في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، قال الرئيس الفلسطيني محمود عباس: "لا نريد دولة فلسطينية مسلحة"، داعياً الفصائل الفلسطينية إلى تسليم سلاحها، ومؤكدًا أنه لن يكون لحركة حماس أي دور في الحكم.
وبغض النظر عن السياق الذي جاء فيه حديث الرئيس الفلسطيني، فإن فكرة الدولة غير المسلحة أو التي لا تمتلك جيشًا ليست بالأمر الجديد في العالم. فرغم أن الجيش يُنظر إليه باعتباره رمز السيادة الوطنية وأداة الدفاع الأساسية عن حدود الدولة واستقلالها، حيث تشكل القوات المسلحة لدى معظم الشعوب جزءًا لا يتجزأ من هوية الدولة وكيانها السياسي، إلا أن هناك حالات استثنائية لعدد محدود من الدول التي قررت الاستغناء عن وجود جيش، إما لأسباب تاريخية، أو اقتصادية، أو سياسية، أو بسبب طبيعة موقعها الجغرافي. فما هي هذه الدول؟
في أوروبا، نجد مثالاً بارزاً في أيسلندا التي لا تمتلك جيشاً رغم كونها عضواً مؤسساً في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
ومنذ استقلالها عن الدنمارك عام 1944، اعتمدت أيسلندا على قوات شرطة صغيرة لخدمة الأمن الداخلي، وعلى التزامات شركائها في الناتو لتأمين الدفاع الخارجي.
وتقول دائرة المعارف البريطانية إن أيسلندا ليس لديها جيش، لكنها تمتلك خفر سواحل شبه عسكري ووحدة صغيرة غير مسلّحة للاستجابة للأزمات، وباعتبارها عضوًا في حلف الناتو منذ عام 1949، فإنها تعتمد على اتفاقيات الدفاع الجماعي، بما في ذلك اتفاقية دفاع طويلة الأمد مع الولايات المتحدة والدوريات الدورية لحلف الناتو لحماية مجالها الجوي.
وحتى عام 2006 كانت الولايات المتحدة تحتفظ بقاعدة عسكرية في كيفلافيك، قبل أن يتم إغلاقها.
وبررت أيسلندا خيارها بعدم إنشاء جيش بأن تكاليف الدفاع مرتفعة جداً بالنسبة لدولة صغيرة ذات عدد سكان محدود، إضافة إلى أن موقعها الجغرافي في شمال الأطلسي يجعلها أقل عرضة لتهديدات مباشرة.
وقد ساهم اعتماد أيسلندا على دول أخرى في مجال الدفاع، إلى جانب انخفاض معدلات الجريمة فيها وتماسكها الاجتماعي القوي، يساهم في تصدّرها باستمرار قائمة أكثر دول العالم سلمية.
ومن الحالات الفريدة الأخرى دولة الفاتيكان، وهي أصغر دولة مستقلة في العالم من حيث المساحة وعدد السكان، والتي لا تمتلك جيشاً نظامياً.
وعوضاً عن ذلك، تعتمد دولة الفاتيكان على الحرس السويسري البابوي، وهو قوة صغيرة ذات طابع رمزي وتاريخي لحماية البابا، ومن الناحية الأمنية والسياسية، تتولى إيطاليا مسؤولية حماية الفاتيكان بموجب اتفاقية لاتران الموقعة عام 1929.
وغياب الجيش في هذه الحالة مرتبط بطبيعة الدولة التي تمثل مركز القيادة الروحية للكنيسة الكاثوليكية، وليس لها طموحات أو أدوار عسكرية أو سياسية خارجية.
وفي أوروبا الغربية نجد 4 دول صغيرة أخرى هي موناكو وأندورا وليختنشتاين وسان مارينو، حيث لا تمتلك أي منها جيشاً.
وتعتمد موناكو على فرنسا في الدفاع ولديها قوة شرطة محلية صغيرة، بينما أندورا تعتمد على ترتيبات خاصة مع فرنسا وإسبانيا، في حين أن ليختنشتاين ألغت جيشها منذ عام 1868 بعد الحرب بين بروسيا والنمسا وتحتفظ فقط بقوة شرطة داخلية، أما سان مارينو فقد تم حل الجيش في القرن التاسع عشر، وهي ليس لديها اتفاقية دفاع رسمية مكتوبة كالتي بين موناكو وفرنسا، لكنها بحكم كونها محاطة بالكامل بإيطاليا، فإن إيطاليا عمليًا هي من يضمن أمن سان مارينو ضد أي تهديد خارجي.
وقد استفادت هذه الدول من موقعها الجغرافي في قلب أوروبا ومن الاستقرار السياسي العام الذي ساد المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى تحالفاتها مع الدول الكبرى، لضمان أمنها دون الحاجة إلى جيش خاص بها.
وتتشابه هذه الدول في مجموعة من السمات المشتركة وهي صغر المساحة الجغرافية، وقلة عدد السكان، والاعتماد الاقتصادي على قطاعات مثل السياحة والخدمات المالية، ووجود تحالفات أو اتفاقيات أمنية قوية مع دول أكبر.
وقد أتاح غياب الجيش لها توجيه الموارد نحو التنمية الداخلية بدلاً من الإنفاق على الدفاع، وهو ما يفسر مستويات التعليم والرعاية الصحية المرتفعة فيها.
تقول دائرة المعارف البريطانية إن كوستاريكا، الواقعة في أمريكا الوسطى، ألغت جيشها عام 1949، عقب حرب أهلية، لتصبح دولة مستقرة وديمقراطية وسلمية، وقد تم ترسيخ هذا القرار في المادة 12 من دستور عام 1949، التي حظرت الجيش كمؤسسة.
ومنذ ذلك الحين، اعتمدت كوستاريكا على قوات الشرطة الوطنية للأمن الداخلي، بينما ارتكزت في الدفاع الخارجي على شبكة من العلاقات والتحالفات الدولية.
وقد استفادت الدولة من هذا القرار بشكل لافت، حيث تم توجيه الموارد المالية التي كانت ستخصص للإنفاق العسكري نحو مجالات التعليم والصحة والبنية التحتية، وهو ما ساهم في جعل كوستاريكا من أكثر دول أمريكا اللاتينية استقراراً وتقدماً في مؤشرات التنمية البشرية.
وفي أمريكا الوسطى هناك أيضا بنما الدولة المشرفة على قناة بنما الاستراتيجية، والتي لم تعد تمتلك جيشًا نظاميًا منذ عام 1990 بعد الغزو الأمريكي للإطاحة بمانويل نورييغا.
فقد أُلغيت القوات المسلحة رسميًا في دستور 1994، لتحل محلها قوات الشرطة الوطنية ووحدات حماية الحدود التي تتولى مسؤولية الأمن الداخلي وحماية البنى التحتية الحيوية مثل القناة والمطارات والموانئ، ويركز هذا النظام على حماية السكان والحفاظ على الاستقرار الداخلي بدلا من الإنفاق العسكري.
أما الدفاع الخارجي لبنما فيعتمد على العلاقات والتحالفات الدولية، خصوصًا مع الولايات المتحدة، التي تضمن الحماية في حال نشوب أي تهديد خارجي.
وهذا النموذج يتيح لبنما الحفاظ على سيادتها وأمنها دون الحاجة إلى جيش دائم، ويجعلها نموذجًا لدولة صغيرة في منطقة حساسة جغرافيًا اختارت الاستغناء عن القوات المسلحة التقليدية لصالح الاستثمار في القطاعات الحيوية والخدمات العامة.
اختارت عدد من الدول الجزرية الصغيرة في المحيط الهادئ ألا تمتلك جيوشاً نظامية، ويعود السبب في ذلك إلى اتفاقيات الدفاع التي وقعتها هذه الدول مع الولايات المتحدة أو أستراليا أو نيوزيلاندا.
وبالنظر إلى المساحة الجغرافية المحدودة وعدد السكان القليل في هذه الدول، فإن إنشاء جيش دائم لم يكن خياراً عملياً أو ضرورياً، ولذلك فضلت الاعتماد على قوة خارجية كبرى لتأمينها من أي تهديدات محتملة.
فقد ألغت جزر سليمان الجيش عام 2003 بعد صراعات داخلية، واستبدلته ببعثة شرطة إقليمية بقيادة أستراليا ونيوزيلندا.
ولا تملك توفالو أو كيريباتي جيشًا نظاميًا، وتعتمدان على الشرطة المحلية للأمن الداخلي، مع ضمان الدفاع الخارجي من أستراليا ونيوزيلندا، وقد ركزت هاتان الدولتان الصغيرتان ذات العدد القليل من السكان مواردهما المحدودة في التنمية والتعليم والصحة.
كما لا تملك ناورو أيضا جيشًا، وتعتمد على الشرطة المحلية، مع أستراليا كضامن للدفاع الخارجي، وتعاني هذه الدولة الصغيرة من محدودية الموارد، لذلك يُعد الحفاظ على جيش أمرًا غير عملي، والاستثمار يتركز على القطاعات الاجتماعية والاقتصادية الحيوية.
وكذلك حال ميكرونيزيا وبالاو وجزر مارشال فهذه الدول الصغيرة ليس لديهما جيوش، وتعتمد على الولايات المتحدة بموجب اتفاقيات للدفاع المشترك فيما يدير الأمن الداخلي الشرطة المحلية.
لا تملك موريشيوس، الدولة الجزيرة الواقعة في المحيط الهندي شرق مدغشقر، جيشًا نظاميًا منذ استقلالها عن المملكة المتحدة عام 1968.
ويعتمد الأمن الداخلي على قوة الشرطة الوطنية، التي تتولى حماية السكان والحفاظ على النظام العام، وتشمل وحدات شبه عسكرية لمواجهة الطوارئ الداخلية، وهذا النظام يعكس استراتيجية الدولة في توجيه الموارد بعيدًا عن الإنفاق العسكري نحو التنمية الاجتماعية، والاقتصادية، والتعليم، والصحة.
أما الدفاع الخارجي لموريشيوس فيتم ضمانه عبر التحالفات الدولية والتعاون الإقليمي ضمن المنظمات الإقليمية التي توفر آليات حماية جماعية للدول الأعضاء.
ويعتمد هذا النموذج على الاعتماد على المجتمع الدولي في حال نشوب تهديد خارجي كبير، مما يسمح لموريشيوس بالبقاء دولة مستقرة وآمنة دون الحاجة إلى جيش دائم، وهو ما يجعلها نموذجًا للدول الصغيرة التي اختارت الاستغناء عن القوات المسلحة لصالح التنمية.
وفي منطقة الكاريبي، نجد حالة غرينادا التي تعرضت لغزو عسكري أمريكي عام 1983 بعد انقلاب داخلي، لكنها اليوم لا تمتلك جيشاً.
وعوضاً عن ذلك، تعتمد غرينادا على قوة شرطة وطنية مسؤولة عن الأمن الداخلي، وعلى آليات الأمن الجماعي ضمن منظمة دول شرق الكاريبي التي تقدم ترتيبات دفاعية جماعية للدول الأعضاء، وقد ساهم هذا النظام في حفظ استقرار هذه الدولة الصغيرة وتجنيبها أعباء إنشاء جيش كامل.
كذلك هناك الدومينيكا التي لا تمتلك جيشًا نظاميًا، وتعتمد على قوة شرطة محلية. فبعد اضطرابات سياسية في الثمانينيات، قررت الحكومة أن الشرطة تكفي لضمان الأمن الداخلي، مع إمكانية الاستعانة بقوات تدخل إقليمية.
وبالنسبة للدومينيكا فإن آلية الدفاع الخارجي متاحة من خلال منظمة دول شرق الكاريبي، التي توفر استجابة جماعية في حالة أي تهديد خارجي، مما يضمن للدومينيكا الاستقرار دون تكاليف إنشاء جيش.
وذلك بالإضافة إلى سانت لوسيا، وسانت فايسنت وغرينادين، وسانت كيتس ونيفيس فهذه الدويلات الصغيرة لا تمتلك جيوشًا، وتعتمد على الشرطة الوطنية للحفاظ على الأمن الداخلي وتنفيذ القانون وحماية السكان، مع وحدات شرطة متخصصة للتعامل مع الطوارئ وحالات الكوارث، أما الدفاع الخارجي فهو مضمون من خلال عضويتها في نظام الأمن الإقليمي لدول الكاريبي الذي يوفر ترتيبات دفاعية جماعية للدول الأعضاء في حالة أي تهديد خارجي.
من الملاحظ أن الدول التي لا تمتلك جيوشاً توجد غالباً في بيئات آمنة نسبياً أو تتمتع بتحالفات مع قوى كبرى تكفل حمايتها.
ويرى البعض أن تجربة هذه الدول تقدم نموذجاً ناجحاً يمكن أن يلهم غيرها من أجل توفير المخصصات المالية للتنمية، لكن النقاد يشيرون إلى أن غياب الجيش يمكن أن يكون خطيراً إذا انهارت الترتيبات الأمنية القائمة أو إذا تبدلت موازين القوى الدولية.
ففي حال تراجع التزام دولة كبرى بحماية إحدى هذه الدول، قد تجد نفسها عاجزة أمام أي تهديد خارجي، لذلك فإن بقاء هذا النموذج مرتبط باستمرار استقرار النظام الدولي وبتوازناته.
وبصفة عامة فإن الدول التي لا تمتلك جيوشاً تمثل استثناء نادراً في النظام الدولي، لكنها تثبت أن مفهوم السيادة والأمن يمكن أن يأخذ أشكالاً متعددة.
ففي حين ترى أغلب الدول أن الجيش جزء أساسي من هويتها، أثبتت تجارب مثل كوستاريكا وأيسلندا وليختنشتاين والفاتيكان أن بالإمكان بناء نموذج مختلف قائم على الشرطة الوطنية والتحالفات الدولية.