كانت الكهرباء تصل إلى المباني لست ساعات فقط، والناس يشكون بشكل مستمر، الأخبار والظروف سيئة بشكل عام، والجو محبط وكئيب، لكنّهم رغم كل ذلك، كانوا قادرين على التأقلم مع الوضع بشكل كبير، واعتباره طبيعياً، فالحصار والفقر عّلمهم الكثير.. هكذا وصفت الصحفية الفلسطينية عبير أيوب الحياة في قطاع غزة قبل الحرب بين إسرائيل وحماس، التي بدأت في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
للحصول على الكهرباء لوقت أطول، كان الناس يشتركون بمولدات كهربائية تخدم كل منطقة، كما كانت الأشياء تُباع بالقطعة، حتى أكياس الشاي (الميداليات)، وحفاظات الأطفال، تقول عبير أيوب، لكن كل ذلك، كان يعده أهل القطاع "طبيعياً".
حياة الغزيين اليومية تغيرت بشكل كبير بعد هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، العملية التي أطلقت عليها حماس اسم "طوفان الأقصى" عندما هاجمت غلاف غزة ما أسفر عن مقتل نحو 1,200 إسرائيلي في يوم واحد، واحتجاز 240 رهينة داخل القطاع، كما أعلنت إسرائيل مقتل 1152 قتيلاً من الجيش والشرطة وجهاز الأمن العام (الشاباك).
هجوم حماس قوبل بهجوم إسرائيلي غير مسبوق على قطاع غزة، أسفر حتى الآن عن مقتل وفقدان نحو 76,639 شخصاً وإصابة 169,583 بحسب المكتب الإعلامي الحكومي في غزة.
لكن، كيف يتذكر الفلسطينيون اليوم هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول - بداية عملية "طوفان الأقصى"؟
في هذا التقرير أسألُ غزيين عن رأيهم فيما حدث، رغبة بفهم ما كان عليه الوضع في القطاع، وما بات عليه الآن بعد عامين. فكيف كان هذا المجتمع، وكيف انهار خلال العامين الماضيين، وما الذي تعنيه اليوم هذه الذكرى، بالنسبة لهم؟
في أغسطس/ آب 2025، قالت هيئة تابعة للأمم المتحدة مسؤولة عن مراقبة الأمن الغذائي، للمرة الأولى منذ بداية الحرب، إنّ حدوث مجاعة في مدينة غزّة (مركز القطاع) أمرٌ مؤكد، تقرير وصفته إسرائيل بالـ"كاذب والمتحيز".
وتفرض إسرائيل حصاراً على قطاع غزة منذ استلام حماس للسلطة عام 2007، كما تفرض قيوداً على دخول البضائع، وزادت هذه القيود بعد بدء الحرب، لكن الوضع تدهور بسرعة منذ مارس/آذار 2025، بعدما فرضت إسرائيل حصاراً كاملاً لنحو ثلاثة أشهر على دخول البضائع إلى غزة.
لكن، بعد ضغط دولي كبير، بدأت إسرائيل بالسماح بدخول كمية محدودة من البضائع إلى غزة في أواخر مايو/أيار، توزَّعُ من خلال "مؤسسة غزة الإنسانية GHF" المثيرة للجدل. وتقلّصت نقاط التوزيع من 400 نقطة كانت تشرف عليها الأمم المتحدة، إلى أربع فقط تُشرف عليها مؤسسة غزة الإنسانية، حيث يتولى متعاقدون أمريكيون تأمين المواقع، بينما تقوم القوات الإسرائيلية بتسيير دوريات في محيطها.
أما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول، تقول الشابة ربى (اسم مستعار)، 25 عاماً، المقيمة في قطاع غزة "بالنسبة للوصول للطعام، يعني الحمد لله، ما في شيء كان يخطر على بالي، ما كنت أقدر أشتريه".
تضيف ربى، أنّ الكثير من المنتجات الأجنبية كانت متوفرة رغم الحصار الإسرائيلي، تصف المشهد لنا قائلة "كنّا نملأ بـ 100 شيكل (30 دولاراً) كيساً كبيراً من الحلويات في السوبر ماركت، لم تكن منتجات محلية فحسب، بل مستوردة كذلك، منها أنواع الشوكولاتة المختلفة والمشروبات الغازية".
تقول ربى إن الوضع في قطاع غزة كان في تحسن، خاصة بعد السماح للغزيين بالعمل في إسرائيل.
أما كيس الطحين، الذي بات الحصول عليه اليوم مغامرة قد تكلّف الغزّي حياته، تقول عبير أيوب، الصحفية الفلسطينية، إنه كان متوفراً بأسعار منطقية، وموجوداً في كل بيت، إذ كانت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) توزعه، الأمر الذي كان يجعل سعره في متناول الجميع.
وتضيف أنها نادراً ما كانت تسمع من يشكي بسبب الطعام، "بأسوأ الأحوال رح يأكلوا رز وعدس، ورح يصح لهم وجبة غداء"، مشيرةً إلى عادات أهل القطاع الذين كانوا يوزعون الطعام في معظم المناسبات الاجتماعية، لذا "ما كانت الناس تنقطع"، بحسب تعبيرها.
مع مرور عامين على بدء الحرب الإسرائيلية على القطاع، بات الخروج من غزة شبه مستحيل.
لكنّ الوضع في عام 2022 لم يكن كذلك، يقول مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة (أوتشا) في تقرير صدر في فبراير/شباط 2023 إنَّ أكبر عدد من الفلسطينيين كان قد سُمح لهم مغادرة القطاع عام 2022، "إلا أن حركتهم ظلت الاستثناء لا القاعدة"، بحسب أوتشا.
وارتفع عدد تصاريح الخروج للعمال والتجار الصادرة عن السلطات الإسرائيلية من أكثر من 10 آلاف تصريح في يناير/ كانون الثاني 2022 إلى أكثر من 18 ألف تصريح في نوفمبر/تشرين الثاني 2022. وقد سمح ذلك بخروج أكبر عدد من الناس مقارنةً بأي وقت مضى منذ أوائل الألفية الثانية. في الوقت نفسه، سمحت السلطات المصرية بخروج عدد أكبر من الناس منذ عام 2014، بحسب أوتشا.
وفي عام 2022 وحده خرج نحو 424 ألف شخص من غزة إلى إسرائيل أو عبرها، فيما خرج نحو 150 ألف شخص إلى مصر، وشكّل العاملون بشكل يومي نحو 83 في المئة من المغادرين، والمرضى ومرافقوهم نحو 7 في المئة.
لكنّ أوتشا تقول إن معظم الفلسطينيين لا يقعون ضمن الفئات المعترف بها، وغير مؤهلين بالحصول على تصاريح.
تشير عبير أيوب إلى أن الغزيين كانوا يسجلون أسماءهم للسفر، "إذا كنت محظوظاً، ستحصل على الموافقات خلال ثلاثة أسابيع إلى شهر، أحياناً قد يصل هذا الوقت إلى شهرين" اعتماداً على الفحص الأمني الإسرائيلي أو المصري. بالنسبة للمعابر إلى إسرائيل، كان من النادر الحصول على الموافقات للسفر من خلالها، خاصةً إذا كان للشخص أي علاقة متوقعة بحماس، أما معبر رفح، فكان معظم الناس قادرين على السفر من خلاله، ونادراً ما كانت السلطات المصرية ترفض ذلك.
دُمرت نحو 179 مدرسة حكومية بشكل كامل، فيما تعرضت 118 مدرسة للقصف والتخريب، إلى جانب 100 مدرسة تابعة للأونروا، كما دُمّر 63 مبنىً جامعياً، حتى سبتمبر/أيلول 2025، بحسب مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
تؤكد عبير أيوب أنّ التعليم في غزة كان أمراً أساسياً، والتعليم الجامعي كان يتحمل الأهل تكلفته سواء بجمع الرسوم قبل كل فصل، أو بالحصول على "خصم أخوة" أو بالاشتراك بـ"جمعيات" أو حتى بالحصول على منح دراسية، "لم تكن الكلفة أصعب شي".
وتصف ربى الوضع اليوم قائلة، إنّ المدارس في غزة لم تعد تتكون من باب وصف دراسي كما نعرفها، بل باتت معظمها خيماً مدعومةً من جهة معينة (أممية أو دولية) كاليونيسيف، أو بجهود شخصية في كثير من الأحيان، لذا فالأمهات يحاولن أن يجدن أقرب "صف"، حتى أنهنّ في بعض الأحيان يسيرون لمسافات بعيدة، ليحصل أطفالهن على التعليم في مدارس ليست حتى "مدارس بالمعنى المتعارف عليه عالمياً".
سعاد، شابة غزية تعيش الآن في مصر، تقول: "زوجي شهيد، ولدي ثلاثة أطفال"، تصف حياتها في غزة قبل الحرب قائلة: "حياة رائعة وجميلة، كلها هدوء واستقرار" أطفالها كانوا يرتادون المدرسة بطبيعة الحال، كانوا "أطفالاً مميزين... بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول دُمّرت حياتنا كلياً، أولادي دُمّروا نفسياً".
تقول سعاد إنها استطاعت الخروج إلى مصر بعد دفع مبلغ كبير جداً، والآن، خسر أبناؤها عامين من حياتهم بسبب انقطاعهم عن الدراسة، تصف ما حدث بأنه صعب جداً، مضيفةً: "على مستوى شخصي... فقد انتكبنا".
تحدثتُ إلى آية، 23 عاماً، والتي تقيم أيضاً في مصر، أخبرتني أنّ تخرجها من الجامعة كان مقرراً في السابع من أكتوبر، أي في نفس اليوم الذي بدأت فيه الحرب، تقول: "كنتُ أنتظر تلك اللحظة التي يُنادَى فيها على اسمي - الخريجة المتفوقة الحاصلة على درجة الامتياز - ولكنّ الحرب أفسدت جميع أحلامي، وأحلام عائلتي".
أما بالنسبة للقوى العاملة، فرغم أن معدل البطالة في قطاع غزة عام 2022 بلغ 45 في المئة، إلا أنّ عدد الغزيين العاملين زاد نحو 2 في المئة عن عام 2021، حيث كان معدل البطالة 47 في المئة، بحسب مركز الإحصاء الفلسطيني، وكان التفاوت بين القطاع والضفة الغربية واضحاً، حيث بلغ معدل البطالة في الضفة الغربية 13 في المئة فقط، عام 2022، بحسب المركز.
تقول عبير أيوب إنّ الكثير من الشابات المتعلمات لم يكنّ يستطعن العثور على عمل، فيما يعمل الكثير من الشباب كسائقين، بسبب قلة فرص العمل.
رغم ذلك، تصف ربى حياتها قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول بأنها "كانت رائعة جداً"، إذ كانت تملك هي وأختها متجر ملابس، كما كانت تعمل كمصورة، ويعمل أخوها مدرساً، لكنّ باقي إخوتها عاطلون عن العمل.
"كان عنّا أرض بنزرعها، وأسرتي كان الحمد لله وضعها منيح، يعني كنا مستقرين في بيتنا... الحياة الآن بعد سنتين من الحرب صارت حياة تشرد، بيت العيلة راح، بيت أهلي راح، ما في بيت، ما في أرض، ما في شغل، يعني حتى الواحد مش عارف إذا بقدر يرجع على الشمال أو لا"، تضيف ربى.
تروي لنا آية، حكاية نزوحها مع عائلتها في 23 يناير/كانون الثاني 2024، وتصف كيف كانت مترددة بين النجاة بحياتها وحمل جهازها (اللابتوب) ليساعدها في الحصول على فرصة عمل، لكن بفعل القصف الشديد والمشي لساعات طويلة اضطُرت للخروج بدونه.
يصف المكتب الإعلامي الحكومي الوضع في قطاع غزة اليوم، بأنه "انهيار شبه كامل للبنية التحتية" في القطاع، وذلك بعد أن حذر سابقاً بأن 90 في المئة من البنية التحتية قد دُمرت.
تقول الصحفية عبير أيوب، إنّ الثقافة المجتمعية الشائعة في غزة، قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول، كانت تحتِم على الغزيين أن يمتلكوا بيوتهم الخاصة "أنت أكبر إنجاز في غزة إنك تشتري شقة"، وكان الكثيرون يمتلكون منازل بالفعل.
توضح ذلك بأنّ أغلب الناس بنوا بيوتهم في الفترة التي كان يُسمح فيها للغزيين بالعمل في إسرائيل، وقبل الحرب بعام، عاد الغزيون للعمل هناك، الأمر الذي سهّل دخول مواد البناء مرة أخرى إلى القطاع، ومكّن الكثيرين من البناء، أو شراء الشقق في الأبراج المنتشرة في غزة، والتي دُمّر معظمها الآن.
تصف الصحفية غزة التي زارتها قبل الحرب بثلاثة شهور، وتقول إنّ المشهد كان مفاجئاً بالنسبة لها، فمرحلة البيوت والأبراج كانت قد انتهت، وبات الغزيّون يحاولون افتتاح مطاعم ومقاهي ومنتجعات كذلك.
تنقل عن مالك مطعم قوله: "غزة قائمة على كيس الاسمنت... إذا دخل، كُلنا بنترزّق".
بلغ عدد المستشفيات التابعة لوزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة عام 2022، 13 مسشفى، تشكل 77 في المئة من كامل أسرّة مستشفيات القطاع، بحسب مركز المعلومات الوطني الفلسطيني.
منظمة الصحة العالمية حذرت في تقرير صدر في مايو/أيار هذا العام، من أن النظام الصحي في غزة بات على حافة الانهيار. وحتى نهاية سبتمبر/أيلول 2025 لا تزال 14 مستشفى فقط تعمل في القطاع، من أصل 36، بحسب المنظمة.
تقول ربى إنّ الوصول إلى الأدوية في القطاع كان "سهلاً نسبياً"، قبل الحرب - لكن رحلة البحث عن الأدوية والعقاقير باتت اليوم "أزمة كبيرة"، تصف لنا كيف تحاول الحصول على الأدوية اللازمة لوالدها: "بنروح على العيادات، بنروح على الوكالة (الأونروا)، بنروح هان، بنروح هان بلا نتيجة".
أمّا شيماء، 41 عاماً، والتي تُعاني من إعاقة بصرية، فتقول إنها كانت تمارس حياتها بشكل طبيعي دون أي عائق، وتعمل معلمة تربية خاصة، لكنّ التلوث بسبب القصف والدخان والغبار، تسبب بتدهور نظرها بشكل أكبر، ولم تستطع الحصول على التشخيص والعلاج بسبب الحرب.
تصف رحلة نزوحها من خان يونس إلى رفح قائلة: "كنت أعاني من صعوبة في المشي بمفردي وكنت أحتاج إلى مُرافق وكان الرصاص يتطاير حولنا، مشينا مسافة ساعتين حتى وجدنا سيارة لتوصلنا إلى رفح".
مع ذلك، تصف شيماء الوصول إلى رفح بالـ"كارثة".
"لم نجد مأوى ولا فِراشاً ولا طعاماً"، كما تروي، وبعد التنقل بين مدرسة ومسجد وغرفة صغيرة، استطاعت السفر إلى مصر مع والدتها وأختها تاركاتٍ باقي العائلة خلفهنّ في القطاع.
في مقابلة أجرتها قناة سي إن إن الأمريكية مع وائل الدحدوح، سُئل الصحفي الفلسطيني: "هل تمنيت يوماً لو لم تقُمْ حماس بهجوم السابع من أكتوبر؟".
أجاب الدحدوح وقتها قائلاً إن "اختصار المشهد الفلسطيني على هذه اللحظة التاريخية، هو ظلم وإجحاف، وقلب للحقائق"، مشيراً إلى أنّ حياة الغزيين لم تكن "وردية" قبل ذلك، وأنهم دفعوا أثماناً كبيرة، أهمها الحروب التي خاضوها بشكل متوالٍ، مؤكداً أن الغزيين كانوا يعانون بشكل كبير من الفقر والبطالة اللذين تسبب بهما الحصار الإسرائيلي المستمر للقطاع منذ عام 2007، كما لم يكن مسموحاً للكثيرين بالسفر إلى الخارج.
يقول المحلل السياسي الفلسطيني مصطفى إبراهيم، في حديثه مع بي بي سي، إنه رغم أنّ كثيراً من الفلسطينيين أيدوا هجوم حماس في البداية، لكّن ذلك لم يدُمْ طويلاً، فاليوم بات الانقسام في الساحة الفلسطينية واضحاً، مشيراً إلى تدمير القوات الإسرائيلية لكل مقوّمات الحياة بكل أشكالها.
ويضيف أنه رغم توجّه بعض الدول إلى الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إلاّ أنّ إسرائيل تقترب من تحقيق أهدافها بإجبار الفلسطينيين على الهجرة.
يقول إبراهيم: "الفلسطينيون فقدوا كل شيء... ما يستطيعون القيام به هو البقاء على قيد الحياة"، في إشارة إلى ما مر به الغزيون.
في الذكرى الثانية لهجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، تستذكر ربى قائلة: "ما حدث كان كارثة عظيمة جداً جداً حلّت بالشعب الفلسطيني وبالغزيين خاصة"، وتتساءل: "لماذا نُحاسب نحن (أهل غزة)، منذ سنوات، وحدنا؟".