في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في أعماق البحار، حيث تمتد آلاف الكيلومترات من الكابلات الدقيقة التي تحمل نبض الاقتصاد العالمي، يدور واحد من أكثر الصراعات الجيوسياسية خطورة وخفاء في القرن الحالي.
وتفيد وكالة بلومبيرغ الإخبارية في تقرير مطول بأن هذه الكابلات، التي تنقل نحو 99% من حركة الإنترنت الدولية، لم تعد مجرد بنية تحتية تقنية، بل تحوّلت إلى جبهة متقدمة في المواجهة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين، وهي مواجهة تعيد رسم خريطة النفوذ الاقتصادي والأمني في عالم يتزايد اعتماده على الذكاء الاصطناعي والبيانات.
واستهلت الوكالة الأميركية تقريرها بحادثة وقعت في ليلة من ليالي فبراير/شباط الماضي قبالة الساحل الجنوبي الغربي لتايوان ، عندما دخلت سفينة شحن صينية وألقت مرساها، مما أدى إلى قطع الكابلات التي تربط الجزيرة بأرخبيل مجاور.
وتسلط الحادثة -وفق التقرير الإخباري- الضوء على هشاشة شبكة الكابلات البحرية العالمية، وخطورة التوترات السياسية المحيطة بها.
وتؤكد تايوان وقوع 7 إلى 8 انقطاعات سنويا، معظمها يرتبط بالصين التي تصر على أنها حوادث عرضية، لكن النتيجة واحدة وهي تصاعد التوتر في منطقة شديدة الحساسية جيوسياسيا.
وتقول بلومبيرغ إن حماية الكابلات البحرية مهمة شاقة، إذ إنها تمتد إلى ما هو أبعد من مضيق تايوان، وتزداد أهميتها مع اشتداد حدة التنافس بين الولايات المتحدة والصين.
وتضيف أن كل حركة الإنترنت العالمية -بما في ذلك التفاعلات مع الذكاء الاصطناعي والتنسيق العسكري و10 تريليونات دولار من المعاملات المالية اليومية- تمر تقريبا عبر كابلات تحت البحر صُممت لعصر التعاون، لا الصراع.
ولما كانت تلك الكابلات تمثل شريان الاقتصاد الرقمي العالمي، فقد باتت حمايتها مهمة شاقة تفوق بكثير مضيق تايوان وتمتد إلى كل المحيطات.
ووفقا للتقرير، فإن الصراع بين واشنطن وبكين يأخذ شكل سباق مزدوج: حماية الكابلات من التخريب والتجسس، والسيطرة على مساراتها وبنيتها التحتية.
قطاع الكابلات كانت تقوده تقليديا -بحسب التقرير- اتحادات شركات الاتصالات، لكن المشهد تغير جذريا، إذ باتت شركات التكنولوجيا الكبرى -مثل ميتا وغوغل ومايكروسوفت وأمازون- تشكل أكثر من 70% من السعة المستخدمة بعدما كانت أقل من 10% قبل عقد.
وفيما تعمل واشنطن على إقصاء الشركات الصينية من شبكاتها، توسِّع بكين "طريق الحرير الرقمي" لتعزيز نفوذها. أما دول مثل سنغافورة، فتنتهج الحياد لاستغلال الطلب المتزايد على البيانات.
ويبرز هذا التنافس بشكل خاص في مشروعين رئيسيين هما: كابل "بيس" (PEACE) الذي أنشأته شركة صينية ويدور حول الهند ويتوقف في أفريقيا، وكابل "سي إي إيه-إم إي-دبليو إي-6" (SEA-ME-WE-6) الأميركي الذي يربط الهند واقتصادات خليجية.
وكلا المشروعين يتجهان إلى أوروبا، لكن مساراتهما تعكس طموحات مختلفة. كما يبرز الانقسام في حادثة قطع كابل "بيس" في خليج السويس مطلع 2025، مما عطّل الاتصالات لأسابيع.
وقطاع الكابلات كانت تقوده تقليديا -بحسب التقرير- اتحادات شركات الاتصالات، لكن المشهد تغير جذريا، إذ باتت شركات التكنولوجيا الكبرى -مثل ميتا و غوغل و مايكروسوفت و أمازون – تشكل أكثر من 70% من السعة المستخدمة بعد أن كانت أقل من 10% قبل عقد.
وتفيد الوكالة بأن تلك الشركات تبني شبكاتها الخاصة لتأمين اتصال مخصص وخفض التكاليف. وتعمل ميتا مثلا على مشروع "ووترويرث" (Waterworth)، الذي يعد أطول كابل بحري في العالم بطول 50 ألف كيلومتر.
هذا التحول يعكس -برأي بلومبيرغ- تغيرا تاريخيا منذ بدايات الكابلات في القرن الـ19 التي ربطت أوروبا وأميركا عبر التلغراف.
واليوم، ومع توقع أن يرتفع الإنفاق على الكابلات من 900 مليون دولار عام 2023 إلى 15.4 مليار دولار عام 2028 بفعل الذكاء الاصطناعي، تتحوّل مناطق هبوط الكابلات إلى مراكز اقتصادية جديدة تحتضن استثمارات ضخمة في مراكز البيانات.
ولمواجهة النفوذ الصيني، تقدم واشنطن حوافز مالية وتضغط دبلوماسيا على دول مثل فيتنام لعدم الاعتماد على البنية التحتية الصينية. كما تبنّت قوانين جديدة في أغسطس/آب الماضي لحماية شبكاتها من المعدات الصينية، ومنع مشاركة الكيانات التي تعتبر تهديدا أمنيا.
لكن الوكالة تفيد في تقريرها بأن المخاطر لا تنحصر في التنافس الجيوسياسي. فمعظم الكابلات تقع في مناطق غير محمية خارج سيطرة الدول، مما يجعلها عرضة للحوادث (نحو 200 سنويا) والتجسس والتخريب.
وتؤكد حوادث مثل تلك التي شهدتها أوروبا في ديسمبر/كانون الأول 2024، حين جرّت سفينة روسية مرساتها عبر خليج فنلندا وقطعت 5 كابلات محدثةً أضرارا بنحو 70 مليون دولار، مدى هشاشة البنية التحتية.
وقد حذّر الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف من أن موسكو لن تتردد في تدمير كابلات أعدائها إذا كانت وراء تفجير خط أنابيب نورد ستريم عام 2022.
وردا على هذه التهديدات، ضخّ حلف شمال الأطلسي (ناتو) استثمارات في تقنيات مراقبة جديدة، بما في ذلك استخدام الذكاء الاصطناعي ونشر طائرات مسيّرة وروبوتات لإصلاح الكابلات.
من جهتها، حذّرت رئيسة وزراء الدانمارك من تصاعد "الهجمات المستهجنة" مثل استهداف الكابلات. أما الصين، فقد بدأت منذ 2015 في بناء شبكة حساسات بحرية تُعرف باسم "السور العظيم تحت الماء" في بحر جنوب الصين.
ويتوقع أن يزيد طول شبكة الكابلات البحرية بنسبة 48% بحلول 2040 لتلبية الطلب المتسارع على البيانات. لكن المعهد الأسترالي للسياسات الإستراتيجية يحذّر من تركّز البيانات في يد عدد قليل من الشركات الكبرى، مما قد يخلق نقطة فشل واحدة في النظام الرقمي العالمي.
ورغم أن شبكات الأقمار الصناعية مثل ستارلينك تنمو بسرعة وتوفر بدائل مؤقتة، فإن بلومبيرغ ترى أنها لا تشكل بديلا حقيقيا للكابلات.
ونقلت عن القائد البحري البريطاني السابق جون أيتكن القول "في الحرب العالمية الثانية ، قصفنا الطرق والجسور بشدة، وفي أي صراع قادم، لا ينبغي أن نفاجأ إذا أصبحت هذه الكابلات أهدافا".