في موازاة التحركات الخارجية والداخلية في لبنان بموضوع سحب سلاح حزب الله، تدور معركة دبلوماسية كبيرة في نيويورك قد تغيّر المشهد في الجنوب اللبناني وتضاعف بشكل كبير التحديات التي تواجه الدولة اللبنانية في هذه المرحلة.
المسألة تتعلق بالتجديد لولاية قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في الجنوب اللبناني- اليونيفيل. بعد حوالي نصف قرن على تمركزها في تلك المنطقة، يبدو مصير هذه القوات غير محسوم: يريد لبنان بقاءها وتسعى إسرائيل لإنهاء وجودها.
سيحسم مجلس الأمن أمر هذه القوات يوم الاثنين خلال جلسة تصويت على تجديد مهامها. فلماذا كل هذا التجاذب بشأن هذه القوات؟
في موقع إطلاق صواريخ حزب الله، وفي آلية بيضاء مصفحة وكبيرة المعروفة في الجنوب بآليات "الأمم"٫ انتقلنا في دورية مع عناصر من الكتيبة الهندية إلى منطقة شبعا الحدودية.
"سترون أحد المواقع العسكرية لحزب الله"٬ قال لنا الرائد ر. س. بهانوكا - ضابط الإعلام العام وضابط التعاون المدني - العسكري في الكتيبة الهندية.
بعد نحو عشرين دقيقة على الطريق٬ توقفت الآليات واقتادنا الضابط سيرا على الأقدام داخل أحد الأحراج. كان الطريق صخرياً ودون أي معالم خاصة.
بعد بضع دقائق وصلنا إلى نقطة معيّنة مطوّقة بالأشجار وتتناثر فيها مقتنيات شخصية من أحذية وحرامات وطاسات وركوة قهوة وعبوات مياه.
قال لنا الضابط إن المكان الذي كنا نقف فيه هو مدخل نفق تابع لحزب الله وإنه تمّ اكتشاف سلالم حديدية موصولة فيه كان عناصر من حزب الله يستخدمونها للدخول إلى النفق والخروج منه.
ما رأيناه بأعيننا هنا يختلف عن الصور التي رأيناها من على هاتف الضابط والتي أظهرت نوعا من البنية الهندسية المتطورة.
"هكذا كان النفق عندما عثرنا عليه"٬ قال لنا.
رفض مشاركتنا الصورة وبقي المشهد الموجود هنا هو تلك الحفرة المطمورة والتي تتناثر حولها أغراض بدائية أساسية للحياة في الخفاء تحت الأرض وفي ظروف طبيعية ومناخية قاسية.
بدأ البحث عن هذا النفق في هذه المنطقة بناء على مشاهدات إطلاق الصواريخ من تلك البقعة أثناء الحرب الأخيرة بين حزب الله وإسرائيل.
"بعد وقف إطلاق النار تم تمشيط المنطقة خطوة خطوة حتى تمكنّا من تحديد المكان من خلال دوريات جوية وبرية. ففي هذه المنطقة الواسعة، من الصعب جداً العثور على موقع بعينه لا سيما أن النقطة نفسها كانت مخفية بشكل جيد جدا"، بحسب ما شرح لنا الضابط الهندي.
دلّنا الضابط أيضاً على موقع مجاور، يبعد بضعة أمتار فقط عن النفق المدمّر. قال إنه كان يُستخدم كغرفة عمليات عسكرية لحزب الله وهو ما يجعل مجمل المكان الذي اكتُشف نقطة عسكرية مهمة للغاية.
منذ توقيع اتفاق وقف الأعمال العدائية بين لبنان وإسرائيل في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بات البحث عن أي مواقع عسكرية لحزب الله من أبرز المهام التي تقوم بها اليونيفيل.
تندرج مهام اليونيفيل هذه في إطار القرار الأممي 1701 الصادر عام 2006 عقب انتهاء حرب الثلاثة وثلاثين يوماً بين حزب الله وإسرائيل والذي ينص على وجوب التأكد من خلو أي وجود عسكري بين الخط الأزرق ونهر الليطاني في الجنوب اللبناني، من غير الجيش اللبناني وقوات الأمن اللبنانية الرسمية وقوات اليونيفيل.
ويُعتبر الخط الأزرق خط الانسحاب الإسرائيلي من جنوبي لبنان في عام 2000 – وهو ليس حدوداً بين البلدين، إنما خط فاصل بينهما.
وبنتيجة ذاك القرار زاد حجم قوات اليونيفيل بشكل ملحوظ ليصل لأكثر من 11 ألف عنصر اليوم من أكثر من أربعين دولة.
أما عن آلية العمل المتفق عليها، فإن قوات اليونيفيل تبلّغ الجيش اللبناني عند عثورها على أي موقع عسكري أو عند رصدها خرقاً للقرار. في حالة نفق شبعا، قال الضابط إن الجيش اللبناني دمّره بعد أن أخذ الذخيرة التي كانت موجودة فيه.
لكن بالرغم من كل ما تتحدث عنه اليونيفيل باعتباره نجاحاً في تحقيق مهامها٬ لا تريد إسرائيل لها أن تواصل عملها.
فقد طلب وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر من نظيره الأمريكي ماركو روبيو، وقف عمل اليونيفيل، بحسب ما نقلت صحيفة "إسرائيل هيوم" التي أشارت إلى أن ساعر اعتبر أن "اليونيفيل فشلت في مهمتها الأساسية وهي منع تموضع حزب الله جنوبي نهر الليطاني".
وقد يكون الانتقاد الإسرائيلي الأخير لليونيفيل منطلق مما كشفته جبهة الإسناد التي فتحها حزب الله دعماً لغزة في 8 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023 من وجود عسكري متطور لحزب الله في منطقة جنوبي الليطاني.
في المقابل، تطول لائحة الخروقات الإسرائيلية للقرار الأممي ذاته التي وثقتها تقارير اليونيفيل على مدى السنوات السابقة، وليس أقلها الخرق المتكرر للأجواء اللبنانية من خلال طلعات جوية للجيش الإسرائيلي فوق لبنان وخرقه لجدار الصوت.
تأسيس اليونيفيل يعود لما قبل صدور القرار 1701 وحتى قبل نشوء حزب الله نفسه.
فهي تأسست عام 1978 عقب أول اجتياح إسرائيلي للجنوب اللبناني، بقرار 425 الصادر عن الأمم المتحدة والذي ينص من بين أمور أخرى، على مساعدة الحكومة اللبنانية في تأمين عودة سلطتها الفعلية إلى المنطقة وذلك بعد أن يكون الجيش الإسرائيلي قد انسحب منها.
لم تنسحب إسرائيل يومها ولم يمنعها وجود اليونيفيل من اجتياح بيروت عام 1982، ولا من استمرار احتلالها لمناطق شاسعة من لبنان لأكثر من عقدين من الزمن، حتى عام 2000.
تحوّل دور اليونيفيل بعد الانسحاب الإسرائيلي إلى تثبيت هذا الانسحاب ومراقبة الحدود وتسجيل الخروقات والعمل على تبديد أو إنهاء أي توتر يحصل عبر هذه الحدود. وقد عملت اليونيفيل مع السلطات اللبنانية والإسرائيلية على تحديد الخط الأزرق والعمل على حلّ النزاع على النقاط الخلافية بشأنه.
بعد حرب عام 2006 وصدور القرار 1701، شكلت اليونيفيل بين ذاك العام والعام 2023، آلية لخفض أي توتر أو فض نزاع بين الطرفين من خلال ما سُمّي باللجنة الثلاثية المؤلفة من مسؤولين عسكريين منها (اليونيفيل) ومن إسرائيل ومن لبنان.
وكانت هذه فترة الهدوء الأطول بين البلدين.
طوال كل هذه المراحل، كانت قوات اليونيفيل تعدّ تقارير دورية عن الوضع في الجنوب وعن انتهاكات القرارات الدولية من الجانبين.
في هذا الإطار شكّل وجود هذه القوات شاهداً دولياً على كل ما يحدث في الجنوب اللبناني ووثّق احتلالاً واجتياحات وخروقات وتعدّيات، لم يتمكّن بحكم مهامه المحدودة من منعها، ولكنه بقي مرجعاً دولياً بشأنها.
وهذا ما قد يفقده لبنان، من بين أمور أخرى، في حال إنهاء مهام هذه القوات.
سيكون من التداعيات الأخرى لذلك، ترك الجيش اللبناني وحيداً بمواجهة أي أعمال عسكرية عبر الحدود، وفقدان أي قناة اتصال تساهم في تسهيل بعض الأمور أو تخفيف الاحتقان بين الطرفين، في وقت لا اتصال مباشر أبداً بين إسرائيل ولبنان الذي يعتبر جارته الجنوبية عدواً رسميا.
كما أن ذلك قد يحصل في توقيت حساس جداً للجيش اللبناني الذي يفتقر لأدنى مقومات المواجهة وللتجهيز المناسب عديداً وعتاداً، ولا يزال في أولى مراحل بسط سيطرته الكاملة على الجنوب اللبناني وذلك بعد حرب دمّرت خلالها إسرائيل بلدات بأكملها هناك وانتهت بتكليف الجيش نزع أي سلاح لحزب الله وغيره من المنظمات المسلحة في البلاد.
بالإضافة إلى كل ما سبق، فإن اليونيفيل شكّلت وبحُكم وجودها في الجنوب اللبناني لنحو خمسة عقود قوّة اقتصادية محلية لمجتمعات الجنوب. فبالإضافة إلى عناصرها العسكريين، يعمل نحو 800 موظف مدني مع اليونيفيل، 250 من بينهم أجانب والبقية لبنانيون.
سيكون هذا العنصر أيضاً في حسابات الخسارة للبنان في حال انتهت مهمة اليونيفيل.
التحديات التي تواجهها هذه القوة الدولية ترتبط أيضاً بالواقع العام لقوات حفظ السلام في العالم، خصوصاً بعد قرار الولايات المتحدة تجميد مساهماتها المالية. فواشنطن تغطي نحو 30% من ميزانية اليونيفيل، المقدّرة بحوالي نصف مليار دولار سنوياً.
وبذلك، حتى لو جرى التصويت على تمديد بقاء هذه القوات في لبنان، فإنها ستُجبر على خفض عديدها وأنشطتها ما لم تحصل على تمويل بديل من دول أخرى، وهو أمر بالغ الصعوبة.
في البداية هناك طبعاً خيار الأبيض والأسود، بمعنى أنه إما يتمّ التجديد للقوات الدولية بصلاحياتها ومهامها الحالية أو إلغاء وجودها.
هناك أيضا مقترح آخر يتم التداول به في الكواليس الدبلوماسية والسياسية، من بينها أن يكون التجديد لمرة أخيرة ولمدة عام أو ستة أشهر مع خفض تدريجي لمهمة اليونيفيل وصولاً إلى إنهائها بالكامل. يترافق ذلك مع تعزيز كبير لدور الجيش اللبناني في الجنوب.
تناقلت تقارير مقترحاً آخر يقضي بتجديد ولاية اليونيفيل، ولكن مع تقوية صلاحياتها، لا سيّما في ما يتعلّق بحرية حركتها أي من دون مرافقة من الجيش اللبناني وهذا أمر ممنوح أصلاً لها ولكنه يخضع أحياناً لاعتبارات محلية بحيث لا تستفز الدوريات أهالي البلدات الجنوبية ولا تتحوّل إلى مصدر توتر.
إذ تنتشر أحياناً فيديوهات لأهالي يعترضون دوريات أو يصطدمون مع عناصر من القوات الدولية وسط اتهامات لهم بالتعدّي على أملاك خاصة أو العمل لصالح إسرائيل أو لأن الدورية ليست برفقة الجيش اللبناني رغم أنه ليس فرضاً على اليونيفيل.
وبالرغم من أن حوادث مشابهة تبقى محدودة للغاية، إلا أنها تُظهر حساسية عمل هذه القوات في بعض الأحيان ومشاعر البعض في المناطق الحدودية تجاهها.
يبقى مقترح آخر تم التداول به بشكل غير رسمي وهو تعزيز صلاحيات اليونيفيل بشكل يسمح لها باستخدام القوة أي تغير طبيعتها من قوة أنشأت لحلّ أي نزاعات بطريقة سلمية استناداً إلى الفصل السادس في الأمم المتحدة إلى قوة يسمح لها باستخدام القوة العسكرية استناداً إلى الفصل السابع. أي دفع في هذا الاتجاه قد يخلق عدائية كبيرة في لبنان ضد أي قوات مشابهة.
ماذا سيحدث مع اليونيفيل في جلسة التجديد لمهامها في الخامس والعشرين من الشهر المقبل؟ قد يحمل الجواب على هذا السؤال جزءاً من اللغز الأكبر الذي يؤرق اللبنانيين: ماذا سيحدث في البلاد؟ وما توجهات القوى الأساسية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، حليفة إسرائيل، بشأنه؟