في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
تحوّل الملف الفلسطيني هذه المرة إلى محور رئيسي في أعمال الدورة الأخيرة للجمعية العامة للأمم المتحدة. لم يعد مجرّد بند اعتيادي، بل أصبح قلب النقاشات الدولية في ظل الحرب الدامية المستمرة على قطاع غزة، وما خلفته من عشرات الآلاف من القتلى والجرحى ومئات آلاف المهجرين.
وفيما تزايدت الضغوط على إسرائيل، صعدت مبادرات دولية أبرزها المقترح السعودي الفرنسي لتكريس حل الدولتين، لتفتح الباب أمام اختبار جديد للدور الأميركي في الشرق الأوسط، ولخطط الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي يحاول الإمساك بمفاتيح الملف عبر مقترح تسوية يعرضه قريباً في واشنطن.
في هذا السياق، رسم مراسل الشرق الأوسط لدى الأمم المتحدة علي بردي، خلال حديثه إلى "رادار" على سكاي نيوز عربية، ملامح دقيقة لتقاطعات هذا الملف وتعقيداته، بين حسابات الأمم المتحدة، وضغوط العواصم الكبرى، ورؤية واشنطن الجديدة.
يؤكد علي بردي أن الدورة الحالية للأمم المتحدة تميزت بسيطرة غير مسبوقة للملف الفلسطيني على جدول أعمالها. السبب المباشر هو الحرب في غزة، التي لم تعد حدثاً إقليمياً فحسب، بل مسألة عالمية تهدد أسس القانون الدولي وتثير اتهامات لإسرائيل بارتكاب جرائم إبادة.
الأرقام التي جرى تداولها في أروقة الأمم المتحدة صادمة: أكثر من 60 ألف قتيل فلسطيني، مئات الآلاف من الجرحى، ونزوح واسع النطاق.
هذه المأساة دفعت العديد من الدول إلى التحرك دبلوماسياً، وخصوصاً فرنسا والسعودية اللتين أطلقتا مبادرة مشتركة لإحياء حل الدولتين على أرض الواقع.
اعترافات أوروبية تغيّر المشهد
واحدة من أبرز النقاط التي ركّز عليها بردي هي الاعترافات الأوروبية المتسارعة بدولة فلسطين. بريطانيا تحديداً مثلت حالة رمزية لافتة، فهي الدولة التي ارتبط اسمها تاريخياً بإنشاء إسرائيل عبر " وعد بلفور" وانتدابها على فلسطين، لتتحول اليوم إلى داعم رسمي لقيام الدولة الفلسطينية.
هذه الاعترافات أضعفت الموقف الأميركي التقليدي، ودفعت واشنطن إلى زاوية العزلة داخل المجتمع الدولي، خصوصاً مع استمرار استخدامها لحق النقض ( الفيتو) في مجلس الأمن ضد محاولات منح فلسطين عضوية كاملة.
خطة ترامب.. بين الطموح والاختبار
في هذا المناخ، يسعى ترامب إلى استثمار الظرف الاستثنائي. فقد كشف، وفق بردي، عن خطة أميركية سيعرضها على عدد من القادة العرب والمسلمين، ثم على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في واشنطن. مما رشح عن الخطة أنها تتضمن:
• وقفاً فورياً للحرب في غزة.
• إطلاقاً متبادلاً للأسرى والرهائن.
• التزاماً أميركياً بأن غزة والضفة الغربية خارج أي مشروع ضم إسرائيلي.
هذه النقاط تمثل تحوّلاً مهماً في الخطاب الأميركي، لكنها تطرح سؤالا مركزياً: هل ستقبل إسرائيل تحت ضغط دولي متزايد، وبخاصة في ظل حاجة نتنياهو لغطاء داخلي يفتقر إليه حالياً؟.
الضغوط على نتنياهو.. عزلة غير مسبوقة
يرى بردي أن إسرائيل تواجه عزلة عالمية غير مسبوقة، حتى من أقرب حلفائها التقليديين. موجة الانتقادات الأوروبية، والإدانات الحقوقية، وتراجع الدعم الشعبي الغربي لإسرائيل، كلها عوامل تجعل نتنياهو في موقع ضعيف.
ومع ذلك، فإن الضغوط الأميركية الحقيقية لم تُمارس بعد بشكل كامل. واشنطن لا تزال تمسك بخيوط الملف، لكن ما إذا كانت ستتجه إلى فرض تسوية على إسرائيل يبقى سؤالاً مفتوحاً.
علاقات واشنطن بالعالم العربي.. بين الحذر والرهان
خطة ترامب ليست اختبارا لإسرائيل وحدها، بل للعلاقات الأميركية العربية. لقاء الرئيس الأميركي مع قادة عرب ومسلمين على هامش الجمعية العامة يعكس إدراكه أن أي تسوية لا يمكن أن تتم من دون دعم عربي مباشر.
الدول العربية، ترى أن وقف الحرب ضرورة إنسانية وأمنية، لكنها تريد أيضاً ضمانات واضحة بشأن مستقبل غزة والضفة، وعدم تكرار سيناريوهات الالتفاف السابقة.
بالنسبة للعرب، المعيار ليس فقط ما يعلنه ترامب، بل مدى قدرته على إلزام إسرائيل. التجارب السابقة مع الإدارات الأميركية، سواء الديمقراطية أو الجمهورية، تركت إرثاً من الشكوك العميقة.
"أميركا أولا"
من اللافت أن ترامب الذي رفع شعار "أميركا أولا"، يعرض الآن خطة لحل أحد أعقد نزاعات العالم. بردي يرى أن هذه المقاربة ليست تناقضا بالضرورة، بل تعبير عن سعي ترامب لاستخدام القوة الأميركية في صناعة صورة "رجل السلام" على المسرح الدولي، وهو طموح لا يخفيه، وربما يربطه بأحلام الحصول على جائزة نوبل للسلام.
لكن هذا الطموح يصطدم بواقع معقد: الانقسامات الفلسطينية الداخلية، تصلب الحكومة الإسرائيلية، والانقسام الدولي بين واشنطن وموسكو وبكين.
دور الأمم المتحدة.. بين العجز والضغط الرمزي
الأمم المتحدة، رغم كونها ساحة النقاش الأساسية، تظل مقيدة في قدرتها التنفيذية. الفيتو الأميركي في مجلس الأمن يعطل أي خطوات عملية نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية.
ومع ذلك، يشير بردي إلى أن الضغوط الرمزية والسياسية المتراكمة باتت تثقل كاهل واشنطن وتضعف موقفها التبريري.
البعد الإيراني.. ملف موازٍ يهدد كل الجهود
لا يمكن فصل خطة ترامب عن المشهد الإقليمي الأوسع. التوتر الإيراني الإسرائيلي والحرب غير المعلنة بين الطرفين تضيف مستوى جديداً من التعقيد.
بردي أشار إلى أن مهلة "سناب باك" لإعادة العقوبات على طهران تقترب، مع وصول التخصيب الإيراني إلى 60 بالمئة، ما يثير مخاوف الغرب من قرب إيران من العتبة النووية. أي انفجار في هذا الملف سيؤثر مباشرة على فرص التهدئة في غزة، بل قد ينسفها تماماً.
العرب بين الترقب والتشكيك
الدول العربية، وإن رحبت بأي جهد لإنهاء الحرب، لا تزال تتعامل بحذر. هناك إدراك بأن إدارة ترامب قد تطرح مبادرة تحمل مكاسب مرحلية، لكنها قد تكون مشروطة بتنازلات سياسية غير مضمونة النتائج.
هذا الترقب يعكس وعياً بأن العلاقات الأميركية العربية في السنوات الأخيرة شهدت تحولات حادة: من انسحاب أميركي جزئي من المنطقة، إلى عودة الاهتمام عبر البوابة الفلسطينية.
خطة ترامب لغزة ليست مجرد مبادرة عابرة، بل مفترق طرق حقيقي. لأول مرة منذ سنوات، يجد البيت الأبيض نفسه مضطراً للذهاب أبعد من الدعم التقليدي لإسرائيل، تحت ضغط دولي وعربي متصاعد.
لكن نجاح الخطة أو فشلها لن يتوقف على خطاب ترامب أو قدرته على جمع الزعماء حول طاولة واحدة، بل على استعداده لممارسة ضغوط غير مسبوقة على إسرائيل، وعلى قدرة العالم العربي على التحرك ككتلة متماسكة.
ما بين الأمل والشك، تظل القضية الفلسطينية أمام لحظة حاسمة، قد تعيد صياغة مستقبل العلاقات الأميركية–العربية، وتحدد موقع واشنطن في الشرق الأوسط لعقود قادمة.