التحوّل من هامش أمني إلى جبهة حيوية
على مدى عقود، كان امتداد الحدود الروسية الفنلندية الذي يبلغ نحو 1340 كلم من أطول وأكثر الجبهات هدوءًا في أوروبا. إلا أن انضمام فنلندا رسمياً إلى الناتو في أبريل 2023 شكّل قطيعة مع الحياد العسكري، وطية لانكشاف وسيطرة الحلف على دروب بحر البلطيق المجاورة.
إشارات عسكرية متسارعة
ما الذي يجعل فنلندا تهديدا استراتيجيا لروسيا؟
الانضمام إلى الناتو لم يكن مجرد خطوة رمزية، بل تحولا استراتيجيا. فمن بحر البلطيق إلى القطب الشمالي، باتت فنلندا جزءًا لا يتجزأ من شبكة مراقبة وسيطرة للحلف، مباشرة على عمق المناطق الاستراتيجية الروسية.
بحر البلطيق و"بحيرة الناتو"
بحر البلطيق اليوم محاصر تقريبا بأساطيل وموانئ الناتو المنتشرة في السويد والدنمارك وبولندا ودول البلطيق، ما جعل الأسطول الروسي في سانت بطرسبورغ محصورًا وبدون عنصر مفاجأة، خصوصًا مع أنظمة سونار متطورة وتحليق للطائرات المسيّرة فوق المنطقة.
شبه جزيرة كولا: قلب الردع النووي الروسي
تبعد إلى حوالي 100 كلم من الحدود الفنلندية مركز واتكاز الرعب النووي الروسي: قاعدة غواصات "بوراي" النووية، والصواريخ الباليستية العابرة للقارات، بالإضافة إلى طائرات "تو 160" الأسرع عالميًا.
يضيف مصدر قلق استراتيجي آخر: أن الطريق السريع R 21 وسكة حديد تغذي هذه القواعد تمران على نفس المسافة من الحدود، مما يضعهما في مرمى الضرب المحتمل من قوات الناتو.
"بوسيدون": الردع النفسي في عمق البحار
وسط تحركات الناتو، استعملت روسيا ورقة الردع الأخيرة: طوربيد "بوسيدون" النووي، القادر، حسب وجهة النظر الروسية، على السفر آلاف الكيلومترات تحت الماء لإحداث تسونامي نووي على الشواطئ المستهدفة، عبر الغواصة " بيلغورود".
رغم أن استخدامه يبدو خيارا مستحيلا حاليا، فإن الإعلان عن قدرته وحده يرسل تحذيرا مباشرا للغرب بعدم الاقتراب من حدود الردع النووي الروسي.
فنلندا: المأهولة المستعدة دون استفزاز
في المقابل، تتعامل فنلندا مع التصعيد الروسي بعقلانية: تعزيز دفاعي من دون استفزاز مباشر.
صوت على الخريطة
في مداخلته ضمن برنامج "على الخريطة" على سكاي نيوز عربية، أوضح آصف ملحم، مدير مركز GSM للدراسات، أن العسكرة تمتد من بحر البلطيق حتى المحيط المتجمد الشمالي من كلا الطرفين، وليس من موسكو وحدها، مشيرا إلى مركز أمريكي جديد للعمليات الجوية في شمال النرويج، واستخدام قواعد فنلندية للطائرات المسيّرة لمراقبة الحدود. وأضاف أن الخطر الحقيقي ليس فقط في التصعيد العسكري المباشر، بل في استفزاز الفوضى الإثنية – تحديدًا بين الكاريليين، الذين يقطنون جانبي الحدود، باستخدام تحريض تاريخي وقومي لزعزعة الاستقرار دون حرب تقليدية كاملة.
الأبعاد الإثنية: لغم قائم لا يُظهر خارجه
يشكّل البُعد الإثني، تحديدا إثنية "الكاريليين"، مجال تفكير لموسكو. توجد حركات قومية تدعو إلى انفصال المناطق الكاريليية، وتم نقل قادتهم إلى الاحتواء الروسي بعد عودتهم من نشاط سياسي في الخارج.
ولذلك، يرى ملحم أن الألعاب الإثنية المنظمة على الأرض قد تكون أداة تشتت للمواجهة التقليدية، وتدخل في إطار "الحروب الهجينة" التي لا تتطلب استخدام السلاح، لكنها تحوّل الحدود إلى بؤر توتر داخلي.
هل تصبغ هذه المواجهة بطابع الحرب التقليدية؟
رغم كل تلك الاستعدادات، لا يبدو أن الناتو وروسيا في مسار حرب تقليدية وشيكة. عدة عوامل مثل التكلفة المادية والبشرية، والخشية من الانزلاق النووي وفقدان السيطرة، تعمل كحواجز ردع قوية.
لكن التحول من هدوء إلى مواجهة غالبا لا يتطلب وقتا طويلا، فقد بدأ بـ خطأ محسوب أو حادث صغير. تشير دراسة حليف الناتو "راند" إلى أن روسيا كانت في 2016 قادرة على اجتياح دول البلطيق خلال 60 ساعة، لكن الوضع اليوم أكثر تعقيدًا بفعل انتشار الناتو في خطوط عمق روسيا الشمالية.
ساحة على صفيح قطبي بارز
ما يحدث على الحدود الفنلندية الروسية لا يختزل في أمن فنلندي أو روسي فقط، بل يحمل انعكاسات للموازين العسكرية في بحر البلطيق والقطب الشمالي. تصعيد يُدار بعقلانية من فنلندا، وتردّد وارد من موسكو إن غُيّرت المعادلات، ما يجعل هذا الشريط الجغرافي لا مكان للاختباء من خطر محتمل.
يمكن القول إن الحدود اليوم تحوّلت إلى قضيب يستند عليه الثلج الهش لأمن أوروبي جديد، يتهدده زلزال سياسي أو استراتيجي... وقد لا يكون بعيدا.