آخر الأخبار

مراسل الجزيرة نت: الحياة تفلت من أيدينا بسبب التجويع

شارك

غزة- "الجوع لا ينهش جسدي فقط، بل يعبث بعقلي وذاكرتي أيضا، فقد أصبحت هيكلا لرجل كان مفعما بالأمل والحياة، لقد بلغ مني الجوع مبلغه، ولا أبالغ إن قلت إنه تمكن مني وأفقدني قوتي واستحكم في قدراتي، وهزم روحي ويحاول نزع كرامتي وإنسانيتي".

هذه تفاصيل يرويها مراسل الجزيرة نت في قطاع غزة إياد القطراوي، عن تجربته الشخصية مع كارثة التجويع الإسرائيلية بحق أهالي القطاع الفلسطيني المنكوب:

لم أذق طعاما يقيم صلبي منذ أيام طويلة، أصبحت أشعر بالخجل من نفسي، من جوعي، من يديّ الفارغتين، فالجوع سلبني الإحساس بالأمن، وحولني من إنسان طبيعي إلى مخلوق يبحث فقط عن البقاء.

وفي الأيام الأخيرة، أصبحت أقل تركيزًا، أجدني أردد نفس الجُمل، أنسى أين وضعت أشيائي، وأتضايق من أتفه الأمور، ليس لأنني متوتر بل لأنني جائع، جسدي هزيل، وذهني مشلول وعقلي عاجز عن التفكير، أشعر بالعجز، ولا أملك سوى النظر إلى أطفالي الجائعين، دون حول لي أو قوة، فما فائدة أن أكون أبًا ولا أستطيع أن أطعم أبنائي أوأوفر كسرة خبز لهم؟

بين الأمس واليوم

لا أستطيع أن أعبر عما يجول في خاطري، عما حل بي وبأسرتي نتيجة حصارنا وتجويعنا، فأنا بشر من لحم ودم كغيري من أبناء شعبي المُجّوع، أجوع كما يجوع الناس. لا أملك رفاهية الحزن عليهم، لأني حزين قبلهم على نفسي، حزين على زوجتي وأبنائي، وحزين قبلهم على أمي المسنة التي لا تقوى على القيام والحراك بسبب الجوع وقلة الطعام.

فأنا وعائلتي وبقية شعبي في غزة مجوعون بالحصار والإغلاق، مجوعون بالغلاء، مجوعون بعصابات ومافيا سرقة المساعدات، وبلطجية التجار والمحتكرين.

وفي حارتي (بلوك 5) في مخيم النصيرات وسط قطاع غزة، والتي كانت تضجُّ بأصوات الباعة، وأصوات الأولاد يركضون خلف الكرة، لقد صارت اليوم كئيبة يائسة، وجوه الناس شاحبة، والعيون تبحث في الأرض أكثر مما تنظر إلى السماء، أنهكهم الجوع، وسرَق من أفواههم الضحك ومن قلوبهم الأمل، باتت خطواتهم مثقلة، كأنهم يمشون على أشواك، وكلٌّ منهم يحمل ألم الجوع وقهر الحاجة.

إعلان

والأطفال لم يعودوا يركضون خلف الكرة، بل صاروا يركضون خلف السراب، خلف أمنيات بسيطة كقطعة خبز أو طبق عدس، وعيون آبائهم وأمهاتهم تدمع بصمت، تخبّئ دمعتها عن صغارها كي لا يروا في عينيها مرارة العجز.

وفي الأمس القريب، كانت حارتي تغنّي بصوت الحياة، تفوح منها رائحة الخبز الساخن، والطعام اللذيذ وراحة البال، أما اليوم فالصمت أصبح يلفُّها ككفن، حتى الهواء صار يمرّ خجولًا بين الأزقة، يخشى أن يوقظ الألم الساكن في النفوس.

مصدر الصورة القطراوي يتساءل: ما فائدة أن أكون أبًا ولا أستطيع أن أطعم أبنائي؟ (الجزيرة)

جولة في السوق الفارغ

بينما أنا أبحث في السوق عن الطحين والخبز، مررت بسيدة تجلس قرب باب تكية، تهمس لنفسها بدعاء، وهي تحمل بيدها وعاء فارغا، تنتظر الحصول على بعض الطعام، وقلت في نفسي علها تكون أكثر حظا مني فقد تحظى ببعض الطعام.

والتقيت بصديق لي استغربت من ملامحه وكأنه شخص آخر، فالجسم هزيل جدا، والوجه كئيب، والعينان زائغتان، قال لي "لقد فقدت 30 كيلوغراما من وزني" في الحقيقة لم يكن بحاجة لتأكيد ذلك لي، فهيئه توحي بما يقول.

وسألته عن حاله فأجابني "حالي كحال كثيرين من الجوعى" ولم يزد، فهمت مقصده، فزدت عليه بالسؤال: ماذا تفعل؟ قال لي "أبحث عن كيلو طحين أو عدس أو كيس معكرونة، لأسد رمق أطفالي فلم أجد" فحزنت على حاله وحالي وافترقنا جائعين.

واستوقفني طفل صغير يطلب مني مساعدة (من المال) ليشتري بها شيئا يأكله، فقلت له وكيف سيفيدك المال وأنت لا تجد في السوق ما تشتريه؟ وكم ستحتاج من الرجال للحصول منهم على مساعدة لتشتري قطعة معجنات أو رغيف خبز وصل ثمنه بسبب التجويع في غزة وغلاء الطحين لأكثر من 5 دولارات.

وطُفت على الباعة المتجولين، بل "السماسرة المجرمين، سارقي المساعدات وقوت الناس" وأنا أبحث عن طحين مسروق وعدس مسلوب أو معلبات أو أي شيء نأكله، فصعقت من هول ما سمعت، أسعار فلكية وكأننا في كوكب آخر أو زمن لا ينتمي لنا، تركتهم وعدتُ إلى بيتي منهزما، كجندي أعياه القتال، أجرّ خطاي في صمت ثقيل، وخيبة ملأت السلة الفارغة التي أمسكها بيدي.

وكنت قد خرجت آملاً بالظفر بلقمة تسدّ الجوع، أو طحينا يعيد شيئًا من الحياة إلى معدتي الخاوية، لكن السوق لم يرحم معدتي ولا جيبي، الأسعار تعلو، واليد عاجزة، والحيرة أطول من الطريق.

إلى متى؟

عدت خالي الوفاض، لا طعام ولا حتى أمل، سوى قرع معدتي المتواصل، يذكرني بفشلي، فتحت الباب ببطء، وكأنني أعتذر للجدران على خواء السلة التي كنت أرجو ملأها، وجلست بصمت أنظر لأبنائي بألم كبير، وأعد خيباتي كأنها عملات لا تصرف.

وفي خيمتي الفارغة من كل شيء، من الطحين والطعام والماء، جلست بين أبنائي أنظر لوجوههم الشاحبة وأجسادهم المتعبة، وعيناي تدمعان، قبل أن أنهار باكيا على حالنا الذي وصلنا اليه، وتذكرت حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال "من بات آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فقد حيزت له الدنيا".

وقلت في نفسي صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما عاد الأمن يظلل بيوتنا وخيامنا، ولم تعد أجسادنا بعافيتها، ولم نعد نملك قوت يومنا، ولا مصدر رزقنا، وأيقنت بأن هذه الدنيا بمن فيها لا تملك توفير لقمة لبطن جائع.

إعلان

ولا أكذب إن قلت لكم إنه يمرُّ علينا اليوم واليومان، وربما أكثر، دون أن يدخل إلى معدتنا طعام، سوى ما تسكّنه جرعة ماء، وأمضي الليالي وأسرتي نُمنّي أنفسنا بلقمة، نحاول الصبر والصمود، لكن الحقيقة أننا نذوب كل يوم من الداخل، نجلد أنفسنا بالصبر، ونخاف أن يخذلنا حتى هذا الصبر.

فالجوع أرهق قلوبنا، وأنهك أجسادنا، وسرق منا كرامتنا وإنسانيتنا، وزرع في روحنا سؤالًا مريرًا: إلى متى؟ ولا نجد ما يطمئن نفوسنا وقلوبنا سوى آيات من القرآن الكريم "وَلنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمَرات وبشر الصابرين" أو قصص من السيرة النبوية عندما ربط الصحابة أحجارا على بطونهم من شدة الجوع.

وفي غمرة هذه المعاناة الحارقة، نبتسم لأطفالنا، نرسم الأمل على وجوههم الذابلة، كي لا يروا في ملامحنا أن الحياة بدأت تفلت من بين أيدينا، وأننا صرنا نقاوم لا لنعيش نحن، بل لنبقيهم هم على قيد الحياة.

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك


حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا