آخر الأخبار

الحرب تدق أبواب بولندا فما القصة؟

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقال رأي عام 2023 يعقب على خطاب للرئيس الأميركي الأسبق بايدن تحدث فيه عن ضرورة دعم أوكرانيا وإسرائيل في حربهما لحماية أمن أميركا، وشددت على أن الخطاب فشل في شرح الأمر للمواطن الأميركي العادي، وعقّبت على قول بايدن "لو تركنا بوتين يسيطر على أوكرانيا فسيسيطر لاحقا على بولندا" بأن المواطن الأميركي العادي لا يكترث لسيطرة بوتين على أوكرانيا كي ينزعج لاحقا من سيطرته على بولندا.

رغم استخفاف كاتب الرأي بما يجري في أوكرانيا وبولندا، فإن التاريخ يشير إلى أن الأخيرة تقبع على حدود النار بين الشرق والغرب. وحينما تقرر روسيا الاحتكاك ببولند الآن فإنها تضع المنطقة أمام مرآة التاريخ المرير مرة أخرى.

اقرأ أيضا

list of 2 items
* list 1 of 2 الاستثمار الأجنبي في السودان بعد الحرب.. كيف نحوّل الركام إلى فرص؟
* list 2 of 2 من يشعل النار في سلة غذاء العالم؟ end of list

فعندما اجتاحت الدبابات الألمانية غرب بولندا في الأول من سبتمبر/أيلول 1939، كانت تلك اللحظة الشرارة الأولى لاندلاع الحرب العالمية الثانية . وفي غضون أسابيع قليلة، تقدمت قوات الاتحاد السوفياتي من الشرق لتستكمل عملية الغزو، فتحولت بولندا إلى ساحة صراع مدمر، ووجد شعبها نفسه محاصرًا بين قوتين عظيمتين تتقاسمان أرضه ومصيره.

واليوم، وبعد أكثر من 85 عامًا، تواجه بولندا بسكانها البالغ عددهم 38.7 مليون نسمة تهديدًا جديدًا، وإن كان في سياق جغرافي وسياسي مختلف. فعلى تخومها الشرقية تقف روسيا، مستندة إلى إرثها السوفياتي وساعية إلى تعزيز نفوذها الإقليمي.

ورغم أن احتمالات المواجهة المباشرة لا تبدو وشيكة في المدى المنظور، فإن وارسو تواجه سلسلة من الضغوط اليومية، تشمل اختراقات جوية وهجمات سيبرانية متكررة، إضافة إلى توظيف بيلاروسيا -حليف موسكو الأقرب- ملف اللاجئين كأداة ضغط.

هذا المزيج من التهديدات المتنوعة أعاد وضع بولندا في صدارة حسابات الأمن الأوروبي، باعتبارها خطّ تماس رئيسيًّا في التوازن بين الشرق والغرب.

إعلان

بولندا.. قلب الدفاع الأمامي

توتر العلاقات الروسية البولندية يعود إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية. فمنذ أواخر القرن الثامن عشر، خضعت بولندا لتقسيمات متتالية بين روسيا وبروسيا والنمسا، وظلّ جزء كبير منها تحت السيطرة الروسية، مما ولّد عداءً تاريخيًّا متجذرًا.

وقد أورد جون ميرشماير في كتابه الشهير "مأساة سياسة القوى العظمى" مقولة للمستشار الألماني بسمارك يتحدث فيها عن احتمال تشكل دولة جديدة للبولنديين في القرن التاسع عشر يقول فيها "رغم أني متعاطف مع موقفهم، فلا مفر لنا من إبادتهم، إذا أردنا البقاء".

وبعد استقلال بولندا عام 1918، دخلت في حرب مباشرة مع الاتحاد السوفياتي عامي 1919 و1920، انتهت بانتصارها في "معجزة فيستولا" وتوقيع معاهدة ريغا التي منحتها أراضي واسعة على حساب السوفيات، وهو ما خلّف مرارة عميقة لدى موسكو.

وفي العقود التالية، ظل كل من الطرفين ينظر إلى الآخر بريبة وعداء، حتى جاء اتفاق مولوتوف–ريبنتروب عام 1939 ليعيد تقسيم بولندا بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفياتي، ويفجر شرارة الحرب العالمية الثانية.

وخلال الحقبة السوفياتية، كانت بولندا إحدى دول حلف وارسو الخاضعة بشكل كامل للنظام الشيوعي، وتابعة للاتحاد السوفياتي. لكن مع انهيار الكتلة الشرقية في عام 1989، وتوجه بولندا نحو اقتصاد السوق، سارعت وارسو إلى الانفتاح على الغرب، فانضمت إلى حلف الناتو عام 1999 ثم الاتحاد الأوروبي عام 2004. ومنذ ذلك الحين، أصبحت تُعد "الجبهة الأمامية" للحلف في مواجهة النفوذ الروسي.

فهي تشترك بحدود برية مباشرة بطول 260 ميلًا مع حليفة روسيا بيلاروسيا، ولديها حدود بطول 330 ميلًا مع أوكرانيا، كما تتقاسم حدودًا بطول 130 ميلًا مع جيب كالينينغراد الروسي، مما يجعلها موقعًا إستراتيجيًّا بالغ الأهمية لحماية الناتو من أي اعتداء محتمل من الشرق.

وتزداد أهمية هذا الموقع بالنظر إلى ما يُعرف بـ"ممر سوالكي"، وهو شريط حدودي ضيق يبلغ طوله نحو 60 ميلًا، ويقع بين حدود ليتوانيا وبولندا وبين بيلاروسيا ومقاطعة كالينينغراد الروسية المعزولة عن بقية البر الروسي.

وتشير دراسة منشورة في مجلة الدراسات العسكرية الإسكندنافية، إلى أن هذا الممر يمثل الوصلة البرية الأساسية التي تربط المقاطعة الروسية ببقية أوروبا، ويُعد نقطة حيوية لكلٍّ من موسكو وحلف الناتو على حد سواء.

من خلال هذه المعطيات الجغرافية الحساسة، برزت بولندا تدريجيًّا قاعدةَ ارتكاز رئيسية لانتشار القوات الأميركية والأوروبية على حدود الناتو الشرقية، في تجسيد ملموس لسياسة "الدفاع الأمامي" الرامية إلى ردع أي طموح روسي في التوسع، كما تعدّ مركزًا لوجستيًّا رئيسيًّا ومحور عبور لتوصيل المساعدات العسكرية الغربية إلى أوكرانيا.

وفي السنوات التي تلت 2014، ولا سيما بعد الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا عام 2022، ضاعفت بولندا جهودها الدفاعية بشكل ملحوظ. ففي عام 2023، زادت ميزانية الدفاع البولندية بنسبة 75% عن العام السابق، وهي أكبر زيادة سنوية على الإطلاق لأي دولة أوروبية.

وتعتزم وارسو هذا العام تخصيص نحو 4.7% من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع، وهي النسبة العليا بين جميع أعضاء الناتو. كما أعلنت وارسو أنها تسعى لأن تكون ضمن أقوى ثلاثة أعضاء في الحلف من حيث القدرات العملياتية.

إعلان

سياسيًّا، عززت بولندا تحالفاتها العسكرية مع جيرانها في المنطقة، خصوصًا دول البلطيق والشمال الأوروبي، وسعت إلى ترسيخ مكانتها باعتبارها بؤرة أمنية في قلب أوروبا الشرقية. في المقابل، تستمر موسكو في استغلال إرثها السوفياتي للتشكيك في استقلالية بولندا وتشويه صورتها، إذ تروج في خطابها الرسمي لفكرة أن وارسو مجرد "خادمة" للولايات المتحدة وأنها تستعد لشن عدوان على جيرانها.

مصدر الصورة طائرات مروحية تابعة للجيش البولندي خلال عملية تدريبية مكثفة في قاعدة نوفا ديبا العسكرية، في 6 مايو/أيار 2023 (غيتي)

اختراقات جوية روسية

في هذا السياق المتوتر، شهدت الأسابيع الأخيرة سلسلة من الاختراقات الجوية الروسية داخل المجال البولندي. ففي ليلة 10 سبتمبر/أيلول 2025، اخترقت أكثر من عشرين طائرة مسيّرة روسية الأجواء البولندية، وتمكّنت قوات الناتو من اعتراض بعضها وإسقاطها، في حادث وصفه مراقبون بأنه "أخطر اختراق" لأجواء الحلف منذ تأسيسه.

كما شهد الشهر نفسه اقتراب مقاتلات روسية من نطاقات الأمان قرب منصة نفطية بحرية في بحر البلطيق ، قبالة الساحل البولندي. وقد أدان رئيس الوزراء البولندي، دونالد توسك ، هذه الأفعال واعتبرها "استفزازًا واسع النطاق"، داعيًا إلى اعتراض أي جسم يحاول خرق الأجواء البولندية أو تهديد أمنها الوطني.

ورغم نفي موسكو مسؤوليتها عن هذه الاختراقات وتبريرها بأنها مجرد "أخطاء إلكترونية"، فإن مراقبين بارزين مثل ليانا فيكس، الزميلة الأولى لأوروبا في مجلس العلاقات الخارجية، وإيرين دومباشر، الزميل الأول للأمن النووي في المجلس، يريان أن حجم التوغل وعدد الطائرات المسيّرة التي وصلت إلى عمق الأراضي البولندية، يكشف أن ما حدث لم يكن عرضيًّا، بل استفزازًا متعمدًا من الجانب الروسي.

وتزداد خطورة هذا الحادث في تزامنه مع اقتراب موعد المناورات العسكرية الروسية البيلاروسية المشتركة، المعروفة باسم "زاباد"، وهي تدريبات واسعة النطاق طالما أثارت قلق وارسو من احتمال أن تتحول إلى غطاء لتصعيد عسكري على حدودها الشرقية.

كما أن توقيت الاختراق جاء في لحظة دقيقة على صعيد التفاوض بشأن أوكرانيا، حيث خرجت موسكو من قمة ألاسكا وهي تعتبرها نصرًا سياسيًّا يعزز موقفها، بينما أظهرت الولايات المتحدة ترددًا في ممارسة مزيد من الضغوط على الكرملين للتراجع عن بعض مطالبه القصوى.

وبذلك، يُقرأ الحادث باعتباره جزءًا من إستراتيجية روسية أوسع تهدف إلى اختبار قدرة الناتو على الردع، وقياس مدى استعداد واشنطن للدفاع عن التزاماتها في أوروبا الشرقية، الأمر الذي يضيف طبقة جديدة من التوتر على مسار الحرب في أوكرانيا وعلى استقرار القارة الأوروبية بأسرها.

من الفضاء الإلكتروني إلى ورقة اللاجئين

التحرشات الروسية لم تقتصر على الاختراقات الجوية، بل امتدت إلى ساحة الفضاء الإلكتروني، عبر موجة متصاعدة من الهجمات السيبرانية. فبحسب مسؤول بولندي، تشهد البنى التحتية الحيوية في بولندا استهدافًا يوميًّا مكثفًا، حيث يواجه جهاز الأمن البولندي ما بين 20 و50 محاولة اختراق من مصادر مرتبطة بروسيا، يتم صدّ الغالبية العظمى منها.

إلا أن بعض الهجمات نجح في إحداث تعطيل مؤقت بمحطات طاقة ومستشفيات ومرافق حيوية، كما تمكنت محاولات أخرى من سرقة بيانات شخصية لمواطنين بولنديين.

وفي شهر أغسطس/آب الماضي، أحبطت السلطات هجومًا إلكترونيًّا واسع النطاق مدعومًا من روسيا استهدف تعطيل إمدادات المياه في إحدى أكبر المدن البولندية.

ورغم نجاح وارسو في صد معظم هذه العمليات، فإن حجم التهديد يتضح في بلوغ عدد الهجمات نحو 300 محاولة يوميًّا خلال الصيف المنصرم، وفق ما أعلنه مسؤولون حكوميون. هذا التصعيد دفع الحكومة إلى تخصيص ميزانية ضخمة للأمن السيبراني تبلغ حوالي مليار يورو هذا العام، في محاولة لمواجهة موجة التخريب الرقمي.

إعلان

فضلًّا عن ذلك، برز استخدام بيلاروسيا لملف اللاجئين في الصراع مع بولندا والاتحاد الأوروبي. فمنذ صيف 2021، لجأت حكومة ألكسندر لوكاشينكو، الحليف الوثيق لموسكو، إلى دفع مهاجرين من الشرق الأوسط وأفريقيا لعبور أراضيها والتوجه نحو الحدود البولندية، في خطوة اعتُبرت ردًّا على العقوبات الأوروبية المفروضة عليها. وقد نُقل هؤلاء المهاجرون بشكل منظم إلى نقاط العبور الحدودية.

ترى وارسو أن هذا التكتيك يدخل ضمن أدوات الحرب الهجينة، لكونه يهدف إلى إضعاف بولندا وإرباك الاتحاد الأوروبي عبر خلق أزمة إنسانية وأمنية في الوقت ذاته. وتشير الأرقام إلى حجم التصعيد، ففي عام 2024 سجّل حرس الحدود البولندي نحو 30 ألف محاولة عبور غير نظامية قادمة من بيلاروسيا، وهو عدد يفوق بكثير ما شهدته السنوات السابقة.

وفي أبريل/نيسان 2025، أكد البرلمان الأوروبي أن مصادر متعددة أثبتت تورط كل من موسكو ومينسك في تسييس الهجرة، من خلال إصدار تأشيرات رسمية لمهاجرين من دول أخرى ثم دفعهم نحو الحدود، في إطار ما وصفه المشرّعون الأوروبيون بـ"الحرب الهجينة". ونتيجة لذلك، أعلنت بولندا تمديد حظر تقديم طلبات اللجوء للمهاجرين القادمين من بيلاروسيا، كما اتخذت إجراءات عسكرية وإغاثية على الحدود لتعزيز السيطرة ومعالجة التداعيات الإنسانية.

مصدر الصورة في عام 2024، شهدت بولندا زيادة لافتة في الإقبال على الخدمة العسكرية الطوعية استجابة للتهديدات التي تواجه البلاد (غيتي)

صعود قوة عسكرية في قلب أوروبا

على وقع هذه التهديدات المتصاعدة، شرعت بولندا في تعزيز قدراتها الدفاعية بشكل استثنائي، مع تركيز خاص على تعبئة قوات الاحتياط. ففي عام 2024، شهدت البلاد زيادة لافتة في الإقبال على الخدمة الطوعية، إذ سجّل أكثر من 16 ألف متطوع جديد حتى منتصف العام وفق البيانات الرسمية.

وفي الأشهر السبعة الأولى من 2025 وحدها، ارتفع العدد إلى 20 ألف متطوع، وسط توقعات بأن يصل إلى نحو 40 ألفًا مع نهاية العام، مما يعكس تضاعف حجم المشاركة مقارنة بما كان عليه قبل اندلاع الحرب في أوكرانيا. وبفضل هذا التوسع، أصبح الجيش البولندي ثالث أكبر جيوش الناتو من حيث عدد الأفراد، إذ يضم حاليًّا حوالي 216 ألف عسكري، وتخطط وارسو لمضاعفة قواتها البرية إلى 300 ألف جندي.

التحركات البولندية لم تقتصر على التعبئة البشرية، بل شملت أيضًا بناء ترسانة متطورة من الأسلحة. ففي مجال الطيران، أبرمت وارسو أكبر صفقة في تاريخها لتحديث أسطول مقاتلاتها من طراز "إف-16" إلى النسخة الأحدث "بلوك-72″، بتكلفة بلغت 3.8 مليارات دولار. يجري ذلك بالتوازي مع تسلّم دفعات جديدة من المقاتلات الأميركية "إف-35".

فقد طلبت بولندا 32 طائرة بموجب صفقة مع الولايات المتحدة قيمتها 4.6 مليارات دولار، وبدأ تسليمها بالفعل، على أن يكتمل بحلول عام 2030. ورغم امتلاك القوات الجوية البولندية حاليًّا نحو 50 مقاتلة من طراز "إف-16″، فإن التقديرات العسكرية تؤكد حاجتها إلى سربين إضافيين على الأقل من الطائرات المقاتلة الحديثة لتعزيز قدراتها الدفاعية والهجومية.

على الصعيد البري، تمتلك بولندا منظومة "هيمارس"، وهي راجمات صواريخ مركّبة على شاحنات خفيفة. تُطلق كل منصة ستة صواريخ موجَّهة بدقة في تتابع سريع، مع زمن إعادة تحميل يقارب خمس دقائق.

ويمتد النطاق الفعّال للصواريخ التقليدية المستخدمة عادةً بنحو 80 كيلومترًا تقريبًا، كما أن المنظومة قادرة على إطلاق صواريخ تكتيكية من طراز "أتاكمز" بنطاق يصل إلى نحو 300 كيلومتر. وقد أشير أيضًا إلى سعي بولندا للاستحواذ على تكنولوجيا الصواريخ المرتبطة بالمنظومة لتعزيز قدرات الصيانة أو الإنتاج المحلي مستقبلًا.

فعالية "هيمارس" برزت في الساحة الأوكرانية، فقد امتلكت أوكرانيا نحو 18 منظومة في العام الأول من الحرب، ونجحت هذه الوحدات المحدودة العدد في ضرب مئات المواقع الروسية المهمة، بما في ذلك مخازن وإمدادات ومحطات مدفعية على عمق عشرات الكيلومترات خلف الخطوط، مما ساهم في إعاقة قدرات الإمداد والقتال الروسية.

وتفسّر هذه النتائج رغبة بولندا في إدراج "هيمارس" ضمن ترسانتها، فهي تمنح القدرة على ضرب أهداف عميقة بدقة عالية، وتوسع هامش المناورة والردع أمام أي تهديد محتمل.

علاوة على ذلك، شرعت بولندا في مفاوضات لاقتناء أنظمة صواريخ أرض – جو من طراز باتريوت، التي تعدّ نظام الدفاع الجوي والصاروخي الأساسي للجيش الأميركي. كما عززت تعاونها مع كوريا الجنوبية عبر طلب 180 دبابة "كي 2 بلاك بانثر"، ونحو 700 مدفع من طراز "كي 9 ثاندر"، وهي هاوتزر كورية الصنع بعيار 155 ملم، مُركّبة على هياكل مجنزرة تتيح لها اجتياز التضاريس الصعبة، كما أنها معروفة بقدرتها الفائقة على المناورة وقوة نيرانها البعيدة المدى.

إعلان

أما فيما يخص الدبابات، فقد أعلنت بولندا في يوليو/تموز 2021 عن صفقة لشراء 250 دبابة أبرامز بقيمة 4.7 مليارات دولار، تلتها صفقة إضافية في عام 2022، عقب الغزو الروسي لأوكرانيا، لشراء 116 دبابة أبرامز مستعملة مع تجهيزاتها في عقد بلغت قيمته 1.4 مليار دولار. ويُضاف هذا إلى ما تملكه بالفعل من نحو 200 دبابة ليوبارد الألمانية، مما يجعل أسطولها البري بين الأضخم والأكثر تنوعًا في أوروبا الشرقية.

هذه الترسانة المتنامية توجّه بولندا نحو التحول من مجرد "دولة خط تماس" إلى قوة برية كبرى داخل الناتو، قادرة ليس فقط على الدفاع عن أراضيها، بل أيضًا على توفير مظلة ردع متقدمة للحلف بأسره. وبذلك، يتزايد ثقلها في ميزان القوى مع روسيا، حيث يمنحها تراكم الأسلحة ميزة واضحة في تعزيز الردع على الجبهة الشرقية، ويجعلها لاعبًا رئيسيًّا في أي سيناريو أمني يخص مستقبل أوروبا.

أوروبا "بلا أنياب"

الجهود العسكرية البولندية يمكن تفسيرها في ضوء اعتماد أوروبا المفرط على المظلة الأمنية الأميركية، وهو الاعتماد الذي يحدّ من استقلالية قرارها وقدرتها على التأثير في أي لحظة. فكما يشير رادوسواف سيكورسكي، وزير الدفاع والخارجية البولندي الأسبق، فإن واشنطن كانت المنسق الفعلي للردّ الغربي على الغزو الروسي لأوكرانيا، وقدمت مساهمات عسكرية ومالية تعادل تقريبًا مجموع مساهمات الاتحاد الأوروبي ومؤسساته ودوله الأعضاء مجتمعة.

هذا الواقع يكشف أن أوروبا، رغم تقدمها الاقتصادي والتنظيمي، لا تزال قوة "بلا أنياب" في الشؤون الدفاعية، مما يجعل قدرتها محدودة في أي أزمة كبرى إذا انسحبت الولايات المتحدة أو انشغلت بجبهة أخرى.

وتكمن المعضلة في أن الضمان الأميركي ليس ثابتًا، في ظل صعود النزعة الانعزالية داخل البيت الأبيض، أو مع انشغال واشنطن بملف صراع مع الصين حول تايوان، مما قد يترك القارة الأوروبية مكشوفة أمنيًّا في لحظة تهديد حاسمة.

ويلفت سيكورسكي إلى أن البنتاغون لم يعد يسعى إلى خوض حربين كبيرتين في آن واحد. لذلك، فإن أي تورط أميركي واسع في آسيا سيؤثر مباشرة في التزامه بأمن أوروبا ويبقيها شبه مكشوفة.

فضلا عن ذلك، تزيد الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي من تعقيد الموقف. فبينما تعتبر أوروبا الشرقية -وفي مقدمتها بولندا وإستونيا- أن التهديد الروسي وجودي ومباشر، تميل دول أوروبا الغربية والجنوبية، مثل إيطاليا والبرتغال وبلجيكا، إلى النظر لروسيا على أنها خطر بعيد، مما يضعف التوافق الداخلي حول أولويات الدفاع.

هذا التباين يعزز الطابع الهش للسياسة الأمنية الأوروبية، ويجعل مساعي بناء "استقلالية إستراتيجية" أقرب إلى الطموح النظري منه إلى القدرة العملية.

نتيجة لذلك، كما يوضح رادوسواف سيكورسكي، فإن أي غياب أو انشغال للولايات المتحدة، قد يضع وارسو ودول أوروبا الشرقية في مواجهة مباشرة مع موسكو، بالاعتماد فقط على قدرات أوروبية لا تزال مشتتة وضعيفة التنسيق. وهو ما يفسر اندفاع بولندا نحو تعزيز ترسانتها العسكرية وتعبئة احتياطاتها بوتيرة غير مسبوقة، في محاولة لتعويض هشاشة المظلة الأوروبية والاعتماد المفرط على الضمان الأميركي.

أما داخليًّا، فتستثمر القيادة البولندية هذه التهديدات لتعزيز التماسك الوطني. فقد أظهر استطلاع حديث أن 63% من البولنديين يعتبرون أن وجود بلادهم مهدَّد خارجيًّا، وقال أكثر من ثلثهم إنهم قد يغادرون البلاد إذا اندلعت حرب، وعبّر نحو 22% عن استعدادهم للانخراط في القوات المسلحة أو الدفاع المدني.

هذه المخاوف المتجذّرة غذّت دعمًا شعبيًّا واسعًا لزيادة الإنفاق الدفاعي رغم الضغوط الاقتصادية ومنحت الحكومة زخمًا إضافيًّا لتبنّي خطاب قومي يصوّر بولندا باعتبارها "حصن أوروبا الحرّة" في مواجهة موسكو، وهو خطاب تتبناه الأحزاب الكبرى بدورها لتجاوز خلافاتها الداخلية.

هكذا، تبدو بولندا اليوم في موقع مركزي داخل معادلة الأمن الأوروبي. فهي من جهة تُقدَّم باعتبارها خط الدفاع الأول ضد التوسع الروسي، ومن جهة أخرى تتحمل عبئًا ثقيلاً نتيجة هشاشة التوافق الأوروبي واحتمال تقلص الضمان الأميركي. وبين هذا وذاك، تُرسخ وارسو مكانتها بوصفها شريكًا لا غنى عنه للغرب، لكنها تدرك في الوقت نفسه أن كلفة هذا الدور قد تكون باهظة إذا ما وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع موسكو دون سند كافٍ من حلفائها.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة


الأكثر تداولا دونالد ترامب اسرائيل حماس

حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا