يستعد المسرح في قلب بكين لاستعراضٍ مهيبٍ للقوة والجبروت العسكري، تحت إشراف الرئيس الصيني شي جين بينغ.
في الموقع، ترفرف ثمانية أعلام صينية ضخمة، تُحيط بصورة ماو تسي تونغ، مؤسس الصين الشيوعية، المُعلّقة على "بوابة السلام السماوي" المُطلة على ميدان تيانانمن، أحد أكبر الساحات العامة في العالم.
وفي الأسفل، صفوفٌ من المقاعد المُخصصة لـ 26 رئيس دولة أجنبية، من بينهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون، الذي يُعدّ حضوره انتصاراً دبلوماسياً للزعيم الصيني.
على الجانب الآخر من الطريق، بالقرب من قاعة الشعب الكبرى، هناك باقتان ضخمتان من الزهور، تخليداً لذكرى نهاية الحرب العالمية الثانية، إلى جانب مقاعد تتسع لنحو 50 ألف مدعو.
في اليوم الأخير من الاستعدادات، أُعيد فتح شارع تشانغآن أمام الجمهور، وهو طريق متعدد المسارات يقطع الميدان. ورفع السائقون وراكبو الدراجات هواتفهم عالياً، مُحاولين التقاط صور للمشهد.
ظاهرياً، يُحيي العرض العسكري ذكرى مرور 80 عاماً على استسلام اليابان في الحرب، وانتصار الصين على قوة احتلال؛ لكن الأمر يتجاوز ذلك بكثير بالنسبة للرئيس شي.
فهذا أسبوعٌ حافلٌ بالنسبة له، يشهد العديد من الإنجازات التي حققها لأول مرة.
فقد حثّ رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي على زيارة الصين خلال عطلة نهاية الأسبوع لأول مرة منذ سبع سنوات، مُعيداً بذلك إحياء علاقة اقتصادية واستراتيجية مهمة.
وقد حضر أكثر من 20 زعيماً عالمياً قمة منظمة شنغهاي للتعاون، التي اختُتمت مؤخراً، في أكبر تجمع للمنظمة على الإطلاق عبر تاريخها.
ولأول مرة منذ عام 1959، يحضر زعيم كوريا الشمالية عرضاً عسكرياً صينياً.
هذا المشهد يعكس اللحظة المميزة التي يعيشها الزعيم الصيني، والأضواء كلها مُسلّطة عليه.
لقد أتاحت له قمة منظمة شنغهاي للتعاون في تيانجين استعراض قوته وتقديم رؤيةٍ لنظامٍ عالمي جديد يأمل أن يتحدى الولايات المتحدة.
والآن، تتجه الأنظار إلى العرض العسكري في بكين، الذي سيُظهر قدرة بلاده المتنامية على منافسة الولايات المتحدة في أي صراع.
وسيشهد قادة كل من إيران وماليزيا وميانمار ومنغوليا وزيمبابوي ودول آسيا الوسطى، التشكيلات العسكرية، وسيطلعون على الأسلحة التي تقول السلطات الصينية إن سرعتها تفوق سرعة الصوت، وعلى طائرات مسيرة تعمل تحت الماء.
ولن يشهد العرض من الغرب سوى زعيمين غربيين على قائمة الضيوف هما صربيا وسلوفاكيا.
وكانت المفاجأة حين أعلن كيم جونغ أون، زعيم كوريا الشمالية أنه سيحضر العرض، حيث يُضيف قطاره المدرّع وموكبه المعتاد المُحاط بحُرّاسه الشخصيين لمسةً مميزةً إلى المشهد.
ومن المتوقع أن يكون كلٌ من كيم وبوتين إلى جانب شي، الأمر الذي يُتوقع أن يتصدر عناوين الصحف الغربية، التي يصف محللوها هؤلاء القادة بأنهم "محور الاضطرابات".
لا شك في أن هذا العرض سيمثل استعراضاً لقوة الصين ونفوذ شي كزعيم عالمي، إلا أنه يحمل في طياته أيضاً رسالة محلية واضحة: الفخر والوطنية.
تصف الصين الحرب العالمية الثانية بأنها "حرب المقاومة الشعبية ضد العدوان الياباني"، مع أن جزءاً كبيراً من هذه المقاومة لم يكن من الحزب الشيوعي، بل من القوميين الذين خسروا الحرب الأهلية لاحقاً أمام ماو وقواته، ومُحيت آثارهم من الذاكرة الوطنية.
وفي الفترة التي سبقت الذكرى السنوية، صدرت عدة أفلام تُصوّر هذا النضال، بعضها حقق نجاحاً باهراً. ونشرت وسائل الإعلام الحكومية تقارير تهدف إلى "ترسيخ رؤية صحيحة لتاريخ الحرب العالمية الثانية".
ولقد أثارت هذه الحملة بعض الخلافات مع اليابان؛ ففي الأسبوع الماضي، قدمت بكين احتجاجاً لدى طوكيو على تقارير تفيد بأن اليابان طلبت من الحكومات الأوروبية والآسيوية عدم حضور العرض.
ويبدو أن كل هذا جزء من محاولة حشد للشعب، في الوقت الذي تُكافح فيه الصين ركوداً اقتصادياً، وبطالة بين الشباب، وتراجعاً حاداً في أسعار المنازل. فالطلب ضعيف، وتشير أحدث البيانات إلى أن رسوم ترامب الجمركية تُؤثر سلباً على إنتاج المصانع. وتستمر حملة "مكافحة الفساد"، مع تقارير عن التحقيق مع مسؤولين رفيعي المستوى.
والواقع أن هناك استياء، وحتى خيبة أمل، لاسيما بين الشباب. وقد تسربت هذه المشاعر حتى إلى شبكة الإنترنت الصينية الخاضعة لرقابة مشددة.
إن الخوف من امتداد هذا الوضع إلى العالم الحقيقي، هو أحد الأسباب التي دفعت إلى هذه الاستعدادات شديدة الحذر، التي باتت دليلاً على سيطرة الحزب على عاصمة يسكنها أكثر من 21 مليون نسمة. وقد ساد الهدوء المدينة مع اقتراب موعد العرض العسكري.
تم تركيب أجهزة مسح أمني في المطارات عند بعض مداخل المكاتب. كما مُنعت جميع الطائرات المُسيرة، وأُجريت زيارة للصحفيين الدوليين في منازلهم، بعضهم في مناسبات متعددة، لضمان وصول الرسالة إليهم.
عند مداخل الجسور، نُشر حُرّاس على مدار الساعة لمنع أي احتجاجات، وكان بعضهم يرتدي الزي العسكري.
قبل ثلاث سنوات، عندما اختار الحزب شي جين بينغ زعيماً له لولاية ثالثة تاريخية، رفع أحد المتظاهرين لافتة فوق جسر طريق سريع رئيسي تنتقد شي وتدعو إلى إقالته، فجرى اعتقاله على الفور، وما زلنا لا نعرف ما حدث له.
هذه لحظة، لا يريد الحزب أن يعيشها من جديد.
لقد أمضى مسؤولو الحزب الشيوعي أشهراً في التخطيط والتحضير لأول عرض عسكري لهم منذ ست سنوات. ورُفع أكثر من 200 ألف علم في أنحاء العاصمة.
وعلى جوانب الطرق والميادين البارزة، تنتشر تنسيقات زهور تُصوّر معركة الصين ضد اليابان. كما أُضيفت وحدات إضاءة جديدة في المدينة، لإنارة المباني في المنطقة التجارية.
وصرح مسؤولون من مكتب قيادة العرض بأن "المبدأ العام هو تجنب إزعاج الجمهور قدر الإمكان".
ومع ذلك، فإن الاستعراض بالنسبة لسكان بكين، قلب حياتهم رأساً على عقب.
فيمكنك سماع صوت الدبابات وهي تجوب الشوارع خلال البروفات الليلية الأسبوعية، أما المُسيّرات فيتردد صداها بعيداً عن مسار الاستعراض.
وتلقّى سكان شارع تشانغآن، المؤدي إلى ميدان تيانانمن، توجيهات بالبقاء بعيداً عن شرفاتهم لضمان سرية البروفات.
وستُغلق المدارس أبوابها إلى جانب الشركات والفنادق الواقعة على طول مسار الاستعراض خلال اليومين المقبلين.
كما شهدت المدينة تحويلات في طرقات عدة وإغلاقاً لخطوط المترو، ما أدى إلى شلل تام في حركة النقل من وإلى مركز المدينة.
حتى الحصول على دراجة مشتركة، وهي غالباً أفضل وسيلة للتنقل في بكين، قد يكون الآن أمراً صعباً. فعادةً ما تجد المئات منها مصطفة خارج محطات المترو وعلى الأرصفة؛ لكن عُمّال المدينة بدأوا مؤخراً في جمعها لنقلها بعيداً عن مسار الاستعراض. أما محاولة استئجار دراجة فردية فقد بات أمراً غير ممكن؛ فالدراجة لن تبرح مكانها.
جدير بالذكر أن ثمة تقارير سابقة تفيد بأن الصين استخدمت قواتها الجوية لضمان صفاء سماء العرض؛ فطائراتها تستطيع التلاعب بالطقس عن طريق إسقاط جزيئات صغيرة (مثل يوديد الفضة) في السحب؛ لتحفيز هطول الأمطار قبل يوم أو يومين، لضمان صفاء السماء لاحقاً. وقد سبق للسلطات الصينية استخدام تقنية الاستمطار خلال فترة الجفاف الشديد.
ولا شك في أنه من الصعب التكهن باستخدام هذا الأسلوب في العام الجاري؛ لكن خبراء الأرصاد الجوية يتوقعون سماءً صافية. ومن المعروف أن المسؤولين في بكين لن يُخاطروا باليوم المشهود للرئيس شي جين بينغ.