هذا المقال بقلم دكتور عبداللطيف جمال رشيد رئيس جمهورية العراق والآراء الواردة أدناه، تعبر عن رأي الكاتب، ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN .
في نهاية الأسبوع الماضي، عقد العراق مؤتمرًا رفيع المستوى بشأن مخيم الهول، وذلك على هامش أعمال الدورة الثمانين لل جمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك. لم يكن هذا المؤتمر مجرد إجراء بروتوكولي، بل مثّل نداءً عاجلًا لتحمّل المسؤولية المشتركة في مواجهة واحدة من أخطر الأزمات الإنسانية والأمنية التي أهملها العالم طويلًا .
لا يزال مخيم الهول في شمال شرق سوريا يمثل بيئة هشة وعالية الخطورة، إذ يضم ما يقارب 10 آلاف متطرف مع عائلاتهم ينحدرون من أكثر من 60 دولة. إنه بؤرة خصبة للتطرف، وكارثة إنسانية متجددة، وصورة حية لفشل المجتمع الدولي في معالجة ما خلّفته الحروب والإرهاب والنزوح .
يعرف العراق هذه الحقائق جيداً، فما زالت جراح الاحتلال الوحشي لداعش ماثلة في الذاكرة. ففي الفترة ما بين عامي 2014 و2017، قُتل ما يُقدَّر بنحو 95 ألفاً إلى 115 ألف شخص في العراق، من مدنيين ومقاتلين. ورغم إعلان رئيس الوزراء حيدر العبادي في عام 2017 تحقيق النصر العسكري على داعش، غير أن المجتمعات التي أنهكها النزاع بقيت فريسة سهلة للتطرف، بينما تواصل الحكومة مساعيها الحثيثة لسد فجوات الخدمات وبناء استقرار راسخ يعيد الأمل إلى الناس .
لقد علّمنا التاريخ أن الأزمات حين تُترك دون حلول تتحول إلى تهديدات دائمة. من معسكرات النازحين بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا، إلى أزمات اللاجئين في رواندا وزائير، كانت النتيجة واحدة: الإهمال الدولي يحوّل النزوح المؤقت إلى قنبلة موقوتة .
من هنا، لم ينتظر العراق تحرك الآخرين، بل تحمّل مسؤوليته بالكامل. اتخذنا خطوات صعبة وحاسمة لإعادة مواطنينا من مخيم الهول، عبر عملية منسقة شملت الأبعاد الأمنية والإنسانية والقانونية. وحتى اليوم، أعاد العراق 4915 عائلة (18,830 فردًا) إلى مركز الأمل داخل البلاد، من بينهم 3407 عائلات (12,557 فردًا) تم دمجهم بالفعل في مجتمعاتهم المحلية. كما استقبل العراق 3206 محتجزين من عهدة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وذلك في إطار جهد وطني مكثف لإغلاق هذا الفصل المؤلم وفتح صفحة جديدة قائمة على الأمن والاستقرار .
وراء هذه الأرقام قصص بشرية حيّة. كل فرد أعيد من المخيم هو حياة مزقتها الحروب واليوم تدخل مسار إعادة التأهيل والاندماج. لقد وضعنا خطة وطنية شاملة تتضمن الدعم النفسي، التعليم، التدريب المهني والمصالحة المجتمعية، تنفذها أربع مجموعات فنية تضم مؤسسات عراقية وشركاء دوليين. هذا النموذج يشكل إطارًا عمليًا قابلًا للتطبيق أمام دول أخرى تواجه التحديات نفسها. كما أن العراق لا يكتفي بجهوده الوطنية، بل يدعم أيضًا اللوجستيات الخاصة بعمليات الإعادة في دول أخرى، ويؤكد استعداده لمساعدة أي دولة تسعى لإدارة هذا الملف المعقد .
لكن الحقيقة المؤكدة هي أن أزمة الهول ليست مسؤولية العراق أو سوريا وحدهما، بل هي أزمة عالمية. وإن تجاهلها أو التعامل معها بطريقة خاطئة سيجعل آثارها تمتد إلى ما هو أبعد من حدودنا. بعض الدول بدأت بإعادة مواطنيها، لكن كثيرًا منها ما زال مترددًا بذريعة عقبات سياسية أو قانونية. وفي الوقت نفسه، يكبر الأطفال في مخيمات بائسة بلا قانون، كثير منهم يتعرضون للتطرف ويُعرفون بـ"أشبال داعش". وتبقى النساء محتجزات في أوضاع مأساوية، فيما يواصل المتطرفون التخطيط والتجنيد. والأخطر أن تقارير صادرة عن مؤسسات موثوقة ومنظمات إنسانية أماطت اللثام عن انتهاكات مروّعة، شملت اعتداءات جنسية على أطفال داخل المخيم، فكل يوم يمر بلا حل هو فرصة تضيع وخطر يتصاعد .
لقد شكّل المؤتمر الأخير الذي رعاه العراق نداءً عاجلًا للتحرك الجماعي، ومؤشرًا على تنامي الزخم الدولي لمواجهة هذه الأزمة. فقد رحّب شركاؤنا، وفي مقدمتهم مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب (UNOCT) ومعظم الدول الأعضاء بمبادرتنا، وأكدوا دعمهم لإيجاد حلول عاجلة وفعالة. غير أن النوايا الحسنة وحدها لا تكفي؛ فالزخم يجب أن يتحول إلى خطوات عملية أسرع وأوسع. والذين يكتفون بالمراقبة من بعيد، آن الأوان لهم أن يتقدموا ويأخذوا مكانهم على طاولة الحل .
إن هدفنا بيّن لا لبس فيه: إغلاق مخيم الهول والمخيمات المشابهة، وقطع الطريق أمام عودة الإرهاب، وإعادة بث الأمل وترسيخ الكرامة لكل من طالته المعاناة. ونحن ندرك أن إعادة الاندماج والمصالحة ليست مهمة يسيرة ولا سريعة، فالعائدون من هذه المخيمات يعانون جروحًا عميقة تتطلب دعمًا طويل الأمد. غير أن العراق، يعرف جيدًا ثمن التقاعس، وهو مصمم على ألّا يكرر أخطاء الماضي، بل أن يحوّل هذه التحديات إلى فرصة حقيقية لتعزيز السلام وترسيخ الاستقرار .
إلى الشركاء الذين وقفوا معنا في معركة القضاء على داعش، نقول: حان الوقت لأن تقفوا معنا من أجل سلام دائم. إن إعادة مواطني المخيمات مسؤولية جماعية، وعلى العالم أن يواجه هذه الأزمة بالعزم والتعاون، لا بالخوف أو اللامبالاة. إن مأساة مخيم الهول يجب ألا تتحول إلى وصمة عار على ضمير الإنسانية، بل إلى قصة عن وحدة العالم وقدرته على تجاوز المحن .
إن العراق حين يطلق اليوم نداءه فهو لا يدافع عن حدوده وحدها، بل عن مستقبل الإنسانية جمعاء. لقد قام بدوره كاملًا، ويبقى على الآخرين أن يتحملوا مسؤولياتهم حتى لا تتحول مخيمات النزوح إلى مصانع للكراهية والإرهاب، بل إلى بداية جديدة تُبنى فيها فرص السلام والكرامة.