرائيل ممكن بضغط دبلوماسي محدود. يقول إن القوة وحدها قادرة على إحداث الفارق، وإن أوروبا هي الجهة الوحيدة القادرة على ممارسة هذه القوة القانونية والسياسية، لأن الولايات المتحدة بحزبيها الجمهوري والديمقراطي لا تزال تمنح إسرائيل دعماً غير مشروط يكاد يكون مطلقاً.
وفي شهر يوليو/تموز، نشر مقالًا غاضبًا في صحيفة لوموند يتبنى فيه بوضوح وعلناً مصطلح الإبادة الجماعية، وهو تعبير لم تكن تتجرأ على النطق به في فرنسا سوى أطراف من اليسار الراديكالي. وفي منشور مطول على منصة إكس وصف العمليات العسكرية بأنها جنون قاتل يهدف إلى محو شعب بأكمله، واعتبر أن الصمت الأوروبي مشاركة في الجريمة.
وانتقد المرشح المرتقب للانتخابات الفرنسية المقبلة ضعف التدخل الفرنسي والاكتفاء بإلقاء المساعدات الجوية على شعب يتعرض للإبادة.
ويؤمن دوفيلبان بفرنسا إيمانا عميقا، ويراها رمانة ميزان المبادئ والحرية والأخلاق في الغرب عموما، ويرى أنها البلد المطالب أحياناً بأن يضع تحالفاته جانباً كي يقف مع ما يعتبره خيرا ودفاعا عن مبادئ الجمهورية الخالدة.
تلك المبادئ هي الحرية والمساواة والأخوة الإنسانية. ولهذا كان هو وفرنسا في عام 2003 ضد اجتياح بغداد، وهو اليوم، ومعه قطاع واسع من الرأي العام الفرنسي، ضد ما تخطط له حكومة إسرائيل في غزة.
ويتهم وزير خارجية باريس الأسبق بلاده بالتناقض. فهي تدافع عن القانون الدولي في أوكرانيا لكنها لا تبدي الرد نفسه حين ينتهك الإسرائيليون القانون ذاته. ويتهم النظام الدولي بالعجز لأنه بات غير قادر على التدخل وأن أدواته أصبحت متجاوزة وأن العدالة لم تعد مركزية متفقا عليها بين الدول الحرة.
ويؤكد تعاطفه العميق مع اليهود الذين عانوا من المحرقة، غير أنه يستغرب أن تكون سياسات الحركة الصهيونية قد أسهمت في خلق ما يسمى القضية الفلسطينية حين جرى طرد الأهالي من أرضهم في النكبة. ويرى أن حل الدولتين، وهو الحل الذي بدا طبيعيا لعقود، بات مع مرور الوقت شديد التعثر وربما غير قابل للتطبيق بسبب رغبات إسرائيل في حرب كبرى وبدعم أميركي لا يعرف القيد.
ويرى دوفيلبان كثيرا من الأمور ويقارب أفكاراً داخلية وخارجية بأدوات رجل دولة وخبرة شاعر، لكنه يعلم أنه لا يملك اليوم سوى الكلمة التي يكتبها أو يلقيها على الميكروفون.
صحيح أنّ لكلماته وزنا وأن الشهرة قدره حين يتكلم، ولكن كل ذلك سيكون أجدى وأقرب إلى التطبيق إن تحقق ما يرنوه إليه منذ سنوات، وهو أن يعود إلى قصر الإليزيه رئيساً للجمهورية الخامسة. وتلك قصة أخرى.
في السنوات الأخيرة اتّخذ الجمهوريون، الذين كان يُفترض أن يحملوا تصورا محافظا و"ديغوليا" بالمعنى التاريخي للكلمة، توجهاً أكثر حدّة في السياسات والخطاب. بلغ الأمر ذروته مع صعود اليميني المتطرف إيريك سيوتي إلى رئاسة الحزب ودعا إلى التحالف مع حزب مارين لوبان في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية.
ولندرك حجم التحول والصدمة التي رافقته يمكن العودة إلى ربيع 2002 حين وصل جان ماري لوبان إلى الدور الثاني أمام جاك شيراك. يومها رفض شيراك مناظرة لوبان معتبراً أن ذلك يطبع مع رجل لا يحمل برنامجا سياسيا بقدر ما يحمل برنامج كراهية. مضت الأعوام، ومالت فرنسا تدريجياً نحو يمينية أوسع نطاقا، حتى إن اليسار التقليدي تسرّبت إليه أفكار يمينية كثيرة، فكيف باليمين نفسه.
يرى دومينيك دوفيلبان أن حزبه ومدرسته السياسية تبدّلا عميقا، وهو في ذلك محق، إذ بات خطاب حزبه في نقاط عديدة لا يختلف كثيراً عن أقصى اليمين. غير أن خلافه مع تلك مدرسته السياسية ليس وليد اليوم ولا يقتصر على غزة وفلسطين، بل يعود إلى واحدة من أشهر العداوات السياسية في فرنسا الحديثة: دوفيلبان في مواجهة نيكولا ساركوزي.
يأتي الرجلان من خلفية واحدة مرجعها الجنرال شارل ديغول . فقد أسّس ديغول عام 1947 حزب الشعب الفرنسي بهدف منازعة النظام البرلماني للجمهورية الرابعة والسعي إلى نظام يمنح رئيس الدولة صلاحيات أوسع. تغيّر اسم الحزب وتحوّل مرات عديدة مع تبدّل الأزمنة. ظهر "الاتحاد من أجل الجمهورية الجديدة" مع عودة ديغول إلى السلطة والجمهورية الخامسة، ثم تعرّضت التسمية لسلسلة تعديلات عبر السنين.
وبعد فوز جاك شيراك على جان ماري لوبان في 2002 أدرك اليمينيون الديغوليون خطر أقصى اليمين على القاعدة الناخبة. اندمجت أحزاب صغيرة مع "الاتحاد من أجل الديمقراطية الفرنسية" فانبثق "الاتحاد من أجل حركة شعبية". حمل الحزب راية اليمين إلى أن تبدّل اسمه عام 2015 إلى "الجمهوريين"، وتوالت على قيادته شخصيات عدة في ظل توازنات متحركة.
ومثل أي كيان ثمة إخوة وثمة خصومات. هكذا بدت العلاقة بين ساركوزي ودوفيلبان. بدأ التباعد قبل أن يتّسع العداء. ففي 1995 أيّد ساركوزي إدوار بالادور في السباق التمهيدي بينما وقف دوفيلبان إلى جانب جاك شيراك. فاز شيراك بالرئاسة، لكن الصراع لم يهدأ، بل اشتدّ في ولايته الثانية بين عامي 2002 و2007.
تجلّت أول مواجهة علنية في قضية "كليرستريم" المعقدة التي انفجرت في ربيع 2004، حين سرت اتهامات عن تلقي شخصيات عدة، بينها ساركوزي، عمولات سرية عبر شركة في لوكسمبورغ تدعى "كليرستريم". رأى ساركوزي أن خصمه دبّر اتهامات مزوّرة للإيقاع به، وخضع دوفيلبان لإجراءات قضائية قبل أن تُثبت براءته لاحقاً. وعلى الرغم من الخلفيات القانونية ظلّ المشهد مسرحاً مفتوحاً لتبادل الشكوك بين الرجلين.
اشتعل الخلاف في 31 مايو/أيار 2005، يوم تعيين دوفيلبان رئيسًا للحكومة وعاد ساركوزي إلى وزارة الداخلية بعد فترة قضايا في وزارة المالية. شكل ذلك إحباطا لنيكولا ساركوزي الذي كان يطمح في الحصول على رئاسة الحكومة حتى يتم التمهيد له هو الذي يريد أن يترشح لرئاسة البلاد في العام 2007، وهو ما حدث رغم ذلك، وأصبح رئيسا لفرنسا في إحدى أهم فتراتها.
كان هذا سببا أولا في هذا الخلاف، أما السبب الثاني فكان هو قرب دوفيلبان من شيراك، حيث سبق أن شغل منصب الأمانة العامة للإليزيه خلال ولايته الأولى (1995–2002) وهو ما لم يكن يحظى به ساركوزي.
حين وصل ساركوزي إلى الرئاسة في 2007 لم يكن الخبر سارّاً لدوفيلبان بطبيعة الحال. وبعد معترك قضائي انتهى لصالحه في الاستئناف في مايو/أيار 2011 خرج يقول إنه صار أكثر قوةً وعزماً على خدمة الفرنسيين، وأطلق إشارة تحدٍ عندما قال إن على الرئيس أن يحسب حسابه في الأشهر المقبلة خصوصاً لعام 2012.
وخلال ذروة الخلاف وصف دوفيلبان، في مقابلة مع "يوروب 1" في نوفمبر/تشرين الثاني، الرئيس بأنه واحد من مشاكل فرنسا. أما ردّ ساركوزي فجاء بارد النبرة لكنه بالغ الدلالة؛ فقد أوعز لقيادات حزبه ألا يردّوا على دو فيلبان حتى لا يتحوّل إلى "شهيد".
ومع ذلك لم يلتزم الجميع الصمت، فخرجت وجوه حزبية تنتقد خصم الرئيس، واتهمته بقطع الجسور مع رفاقه وبازدواجية الخطاب لأنه يهاجم رئيساً انتخبه الحزب نفسه. ومع ذلك لم يلوّح أحد بإمكانية طرده، فالرجل لم يكن عضواً عابراً، وله داخل التيار أنصار يسمّون "الفيلبينيين".
انهزم ساركوزي لاحقاً أمام فرانسوا هولاند، ثم ما لبث هولاند نفسه أن تراجع عن السعي إلى ولاية ثانية. على هذا الخراب السياسي قام إيمانويل ماكرون الذي أعاد رسم الخريطة. أضعف اليسار، وشقّ صفوف اليمين من الداخل بعد استقطاب وجوهه البارزة، وصنع لنفسه خصماً وحيداً قابلاً للاحتواء أغلب الوقت هو أقصى اليمين، ذلك الوحش ذو السمعة السيئة الذي يجرّ خلفه ظلّاً ثقيلاً من تاريخ أوروبا القاتم.
ومن خارج التوقع ظهر دومينيك دوفيلبان مجدداً بالأفكار نفسها تقريباً ولكن بروح جديدة. بدا كأنه قادم من زمن كانت فيه السياسة ممارسةً حقيقية في فرنسا، لا خصاماً مبهماً بين ماكرون وأقصى اليمين. استعار الرئيس الحالي أفكاراً عدة من ترسانة مارين لوبان، وذهب أبعد من ذلك باختيار وزراء شديدي القرب من عالمها.
في هذا السياق كتبت مجلة "لو بوان" مادة بعنوان "دومينيك دوفيلبان، من نيرون إلى أيقونة يسارية" لتصف تحوّل صورته في المخيال العام من رجل يميني صلب إلى صوت يجد صداه في أوساط اليسار. ونُقل أن برناديت شيراك كانت تلقّبه "نيرون" في إيحاء إلى صرامته وشخصيته المتوهجة، غير أنّ الرجل الذي كان الأقرب إلى بيت شيراك أصبح اليوم مرجعاً أخلاقياً لدى قطاع من اليسار بسبب مواقفه من الحرب والسلام والشرعية الدولية.
يعلن صديق شيراك السابق أنه يفكّر في الترشح، ويسوّق لرؤيته في ما يخص فرنسا، خصوصاً سياستها الخارجية ومواقفها من القضايا الكبرى. يرفع صوته في وجه الولايات المتحدة عندما يرى أنها تتخطى القانون الدولي، ويواجه إسرائيل بخطاب صارم يشتدّ مع الوقت، وهو ما أكسبه شعبية متنامية. إنّه خطيب مفوّه، ابن البرجوازية الفرنسية، وصاحب حضور لا يُنكر لدى جمهور واسع ولا سيما النساء.
ومع اقتراب نهاية ولاية ماكرون وتداول فرضية استبعاد مارين لوبان من السباق بسبب تعقيدات قضائية وسياسية، ومع حداثة خبرة خليفتها المحتمل جوردان بارديلا، ومع غياب مرشحين أقوياء بما يكفي لدى اليسار واليمين التقليديين، يظل اسم دوفيلبان مطروحا بقوة.
غير أنّ عليه أن يتجاوز معضلته الأزلية وهي قدرته الفائقة على مخاطبة النخب مقابل صعوبة مدّ الجسور إلى الطبقات الشعبية التي ترفع وتضع الساسة في فرنسا. فإذا نجح في جسر هذه الفجوة صار الطريق إلى الإليزيه أقرب، وإن عجز فقد يبقي صوته الأخلاقي عاليا من دون أن يتحول إلى سلطة تنفيذية.