في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
الموصل- تنتظر الحاجة أم أيمن (66 عاما) بفارغ الصبر والدموع تسيل من عينيها ما ستؤول إليه الجهود التي بدأتها الحكومة العراقية في التنقيب والكشف مؤخرا عن أكبر مقبرة جماعية في العراق خلَّفها تنظيم الدولة الإسلامية في محافظة نينوى شمالي البلاد.
الأم المكلومة التي اعتقل التنظيم نجلها "أيمن" من منزله في حي وادي حجر بالجانب الأمني لمدينة الموصل نهاية 2014، كانت قد علمت بمقتله على يد التنظيم بعد أن نشر الأخير في أغسطس/آب 2015 قوائم بأسماء 2070 ضحية بينهم نجلها دون استلام ذوي الضحايا جثث القتلى.
وعادت الآمال لأم أيمن من جديد، وتقول للجزيرة نت إنها تأمل العثور على جثة نجلها وإعادة دفنه في مقبرة العائلة لتتمكن وزوجته وأطفاله من زيارة قبره بعد 10 سنوات على اعتقاله وإعدامه.
وثمة آلاف العراقيين في نينوى يحذوهم الأمل، ومنهم أم أيمن، وهم يترقبون الكشف عن المقبرة وانتشال الرفات ومطابقتها جينيا للتخفيف من وطأة الفقدان والحزن الذي كابدهم طيلة السنوات السابقة.
وتعرف الخسفة أو المشهورة محليا بـ"الخفسة" بأنها حفرة جيولوجية عميقة تقع على بعد نحو 20 كيلومترا جنوب شرق الموصل (مركز محافظة نينوى) العراقية، وتعد واحدة من المقابر الجماعية التي استخدمها تنظيم الدولة لتغييب جثث ضحاياه فيها خلال سيطرته على الموصل بين يونيو/حزيران 2014 ويوليو/تموز2017.
ويقول محافظ نينوى عبد القادر الدخيل، إن مقبرة الخسفة تعد جريمة يندى لها العقل والضمير، واصفا إياها بـ"جرح نينوى الغائر"، وبين أن التنظيم كان قد أعدم في يوم واحد فقط أكثر من ألفي مواطن من أهالي الموصل، بينهم 600 من حي وادي حجر.
وأوضح الدخيل -خلال مؤتمر صحفي حضره مراسل الجزيرة نت- أن حكومة نينوى المحلية بدأت المرحلة الأولى لفتح مقبرة الخسفة بالتعاون مع مؤسسة الشهداء ودائرة المقابر الجماعية، وأن جامعة الموصل تعد حاليا دراسة جيولوجية للمقبرة للتعرف على جميع الرفات، وأن حكومته ستنشئ نصبا تذكاريا للمقبرة وما حصل فيها من مجازر مروعة، بحسب وصفه.
وبالرغم من أن العمليات العسكرية لاستعادة الموصل من تنظيم الدولة كانت قد اكتملت في يوليو/تموز 2017، فإن عمليات التنقيب في المقبرة تأخرت سنوات عديدة، وهو ما يبرره رئيس مكتب مفوضية حقوق الإنسان في محافظة نينوى، ياسر ضياء سعيد، بأن اللجان التي تشكلت منذ 2017 للكشف والتنقيب في المقبرة، توصلت لوجود صعوبة بإدخال الآليات والفرق الفنية للمقبرة دون دراسات مسبقة ودقيقة.
وأوضح سعيد للجزيرة نت أن قُطر المقبرة يصل لنحو 35 مترا مربعا وبعمق يقدر بنحو 90 مترا، فضلا عن طبيعة أرض المقبرة غير المستقرة وهي عرضة للتخسُّف والانجراف بسبب الطبيعة الجيولوجية الكلسية والجيرية للأرض، مما يشكل خطرا محدقا بالفرق الفنية والآليات المستخدمة في الكشف عن المقبرة نتيجة إمكانية انجراف التربة لقعر المقبرة مع تسجيل انبعاث غازات سامة قاتلة منها.
وأكد أن وجود مياه جوفية كبريتية متحركة تحت مركز المقبرة أخَّر التنقيب فيها، وبالتالي تواجه الفرق الفنية صعوبة بالغة، حيث تذيب هذه المياه الرفات وتجرفها عبر السيول الجوفية الممتدة لعدة كيلومترات باتجاه ينابيع حمام العليل الكبريتية، إضافة لتشويه معالم المقبرة، بعد أن أقدم تنظيم الدولة في 2015 على ردمها، بعد نفثها لروائح الجثث المتفسخة وانتشارها لعدة كيلومترات، مما أسهم بإخفاء وزيادة صعوبة التنقيب.
من جهته، يقول رئيس فرق التنقيب عن المقابر الجماعية في العراق أحمد قصي الأسدي، إن بداية الكشف الفني عن المقبرة كان عام 2017، لكن التنقيب الفعلي بدأ في 17 أغسطس/آب الجاري، وبالتعاون مع المنظمات الدولية كاللجنة الدولية لشؤون المفقودين "آي سي إم بي" و اللجنة الدولية للصليب الأحمر .
وأكد الأسدي للجزيرة نت، أن المرحلة الأولى تضمنت رفع رفات بعض الضحايا الموجودة قرب سطح المقبرة، مع إرسال العينات إلى بغداد لفحصها ومطابقتها جينيا عبر إجراء فحوصات الحمض النووي "دي إن إيه".
وأشار إلى أن الخطوة القادمة ستكون بعد إكمال جامعة الموصل لدراستها الجيولوجية للمقبرة، والتي تستغرق ما لا يقل عن 3 أشهر، سيما أن المعلومات تؤكد وجود مياه كبريتية جارية أسفل المقبرة، إضافة لتدخل الجهد الهندسي العسكري بعد ورود معلومات بأن تنظيم الدولة كان قد ألقى عبوات ناسفة غير منفجرة مع الضحايا، مما يتطلب تدخلا من الدفاع المدني والمنظمات الدولية.
وحول أعداد الضحايا، يستأنف الحقوقي سعيد قائلا "هناك شهود عيان كثيرون أكدوا وجود مقابر جماعية بمناطق عدة في نينوى، سواء لإعدام سجناء سجن بادوش أو في حالات إعدام أبناء المكون الإيزيدي، مما أسهم بتقدير أعداد الضحايا".
ويضيف "بيد أن مقبرة الخسفة بعيدة عن التجمعات السكانية ولم يُبلِّغ تنظيم الدولة ذوي الضحايا بأن أبناءهم ألقوا فيها، مما يزيد من صعوبة تحديد أعداد الضحايا وهوياتهم دون الكشف الدقيق والتنقيب".
وفي حصيلة تقديرية، يشير سعيد إلى وجود تقديرات أولية غير دقيقة لأعداد الضحايا وذلك استنادا لما كانت قد أعلنته مديرية الطب العدلي في محافظة نينوى عام 2015 -التي كانت تحت سيطرة التنظيم- حيث تم نشر قوائم بأسماء 2070 ضحية أعدمهم التنظيم.
ويؤكد أن فتح المقبرة وبدء الكشف عنها يعد خطوة في المسار الصحيح لإنصاف الضحايا وذويهم، خاصة أن المقبرة كانت مسرحا لجرائم وإعدامات اقترفتها التنظيمات المتطرفة بين عامي 2004 و2014 في هذه المنطقة، حينما كان الوضع الأمني في نينوى غير مستقر.
اليوم.. باشرت الحكومة المحلية في محافظة نينوى، بفتح حفرة "الخسفة" التي اتخذها تنظيم داعش مقبرة له لرمي جثث من يقوم بإعدامهم أبان سيطرته على مدينة الموصل. تم العثور على رفات عدد من الضحايا، وهم معصوبو الأعين. الرحمة لهؤلاء الشهداء، ولأهاليهم الصبر.. والعظة والعبرة للعالم أجمع. pic.twitter.com/hE87eZdYhF
— عيسى المرزوقي (@EisaAlmarzooqi_) August 17, 2025
ولا يبدو سعيد متفائلا في العثور على رفات جميع الضحايا بسهولة، وذلك نتيجة ذوبانها وانجرافها تحت الأرض، وهو ما تؤكده فرق فنية دولية، وكذلك صور الأقمار الصناعية، وفق قوله.
أما الأسدي، فيؤكد أنه لا توجد إحصائية دقيقة لأعداد الضحايا، إلا أن المعلومات الأولية تشير لوجود جثث آلاف الضحايا بهذه المقبرة التي قد تعد الأكبر في العراق، مبينا أن هناك مئات من الضحايا من منتسبي القوات الأمنية من مختلف المحافظات العراقية كانوا قد أعدموا وألقى التنظيم بجثثهم في هذه المقبرة.
وعن المدة التي قد تستغرقها عمليات التنقيب في المقبرة، يقول سعيد، إن الفرق الفنية تحتاج لمدة لا تقل عن عام أو اثنين، موضحا أن خبراء في جامعة الموصل اقترحوا الشروع بالعمل على فتح بئر على بعد 3 كيلومترات من المقبرة باتجاه ينابيع حمام العليل جنوب الموصل لاتخاذه كمُرشِح (فلتر) للمياه الجوفية التي تمر من المقبرة باتجاه الينابيع للكشف عن رفات الضحايا وضمان سلامة الفرق الفنية التي يصعب عليها النزول لباطن المقبرة.
ويتابع أن عمليات الكشف عن المقبرة قد تستغرق عدة سنوات، لا سيما مع الصعوبات الفنية والافتقار للمعدات التقنية التخصصية، فضلا عن صعوبة مطابقة رفات الضحايا، ووجود مختبر واحد فقط لمطابقة الحمض النووي ويقع في مدينة الطب بالعاصمة بغداد.
إرث كبير خلفه احتلال تنظيم الدولة للموصل، إذ وبعد قرابة 8 سنوات على استعادة نينوى من التنظيم، استطاعت الفرق الفنية إحصاء 201 مقبرة جماعية فيها، مع الكشف والتنقيب عن 130 منها فقط في سنجار وتلعفر وجنوب الموصل بانتظار التنقيب عن 71 مقبرة أخرى لا يزال ذوو ضحاياها بانتظار رفات ذويهم.