آخر الأخبار

المولد النبوي: أوبريت "الليلة الكبيرة" الذي وثق مظاهر احتفالات المصريين منذ أكثر من نصف قرن

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

مصدر الصورة

بالطبول والدفوف والصاجات، تهل علينا ألحان صوفية نسجها الموسيقار المصري سيد مكاوي على نُول مقام الراست الشرقي الأصيل، لتكون فاتحة أشهر صورة غنائية رسمت ملامح الاحتفالات الشعبية المصرية بالمولد النبوي، منذ ستين عاماً، ولا تزال متوارثة جيلاً بعد جيل، غناءً وطقوساً.

كانت كلمات الشاعر صلاح جاهين، العدسة التي سجلت مظاهر الاحتفال بالمولد النبوي في مختلف محافظات مصر، والتي استطاع صلاح السقا تجسيدها ببساطة للأطفال كمخرج لمسرح العرائس.

ويصف الدكتور مسعود شومان، المتخصص في الدراسات الشعبية والأنثروبولوجية، الأوبريت بأنه "عمل فني مبني على معرفة صلاح جاهين نفسه بالعادات والتقاليد من خلال تنقله في ربوع مصر، راصداً ما يحدث في الموالد كشاعر، محاولاً خلق صورة بصرية بل وكاريكاتيرية للمولد وزواره".

وتقول سامية جاهين، ابنة الشاعر ورسام الكاريكاتير صلاح جاهين، لبي بي سي عربي، إن والدها تنقل مع جدها الذي كان يعمل قاضياً بين معظم محافظات مصر من شمالها إلى صعيدها، منذ طفولته إلى أن بلغ نحو التاسعة عشرة من عمره، قبل استقراره في القاهرة.

وفي النهاية، تبلورت تجربته وهو في أواخر العشرينيات من عمره، كما حكى بنفسه، لتخرج في هيئة أوبريت يصوّر مظاهر احتفال شعبي بالصوت والصورة، في تسجيل سبق عصر "الفيديو كليب".

مصدر الصورة مصدر الصورة

"ما أحلى البيارق"

مصدر الصورة

قُبة سِيدنا الولي دول نوّروها

مَحْلى البيارق والناس بيزوروها

قبة سِيدنا الولي في الجو عالية

مَحْلى البيارق لما دوّروها

بالأنوار التي تُعلّق فوق مساجد الأولياء في الموالد، بدأ صلاح جاهين أيقونته الخالدة، مُوثقاً خروج المصريين في مواكب تُزينها "البيارق" أو الأعلام ورايات الطرق الصوفية التي ترفرف وهي تجوب شوارع مصر.

و"سِيدنا الولي" يشير إلى كل من عُرف بأنه من "أولياء الله الصالحين"، سواء من آل البيت أو ممن تتلمذ على أيديهم وسار على نهجهم، وهؤلاء يحتلون مكانة روحية خاصة لدى المصريين.

فلدى المتصوفين خاصة، والكثير من مختلف فئات الشعب عامة، ملاذٌ روحيٌّ يتمثل في أحد أولئك الأولياء المنتشرين في مختلف ربوع مصر، يخصه المحب أو "المُرِيد" بالولاء الخاص، ويكون من المقربين منه أو من "محاسبيه"؛ (أي من المحبين والمنتسبين له)، فهذا من "محاسيب" سيدنا الحسين، وذاك من "محاسيب" السيدة زينب أو السيدة نفيسة، وهكذا. ولكل "ولي" من هؤلاء مولد خاص يشهد طقوساً متشابهة.

ويأتي يوم المولد النبوي ليجتمع كل هؤلاء "المحاسيب" تحت اللواء الأكبر أو "مصدر إشعاع الدين" كما وصف جاهين النبي محمد، قائلاً في لقاء تلفزيوني نادر إن المصريين جميعاً "من محاسيب النبي".

مصدر الصورة

"من الريف والبنادر"

الليلة الكبيرة يا عمي والعالم كتيرة

ماليين الشوادر يابا مِ الريف والبنادر

في مولد النبي وموالد الأولياء، اعتاد المصريون منذ زمن، إقامة احتفالات تشمل الذكر والمديح وإطعام الطعام على مدى أسبوع يُختتم بـ "الليلة الكبيرة"؛ وهو يوم المولد ذاته الذي يشهد ذروة الأحداث ويكون "مسك الختام" لهذه المناسبة الدينية.

وخلال هذا الأسبوع، يتدفق الناس من القرى "الريف" ومن المدن "البندر"، نحو المساجد الكبرى التي تحتضن أضرحة الأولياء؛ في مختلف ربوع مصر.

هذا بخلاف المولد النبوي، الذي يبدأ الاحتفال به في مصر مع غُرَّة شهر ربيع الأول، وينتهي بـ "الليلة الكبيرة" في اليوم الثاني عشر، اليوم الأشهر لمولد النبي محمد بحسب أهل السنة.

"حُمّص .. حُمّص .. حُمّص"

تعد فترة المولد موسماً تجارياً بامتياز؛ حيث يعرض التجار بضاعتهم في خيام مؤقتة أو "شوادر" ينصبونها في الشوارع، حيث يصطف الكبار والصغار داخل الشوادر لشراء المأكولات والمشروبات، لعل أشهرها حلوى المولد التي لا يكاد يخلو منها بيت مصري في موسم المولد النبوي.

وهناك أيضاً الدمى الأشهر: "عروسة المولد" و"الحصان"، وهي دمى تُصنع من السكاكر ويمكن أكلها، أو من البلاستيك للذكرى، إلى جانب بعض المكسرات أو "التسالي" كالحمص، والفول السوداني.

كما كان ينتشر في الموالد بيع الحُليّ للنساء، وكذلك السمك المملح، وشراب البوظة - وهو مزيج من الطحين والخميرة- والمثلجات التي كان يُطلق عليها قديماً "الدَندورمة" أو "الجيلاتي".

ويعلق الدكتور مسعود شومان، بأن الجانب الاقتصادي يحتل أهمية خاصة في الموالد؛ فهو مصدر رزق للكثير من التجار، كما أن رواد الموالد يهتمون بالشراء عموماً "تبركاً" بالوليّ المجاور لمكان إقامة الاحتفال.

السمك مقلي

كل وبرّق لي

صنف زي الفُل

استخار واختار: فشة أو ممبار

يلا سمي وكُل!

"خد لك صُورة 6×9"

في الصورة الغنائية، يتداخل صوت رجل مسن يحاول أن يشق طريقه وسط الزحام قائلاً "اسعى .. اسعى"، مع نداء مصور "أرْزُقِي" - يتكسب رزقه من خلال عرض التقاط صور تذكارية على رواد المولد قائلا "خدلك صورة 6 × 9".

ولربما كان يشير جاهين إلى الكاميرا المُستخدمة آنذاك للتصوير الفوتوغرافي الفوري كبيرة الحجم، وتُسمى "كاميرا الماء"؛ حيث كان المُصور يلتقط بها الصورة وهو يضع بطاقة تطبع عليها الصورة لحظة التقاطها، قبل أن يغطي رأسه بقماش، ويضع الكارت في محلول لـ"تحميض" الصور، بحيث تظهر ملامحها ويسلمها لصاحبها في غضون دقائق.

وكانت وظيفة "المصوراتي الأرزُقي" حاضرة في كل المناسبات والأعياد المهمة لتوثيق أجمل اللحظات، قبل أن يتوارى دوره في الشوارع المصرية خلف عدسات الهواتف الجوالة التي غدت توثق الذكريات بمختلف الطرق، وأضافت طريقة تصوير الذات، "السيلفي".

"يا حضرة الأراجوز قل لي"

في الأوبريت، نرى الأراجوز، الذي يرتدي جلباباً بلدياً ويعتمر قبعة مخروطية أو "طرطوراً" ويَصدر عنه صوت يشبه الصوت الصادر من الأنف، وهو يتحدث إلى "العمدة" الغريب الذي يحاول أن يسترشد به، فيضلله الأراجوز ساخراً منه.

والحقيقة أن من يحرك هذا الأراجوز، يضع في سقف حلقه قطعة معدنية تُسمى "الأمانة"، وتحتاج مهارة خاصة لتلافي ابتلاع تلك القطعة خلال الكلام أثناء العرض.

هذه الدمية، كانت عنصراً أساسياً في الموالد والأعياد في مصر؛ حيث يُنصب في الشوارع مسرح صغير مغطى بستارة، يختفي خلفها الفنان الذي يلبس الأراجوز في كفه ويحركه بأصابعه.

ولقد كان الأراجوز بوابة لخيال الأطفال الذين يلتفون حوله ويدفعون القروش مقابل "الفُرجة" عليه، للاستماع إلى دعاباته ونظرته الساخرة للأحداث المجتمعية من حوله، وانتقاد من لا يُمكن انتقاده.

وعلى الرغم من أن فن الأراجوز يكاد يندثر وجوده في موالد القاهرة، إلا أن أوبريت "الليلة الكبيرة" نجح في توثيق حضوره القوي في الموالد المصرية، قبل أن توثقه قوائم اليونسكو للتراث غير المادي بعد ذلك بنصف قرن.

"نشِّن! وَسْطن إيدَك وَسْطَن!"

الرماية أو "النَشَان" بالعامية المصرية، متعة أساسية في الموالد، سواء للرامي أو الجمهور.

والرامي يكون من رواد المولد، حيث يتوقف عند هذا التحدي الذي يرعاه "لاعب البخت"، ليجرب الرامي حظه ويحاول إثبات مدى دقته في التصويب بالبندقية باتجاه هدف ما.

ويحصل الفائز على جائزة رمزية قد تكون قطعة من حلوى المولد، كما جاء في الأوبريت؛ بيْد أن جائزته الأكبر يحصدها من عيون الجماهير وتهليلاتهم وتصفيقهم الحار، في لعبة تجمع بين المتعة ومحاولة كسب مزيد من الثقة في النفس.

ورّينا القوة .. يا ابني انت وهو

مين عنده مروّة .. وعامللي فتوّة

يقدَر بقدارة على زق الطارة

ويفرقع بُمبة

كما وثق أوبريت "الليلة الكبيرة" لعبة "الطارة" التي تقيس قوة اللاعب في دفع كتلة حديدية على شكل مدفع، تسير على عجل صغير في مسار صاعد لتقاوم الدفع.

وعندما ينجح اللاعب في دفع الطارة، يستطيع إضافة أثقال عليها ويدفعها مرة أخرى، والفائز من يستطيع دفعها لنهاية المسار و"يفرقع البُمبة" وهي كرة صغيرة من البارود، توضع في مقدمة المدفع.

"فُريرة للعيّل"

فريرة للعيّل

يا ابو العيال ميّل

خُد لك سَبَع فرارير

زُمّارة شُخلِيلة

عَصفُورة يا حليلة

طراطير يا واد طراطير

بما أن الأطفال هم الجمهور الأبرز في الموالد، فقد وجد تجار الألعاب في هذه المناسبات فرصة لعرض بضاعتهم، التي يصبو إليها كل طفل يسير مع أهله.

وقد ذُكِرت مجموعة من الألعاب اليدوية التي تصدر أصواتاً مختلفة، وثقها جاهين في "الليلة الكبيرة"، في زمن لم يكن فيه مكان لألعاب الفيديو ولا لعالم الإلكترونيات المغري اليوم.

فالفُريرة هي مزمار صغير به جسم صغير يتحرك سريعاً وقت النفخ، ما يميز الفريرة بالصوت الذي نسمعه في الأوبريت مع نداء بائع اللعبة.

والزُمارة؛ صفارة بلاستيكية بأحجام مختلفة، بها جزء معدني يصدر صوتاً قوياً عند النفخ فيها، وعادة ما تكون مخروطية الشكل.

أما الشُخلِيلَة فهي غالباً ما تكون للأطفال الُرضّع، وهي عصا تُمسك باليد تتصل بها دائرة مجوفة ملونة وبداخل تلك الدائرة أشياء تُصدر صوتاً عند اهتزازها. والعصفورة هي صفارة تصدر صوتاً يشبه زقزقة العصافير.

وكان الأطفال يجدون في اللعب بها متعة خاصة وهم يرتدون "الطراطير" المخروطية المصنوعة من الكرتون المغلف بورق الزينة الملوّن بألوان مبهجة.

هذا بخلاف الألعاب البسيطة الثابتة في الموالد للفتيان والفتيات؛ كـ"المراجيح" التي يكون بعضها دواراً بحيث يصنع بها اللاعب لفة كاملة، و"الزحاليق" و"الساقية الدوارة" بحجم صغير، التي توفر للصغار تجربة مرحة مثيرة بأبسط التكاليف.

"في السيرك شجيع يهجم على السبع"

إلى جانب الحلوى والألعاب ومشاهدة الأراجوز، كانت إحدى المتع التي يكون فيها الأطفال على استعداد لإنفاق ما ادخروه، الدخول إلى خيمة السيرك.

في السيرك، يجلس الأطفال على أحر من الجمر في انتظار مشاهدة رجل ضخم الجثة "الشجيع" وهو يستعرض قوة عضلاته المفتولة أو يصارع أسداً دون أن يتأذى، أو ليداعبوا المهرج "البلياتشو".

ويقول شومان، الذي يصف نفسه بأنه "مَوَالدي" أي عاشق للموالد، إن الأسود كانت على الأغلب في سيرك الموالد الكبيرة التي كانت تقام في القاهرة، لكن في بقية ربوع مصر، كان السيرك يشهد حضور الحيوانات الأليفة ككلب يرتدي فستاناً وما إلى ذلك.

كما كانت خيام السيرك تشهد أحياناً رقصة لـ"الغَازِيّة" التي فضل كاتب الأوبريت أن يضع لها محلاً من الإعراب في أحد المقاهي.

ويشرح الدكتور شومان بعض المظاهر البعيدة عن المناسبة الدينية، بأن للمولد جوانب عدة "يكتمل فيها الروحي بالنفعي؛ فهناك جانب اقتصادي وجانب ترويحي بالإضافة إلى الاعتقادي".

وأضاف الباحث في الفولكلور المصري لبي بي سي أن "المصريين دائماً ما يربطون الدين بالسعادة؛ فأي طقس شعائري لديهم، إذا لم يكن فيه سعادة، فهو ليس من الدين عندهم".

"يا أم المطاهر رشي الملح سبع مرات"

يا عريس يا صغير

علقة تفوت ولا حد يموت

لابس ومغيّر

وهتشرب مرقة كتكوت

كان المولد وما زال موسماً لختان الذكور، في طقس يحاولون من خلاله التخفيف عن الطفل بعد الختان أو "المطاهرة"، بالاحتفال بكونه صار أهلاً للرجولة والزواج، من خلال رقصة للخيل على أنغام المزمار البلدي، وبالغناء.

يا ام المطاهر رشي الملح سَبَع مرات

في مقامه الطاهر خشي وقيدي سَبَع شمعات

"يا غزال يا غزال!"

كان الغناء بمختلف ألوانه عنصر استمتاع أساسياً في المقاهي، التي تتحول في الموالد إلى ما يشبه الكازينوهات الفنية لكن على نطاق شعبي.

ولم يكن يقتصر الغناء على الإنشاد الديني المناسب بالأساس للمولد؛ بل كانت مقاهي الموالد ساحة للغناء العاطفي حتى لمن يتغزلون بغنائهم في مفاتن المرأة ويتحدثون عن النار والأشواق. ومن أمثلة ذلك المقطع الغنائي الشهير:

طار في الهوا شاشي .. وانت ما تدراشي

كما كانت المقاهي مسرحاً لـ"الغوازي" الغجريات اللائي يزيد رقصهن وغناؤهن من إقبال الزبائن وزيادة إيرادات المقهى.

وعلى الرغم من أن أوبريت الليلة الكبيرة ذكر الرقص مرتين؛ مرة في الاحتفال بختان الأطفال من خلال دمية تتمايل على ألحان مكاوي الراقصة، ومرة أخرى في المقهى بشكل صريح، إلا أن الدكتور نهلة إمام، مستشار وزير الثقافة للتراث، تقول إن هذا الطقس كان بعيداً عن الاحتفال بالمولد النبوي.

وأضافت إمام، أستاذة "العادات الشعبية والمعتقدات والمعارف التقليدية"، لبي بي سي أن موالد الأولياء كانت بمثابة "كرنڤال شعبي" يضم، إلى جانب الشق الديني، الشق الاقتصادي والاجتماعي والترفيهي، الذي يأتي في إطاره الرقص والغناء، أما المولد النبوي "فعادة يُحاط بقدسية، وبهجته تقتصر على الإنشاد الديني وإقامة الولائم وحلوى المولد العروسة والحصان".

ويعلق شومان بأن "الغازيّة" حدث لها تطور؛ فأصبحت الراقصات أو يرتدين ملابس تشبه الغجريات "الغوازي" قديماً، كنوع من الدعايا لجذب الشباب للعب بعض الألعاب التي تظهر مدى فتوتهم كدفع الطارة.

أما رقص الغازية، فلم يعد موجوداً، وهو ما عزاه شومان إلى ما حدث للمجتمع من "السلفَنَة"، نسبة إلى الفكر السلفي، الذي أدى إلى إلغاء بعض الموالد أو بعض مظاهره، في إشارة إلى أن الكثير ممن يعرّفون أنفسهم بالسلفيين، يرون الموالد بِدعة في الدين.

"انشد ولعلع يا وَلَه"

بعد كل هذا الصخب، يختتم الأوبريت بفن التحطيب المصري الذي يظهر من خلال الإخراج في مسرح العرائس لا من خلال الكلمات، في توثيق لفن لم يعد له مكان في موالد القاهرة أو شمال مصر بشكل عام، فيما لا يزال حياً في موالد صعيد مصر حتى يومنا هذا.

شفت ف منام .. صاحب المقام

ده أُبّهة

ويمامة حايمة عليه

تسبّح ربّها

يا نور النبي! يا نور النبي!

أما الكلمات والألحان، فجاء الختام مرآة لمواكب النور في البداية، بالإنشاد الديني على إيقاع الدفوف والصاجات، وبذكر الذاكرين الهائمين الذين يتمايلون يمنة ويسرة.

وأسدل الستار على الأوبريت بصوت سيد مكاوي وهو يؤذن، في إشارة إلى عادة لم تنقطع حتى يومنا هذا، وهي أن الاحتفال بـ"الليلة الكبيرة" يستمر حتى طلوع الفجر.

وتعلق سامية جاهين على أوبريت الليلة الكبيرة بأنه أكبر من مقدرة أي أحد على شرح "مدى عبقرية" هذا العمل الفني الذي أمسى "أيقونياً لا شبيه له في العالم"، مضيفة أنها لا تعتقد أن هناك أي عمل فني استطاع أن يرسم هذا المشهد البديع بالتفاصيل والتعقيد والبساطة التي تسمح للأطفال بحفظه وترديده، بفضل براعة صلاح جاهين وسيد مكاوي.

وقالت: "لم أذهب إلى أي مدرسة أو حضانة إلا وسمعت فيه أوبريت الليلة الكبيرة؛ سواء في مدرستي وأنا صغيرة أو في مدرسة أبنائي بعد أن كبرت وأصبحت أماً"، موضحة أن أغنية "الليلة الكبيرة" تأتي دائماً في السياق الثقافي للأطفال؛ "فهي جزء لا يتجزأ من وجدان مصر الثقافي، وكون أبي من كتب هذا الأوبريت، فهذا أمر تعجز كلماتي عن وصف ما يعنيه لي".

الحاوي والدوسة وزفة الحرفيّين

هناك طقوس وممارسات أخرى كانت تحدث خلال الاحتفال في المولد النبوي، لم يسجلها أوبريت "الليلة الكبيرة"، بعضها كان خطراً كدور "الحاوي" الذي يؤدي عروضاً غريبة كترويض الحيّات "الثعابين"، في طقس ارتبط بالطريقة الصوفية الرفاعية.

ومنها أيضاً اللعب بالأسياخ، بأن يُدخل أحدهم السيخ الحديدي من خده ليخرج من الجهة الأخرى دون أن تخرج دماء، فيما يعد من الخوارق أو "كرامة" لبعض الطرق الصوفية، وهي ممارسات لم يُكتب لها الاستمرار منذ مدة.

ومن الطقوس العجيبة المندثرة طقس "الدُّوسة" الذي كانت تمارسه إحدى الطرق الصوفية؛ حيث ينبطح "الدراويش" من أتباع الطريقة على وجوههم على الأرض في ترتيب دقيق واتجاه موحد وهم يذكرون الله، ليمتطي شيخ الطريقة حصانه المُدرب بعناية، ويطأ أو "يدوس" به على ظهورهم.

كان ذلك في الموالد الكبرى في القاهرة بحضور السلاطين وكبار رجال الدولة، كما حكى شومان، وكانت خطوات الحصان تركز على كتف وفخذ الدرويش، وبعد انتهاء مروره ينهض الدراويش مُرددين لفظ الجلالة، فيما يُعد معجزة أو "كرامة" من الكرامات.

كانت الموالد تشهد طقوساً أخرى لا تتسم بالخطورة؛ لكنها لم تعد تشهدها الموالد اليوم، كـ"زَفَّة الحِرفيّين" التي وصفها شومان بأنها فرصة لاستعراض كل ذي حرفة حرفته.

وأوضح لبي بي سي أن صاحب الحرفة يركب عربة يجرها الحمار "عربة كارّو"، ويستعرض حرفته في شوارع القرية أو المدينة، وبجواره "السَيّيط" أو المنشد الذي يُحيّي صاحب الحرفة ويركز على الدعاء بالخير والبركة أملاً في أن تشمل صاحب الحرفة.

وهناك أيضاً "شِيكو بِيكو العجيب" وهو دمية خشبية قديمة سمراء اللون بحجم الإنسان، كانت تُستخدم كنوع من الدعاية والدعوة لدخول السيرك.

أما "المِرماح" أو سباق الخيل مع إمساك الفارس برمح أو عصا خشبية، فهو طقس لم يُذكر في "الليلة الكبيرة" أيضاً لكنه لا يزال ينتظره أهل الصعيد بفارغ الصبر حتى اليوم.

في هذا الطقس، يتبارى الفرسان الشباب في إظهار مدى قدرتهم على السيطرة على خيولهم المزينة بأبهى الحلل، فيما يبدو وكأنه استذكار للمعارك التاريخية القديمة التي خاضتها القبائل في تلك المنطقة.

والموالد حتى يومنا هذا فرصة لسرد "السيرة الهلالية" الملحمة الشعبية العربية التي تحكي سيرة بني هلال، وعلى رأسهم أبو زيد الهلالي، من خلال المتخصصين في حكيها بالغناء بمصاحبة آلة الربابة والإيقاع.

ويحكي الدكتور شومان أيضاً أن الموالد تُعَد أيضاً فرصة لحل المشكلات؛ حيث يجتمع فيها أصحاب المشكلة مع بعض الوجهاء والقضاة العُرفيين في جلسة عُرفية على أمل نيل بركة الوليّ في إصلاح ذات البين.

لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا