على الطرق الترابية الممتدة في وادي ريفت وسط كينيا يبدأ المشهد -مع شروق الشمس- عشرات الشبان والفتيات بأجساد نحيلة وعضلات مشدودة يقطعون الكيلومترات بخطوات ثابتة، في صمت لا يقطعه سوى وقع أقدامهم المتناغمة.
هنا في إلدوريت وإيتن، وُلدت أسطورة الجري الكيني، التي أرعبت مضامير العالم لعقود، وجعلت اسم كينيا مقترنا دائما بمنصات التتويج في سباقات الماراثون.
منذ أولمبياد مكسيكو 1968، عندما فاجأ العداء الشاب كيبشوجي كينو العالم بذهبية 1500 متر، بدأ العالم يلتفت إلى هذه الدولة الأفريقية الصغيرة، منذ ذلك الحين، لم تخبُ شعلة الجري الكيني، بل ازدادت توهجا، ليصبح العداؤون الكينيون -إلى جانب جيرانهم الإثيوبيين- أسيادا لمسافات الـ5 آلاف متر والـ10 آلاف متر والماراثون.
اليوم يكاد لا يخلو أي سباق ماراثون عالمي من أسماء كينية في الصدارة، من بوسطن إلى لندن، ومن برلين إلى طوكيو، وقد بلغ الأمر ذروته عام 2019، عندما حقق العداء إليود كيبشوجي إنجازا تاريخيا بقطع مسافة الماراثون (42 كلم) في أقل من ساعتين في سباق خاص بالنمسا، ليصبح أيقونة عالمية للرياضة.
وقبل أيام، حصدت كينيا 11 ميدالية في بطولة العالم لألعاب القوى بطوكيو، كما هيمنت على لقبي الرجال والسيدات بماراثون برلين.
ففي طوكيو، بدأت كينيا مشوارها الذهبي بفوز بياتريس تشيبيت بسباق 10 آلاف متر، قبل أن تضيف بيريس جيبشيرشير ذهبية الماراثون للسيدات.
وتواصلت الانتصارات مع فيث تشيروتيتش في 3000 متر موانع، وفيث كيبيغون في 1500 متر، ثم تشيبيت مجددا في 5000 متر، وإيمانويل وانْيوني في 800 متر، قبل أن تختتم ليليان أوديرا الحصاد بذهبية سابعة في اليوم الأخير.
أما الفضيات فجاءت عبر كيبيغون في 5000 متر، ودوركوس إوي في 1500 متر، بينما أحرز الرجال البرونزيتين: رينولد تشيروييوت في 1500 متر، وإدموند سيريم في 3000 متر موانع.
أما في برلين، ففاز الكيني سيباستيان ساوي بلقب ماراثون برلين للرجال محققا أفضل زمن إجمالي لهذا العام، وسجل ساوي ساعتين ودقيقتين و16 ثانية.
كما فازت الكينية روز ماري وانجيرو بلقب ماراثون السيدات بزمن قدره ساعتان و21 دقيقة و5 ثوان.
يسأل كثيرون: ما سر هذا التفوق الكيني؟
الجواب يتوزع بين عوامل طبيعية واجتماعية وثقافية:
إلى جانب هذه العوامل، تشير دراسات علمية إلى خصائص جسدية معينة لدى عدائي الكالنجين، مثل نحافة الساقين، وانخفاض نسبة الدهون، مما يمنحهم ميزة في الاقتصاد بالطاقة خلال الجري الطويل.
لكن الخبراء يؤكدون أن الأمر لا يقتصر على الجينات، بل يرتبط بثقافة كاملة تجعل الجري جزءًا من هوية المجتمع.
ويرى المدرب الفرنسي في كينيا جوليان دي ماريا، أن وصف التفوق الكيني في الجري بـ"السر" ربما يكون تبسيطا مُفرطا، بل هو مزيج من عوامل متجذرة، أهمها الارتفاع الذي يصل في إيتن إلى 2400 متر، ونمط الحياة النشط منذ الطفولة، والأهم من ذلك كله، صعوبة الحياة اليومية في كينيا، مما يُخفف من عناء التدريب.
ويضيف -في حديثه للجزيرة نت- أن الواقع الاقتصادي مهم أيضا، فبالنسبة للكثيرين، يُمثل الجري فرصة للهروب من الفقر، ودافعا قويا يدفعهم لبذل قصارى جهدهم.
أضف إلى ذلك قوة التدريب الجماعي، "هنا يتم كل شيء في مجموعات، إنه جزء من الثقافة، وستحصل على هذا التفوق، في أوروبا، نعتمد أكثر على العلم والتخطيط، أما في كينيا، فالخبرة والعمل الجماعي هما الأهم".
تحوّل الجري في كينيا إلى "صناعة وطنية":
وهنا يقول الفرنسي جوليان دي ماريا -وهو صاحب مركز كيتشي للتدريب ويعني نجم- إن "المركز بمثابة مكان يجمع بين السكن والتدريب، ويتسع لحوالي 30 شخصا في نفس الوقت، ما بين رياضيين وهواة.
ويوضح أن دور المركز -الذي افتتح في صيف 2023- يتمثل في توفير بيئة منظمة على ارتفاع 2400 متر في إيتن، حيث يقيم المتدربون بشكل دائم، مع توفير الوجبات المصممة خصيصا، والخدمات اللوجستية، وجلسات التدريب الاحترافية، والوصول إلى شبكة من المتخصصين من مدلكين، وأخصائيي علاج طبيعي، ومدربين.
ويضيف دي ماريا "نركز، بالطبع، على الجانب الرياضي، ولكن أيضًا على الجانب الإنساني، التوازن في الحياة والتغذية والصحة النفسية، هذا النهج الشامل، في رأيي، هو ما يسمح للجميع بالازدهار وإطلاق العنان لإمكاناتهم الكاملة".
ووراء كل بطل قصة تلخص معنى الكفاح -إليود كيبشوجي مثلاً- نشأ في أسرة فقيرة، وكان يقطع عشرات الكيلومترات يوميا ليلتحق بمدرسته، قبل أن يصبح اليوم "أعظم عداء ماراثون في التاريخ".
وكذلك فيفيان شيرويوت، بطلة سباقات المسافات الطويلة، التي انتقلت من قريتها النائية إلى منصة الأولمبياد، لتصبح رمزا نسائيا في بلد ما زالت المرأة تكافح فيه من أجل مكانتها.
ويقول دي ماريا إنه "درّب العديد من الأبطال، منهم أغنيس جيبيت نجيتيش، التي احتلت المركز الـ4 في سباق 10 آلاف متر، واصفا نجاحها بـ"تتويج لـ8 سنوات من العمل معا".
كينيا أقرت في عام 2016 قانونا لمكافحة المنشطات (أسوشيتد برس)لكن وراء هذا المجد، هناك أيضًا تحديات:
ويرى المدرب الفرنسي جوليان دي ماريا كينيا تسير على الطريق الصحيح في مكافحة المنشطات، فهي الآن الدولة الأكثر خضوعا لاختبارات المنشطات في العالم، ولهذا السبب تحديدًا، يتزايد عدد الحالات المكتشفة، وهذا أمر جيد، لأنه يحمي من يعملون بجدّ ونظافة.
ويشدد على أن الاستمرار في هذا الاتجاه، بصرامة وثبات، هو أفضل ما يمكن فعله لاستعادة الثقة وحماية ألعاب القوى.
رغم هذه التحديات، يبقى الجري في كينيا أكثر من مجرد رياضة، إنه أسلوب حياة، ونافذة أمل لملايين الشباب، فحين يصطف العداؤون على خط البداية في سباق عالمي، لا يمثلون أنفسهم فقط، بل يمثلون وطنا بأكمله، يراهن على خطواتهم السريعة ليبقى حاضرا على خارطة الرياضة العالمية.