في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
غزة- داخل ممرات مستشفى الرنتيسي للأطفال في مدينة غزة ، تصطف الأمهات ووجوههن متعبة، يحملن رُضَّعًا بملامح هزيلة تئن من البكاء، هنا ليس الصاروخ الإسرائيلي وحده الذي يقتل، بل الجوع وانقطاع الدواء وغياب الحليب الذي يُفترض أن يكون أبسط حقوق الطفل .
وفي حوار مع "الجزيرة نت" كشف الدكتور جميل سليمان مدير مستشفى الرنتيسي للأطفال -أكبر مستشفى تخصصي للأطفال في قطاع غزة – عن حجم الكارثة الصحية التي تضرب أطفال غزة في ظل الحصار المستمر منذ أشهر، وكيف تحولت أقسام المستشفى إلى غرفة طوارئ دائمة.
في الحقيقة منذ مارس/آذار الماضي بعدما أَحكم الاحتلال الإسرائيلي حصاره على غزة ومنع إدخال المساعدات الأساسية، بدأ الانهيار الشامل يضرب المنظومة الصحية لمستشفى الأطفال، والذي جاء على حساب الأطفال بشكل عام، والرضع والخدج بشكل خاص.
ويمكن وصف الواقع بأنه كارثي بكل المقاييس الإنسانية والطبية، فقد أدى النقص الحاد في الحليب المُخصص للرضع، والأدوية والمستلزمات الطبية، إلى تفاقم حالات سوء التغذية الحاد، وارتفاع معدلات الوفيات بين الأطفال، لاسيما المواليد الجدد، كما أن حرمان الأمهات من الغذاء الكافي والرعاية الطبية انعكس مباشرة على صحة الرضّع، سواء في فترة الحمل أو الرضاعة.
الإحصاءات الرسمية والأممية تؤكد هذا السقوط المريع، ففي مايو/أيار، استقبلت مراكز علاج سوء التغذية 5119 طفلًا بين 6 أشهر و5 سنوات، أي ما يُعادل زيادة تقارب 50% عمّا كان عليه في أبريل/نيسان، و150% مقارنة بفبراير/شباط حين كان النزف الإنساني أقل حدة، أما الحالات الحرجة فارتفعت بنسبة تقارب 146% عمّا كانت عليه في فبراير/شباط.
وفي يونيو/حزيران ارتفع العدد ليصل إلى نحو 6500 حالة، أما يوليو/تموز فشهد ما يقارب 11 ألفا و877 حالة بين الأطفال تحت 5 سنوات، من بينهم 2500 حالات شديدة، في رقم حطم كل سقف ممكن للصدمات السابقة.
بالتأكيد، فحالات سوء التغذية في ازدياد مستمر، ويمكنني القول إن أكثر الحالات التي تصلنا في المستشفى تتمثل في عدة جوانب، أبرزها سوء التغذية الحاد، والذي شهد ارتفاعًا ملحوظًا لدى الأطفال من جميع الفئات العمرية، في حين أن العديد من الرضّع يُتابَعون وهم في حالة ضعف شديد، وبعضهم يُعاني من نقص وزن خطير، بسبب انقطاع الحليب الصناعي، وسوء تغذية الأمهات أنفسهن.
وتأتي الالتهابات التنفسية الحادة في المرتبة الثانية التي يرتاد المصابون بها المستشفى بشكل متزايد، نتيجة ضعف المناعة الناتج عن سوء التهوية، وتلوث الهواء، ونقص الأدوية الأساسية.
بينما تعد أمراض الجهاز الهضمي أيضًا من أكثر الحالات المتزايدة، حيث الإسهال الحاد الناتج عن تلوث المياه، وسوء ظروف النظافة الصحية، وأخيرًا إصابات الجفاف الشديد التي تأتي أقسام المستشفى بسبب انعدام الوصول إلى مياه نظيفة صالحة للشرب.
تدهور صحة الأمهات أثّر بشكل كبير ومباشر في قدرتهن على إرضاع أطفالهن، خاصة في ظل النقص الحاد في الغذاء، والماء، والرعاية الصحية الأساسية، كما أدى ذلك إلى انخفاض أو حتى انقطاع إنتاج الحليب الطبيعي، عوضا عن تراجع جودة الحليب الطبيعي، فلم يعد يحتوي على العناصر الغذائية الأساسية لنمو وتطور الرضيع.
وهذا الأمر زاد من خطر إصابة الأطفال الرضّع بسوء تغذية حاد منذ الأيام الأولى من حياتهم، ويُعتبر هذا التدهور حلقة خطيرة ضمن سلسلة الأزمات الصحية، لأنه يحرم الطفل من مصدره الأساسي والوحيد تقريبًا للتغذية.
مخزون الحليب الصناعي لدينا لا يكفي حتى الأقسام الطارئة والأنواع العلاجية للأطفال الذين يعانون سوء التغذية الحاد، وهي مفقودة بشكل شبه كلِّي، ونُرَشّدها على أن تكون ملاذًا مؤقتًا فقط ولكنها غير كافية، وحتى البدائل المنزلية مثل ماء الأرز، أو حليب البالغين المذاب، فهي وصفاتٌ طارئة وليست آمنة للأطفال.
وكما يعلم الجميع أن الوضع في غزة كشف السقوف الإحصائية الأكثر قتامة، وهذا ما أعلنته بيانات الأمم المتحدة بأن أكثر من نصف مليون شخص يعيشون تحت ظروف مجاعة فعلية، بينما 39% لا يأكلون لعدة أيام متواصلة.
نحاول استخدام بعض البدائل المحدودة، ولكن للأسف أغلب هذه البدائل ليست آمنة تمامًا ولا تُغني عن الحليب الطبيعي والصناعي، خاصة للأطفال دون سن 6 أشهر.
لكننا نضطر لاستخدام مخففات غذائية منزلية: مثل ماء الأرز أو حليب البودرة المخصص للبالغين بعد تخفيفه، رغم أنه غير مناسب غذائيًا للرضع، كما أننا نحاول تشجيع الرضاعة الطبيعية، لكن كثيرًا من الأمهات يعانين من سوء تغذية أو صدمة نفسية، مما يؤثر سلبًا على إدرار الحليب.
وهناك أيضًا مكملات بديلة للأطفال الأكبر من 6 أشهر، مثل القمح أو العدس المهروس، إلا أنها غير كافية من الناحية الغذائية، ولا تصلح للرضع.
نفاد تلك الكميات وتأخر إدخال الحليب والمكملات الغذائية لهما تأثير كارثي ومباشر على حياة الرضع، خاصة في الأشهر الأولى من أعمارهم، حيث يعتمدون كليًا على التغذية من حليب الأم أو الحليب الصناعي، وفي ظل تدهور صحة الأمهات يصبح الحليب الصناعي هو البديل الوحيد.
وهذا كله يتسبب في حدوث سوء تغذية حاد خلال فترة حرجة من النمو، كما أن ضعف في المناعة يجعل الطفل عرضة للأمراض والعدوى، كما يتسبب في توقف النمو الجسدي والعقلي، وفي كثير من الحالات الوفاة بسبب الجفاف أو فشل الأعضاء.
الطواقم الطبية تبذل جهودًا هائلة وتفوق طاقتها الطبيعية للتعامل مع الأعداد المتزايدة من الأطفال المصابين بسوء التغذية، وبأمراض أخرى.
فلا يكفي المبنى، ولا الأدوية، ولا الطاقم. كما أن المرضى على الأرض، وللأسف الشديد نضطر لإجراء فرز قاس: من يعيش؟ ومن يُترك تحت عناية في الممر؟ الطاقم الطبي متعب، والأغلب يعملون بلا انقطاع. وهذا المشهد أصبح يوميًا ومتكررًا.
هذا صحيح، الوضع كارثي بالفعل، ودعم المنظمات الدولية، رغم وجوده، لا يسمن ولا يُغني من جوع: فشحنات محدودة تدخل، لا تكاد تلمس حجم الأزمة، وهناك وعود، لكن شروط الحصار التعجيزية تعرقل الوصول الفعلي للمساعدات، حتى العلاج، يُعطى كحبة في بحر الجوع.
وفي بعض الأحيان، يتم السماح بدخول شحنات محدودة من بعض المنظمات الدولية، وخصوصاً اليونيسيف، لكنها غير كافية ولا تغطي الاحتياجات الحقيقية للمستشفى.
ورغم ذلك هناك مؤشرات على وجود نوايا حسنة من بعض الجهات لتحسين الوضع، لكن المعيقات اللوجستية وظروف الحرب ما زالت تعرقل عملية التوريد بشكل منتظم.
نحن نراقب عن كثب تدهور الوضع الغذائي والصحي، وكل المعطيات تشير إلى أننا نقترب بسرعة من مرحلة جديدة من المجاعة تكون أكثر ضراوة.
ومخاوفنا في ذلك تتمثل في نفاد شبه تام لمخزون الحليب الصناعي، وارتفاع حاد في حالات سوء التغذية الحاد، خاصة بين الأطفال تحت سن العامين، وتدهور صحة الأمهات، مما يجعل الرضاعة الطبيعية غير ممكنة في كثير من الحالات، بالإضافة إلى شح المياه النظيفة، وهذا يزيد من خطر الأمراض المرتبطة بسوء التغذية، مثل الإسهال الحاد والجفاف.
وإذا استمر الحصار ومنع إدخال المساعدات، فإننا نخشى أن نشهد الأسابيع المقبلة ارتفاعًا حادًا في وفيات الأطفال الرضع، ليس بسبب الحرب أو العنف، بل بسبب سياسة التجويع الصامتة التي تحاصر الأطفال من كل جانب، وتودي بحياة معظمهم.
في ظل شح الموارد، يعمل الطاقم الطبي في غزة بأقصى درجات الطوارئ، وأقل الإمكانيات المتاحة، محاولين إنقاذ حياة الأطفال الأكثر هشاشة، خصوصًا الرضّع الذين يُواجهون خطر الموت كل ساعة.
ونحاول إنقاذهم بفرز الحالات حسب الأولوية: حيث يتم التركيز على الأطفال الذين يُعانون من سوء تغذية حاد وخطر مباشر على الحياة، لتقديم الرعاية العاجلة لهم، إضافة إلى تعديل بروتوكولات العلاج حيث نضطر لاستخدام بدائل محلية لعلاج سوء التغذية، إلى جانب الاستفادة القصوى من كل جرعة دواء من خلال توزيع الأدوية المتبقية بعناية، مع ترشيد صارم في استخدامها لتغطية أكبر عدد ممكن من الأطفال.
ولا ننسى الدعم النفسي للأمهات حيث نخصص جزءًا من الطواقم لتقديم الدعم المعنوي والنفسي لهن، ومساعدتهن في الرضاعة الطبيعية بقدر المستطاع، رغم الظروف الصحية السيئة.
ورغم كل هذه الجهود، فإننا نعمل في منطقة كوارث، حيث الحاجة تفوق الإمكانيات بأضعاف، وكل يوم نتخذ قرارات مؤلمة نضطر فيها لاختيار من يُعالج أولًا، ومن نكتفي بمراقبته.
أقول لهم: أطفال غزة لا يموتون من القصف فقط، ومطالبنا ليس خيالية، أن يُعطى الرضيع حليبًا، وأن تُعالج الأم، وأن يُعامل الإنسان كإنسان.
ولم يعد في غزة مساحة للأطفال إلا للحلم بالحياة، فالحليب مفقود، والمستشفى أضحى الواجهة الأخيرة للصمود، بينما الإحصاءات تتسارع لتوثّق ثمن الحياة أو بالأحرى ثمن البقاء، وكل رقمٍ هنا لا يمثل حالًا بل صرخةً في عالم لا يرى.