غزة- يشعر إبراهيم اصليح بالعجز والقهر وهو يقف يوميا أمام العشرات من جثامين الشهداء في مجمع ناصر الطبي بمدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة ولا يجد أكفانا، أو أكياسًا بلاستيكية لجمع الأشلاء وتحضيرها للدفن بكرامة.
واضطر اصليح ومتطوعون في جمعية "قيراطان الخيرية" لاستخدام أقمشة وأغطية بالية بديلا عن الأكفان، لمواراة الأعداد الهائلة من الشهداء والموتى في مغاسل المستشفيات التي تشرف عليها الجمعية.
وأطلقت الجمعية مناشدة إنسانية عاجلة حذَّرت فيها من أزمة حادة تعاني منها جرَّاء نفاد شبه تام للأكفان والنايلون العازل، ونقص في مواد التنظيف والتعقيم، وشح كبير بالأدوات الصحية وحتى أكياس القمامة، تنذر بخروج جميع مغاسل الشهداء والموتى المنتشرة في مستشفيات القطاع عن الخدمة.
ويقول اصليح للجزيرة نت، إن المغاسل ستخرج فعلا عن الخدمة خلال 5 أيام فقط، ما لم يتم التدخل عاجلا لتوريد الأكفان والأكياس والاحتياجات الأساسية.
ومنذ فبراير/شباط الماضي لم يُدخل الاحتلال الإسرائيلي مستلزمات المغاسل. ويقول اصليح الذي يعمل متطوعا بهذا المجال منذ 2009، إن "هذه أصعب فترة أعمل بها على مدار 16 عاما، وشهدتُ خلالها كل الحروب على غزة".
وتعمَّقت أزمة المغاسل إثر افتتاح مراكز توزيع المساعدات التابعة ل مؤسسة غزة الإنسانية ، المدعومة أميركيا وإسرائيليا، والمرفوضة من هيئات فلسطينية ودولية تتفق على وصفها بـ"مصايد موت"، نتيجة الاستهداف المباشر وإزهاق أرواح مئات الفلسطينيين من طالبي المساعدات.
وتشير بيانات "المكتب الإعلامي الحكومي" في غزة، إلى أن أكثر من 900 شهيد، ونحو 6 آلاف جريح، و42 مفقودا، هم حصيلة ضحايا مراكز المساعدات الأميركية، في أوساط المجوّعين والباحثين عن الغذاء لمواجهة مجاعة مستشرية تفتك بنحو مليونين و300 ألف نسمة.
ويقدّر اصليح أن مغسلة مجمع ناصر الطبي تستقبل يوميا بين 35 و100 شهيد منذ افتتاح مراكز المساعدات في 27 مايو/أيار الماضي.
ويقول "لا نستطيع مواكبة هذه الأعداد الهائلة من الشهداء، إضافة إلى موتى الوفيات الطبيعية، ونضطر للطلب من الأهالي إحضار أقمشة وأغطية بالية لاستخدامها بديلا عن الأكفان".
وترفض الأمم المتحدة الخطة الإسرائيلية لتوزيع المساعدات، وترى أنها تفرض مزيدا من النزوح، وتعرّض آلاف الأشخاص للأذى، وتَقْصر المساعدات على جزء واحد فقط من غزة ولا تلبي الاحتياجات الماسة الأخرى، وتقرن المساعدات بأهداف سياسية وعسكرية، كما تجعل التجويع ورقة مساومة.
ويتولى اصليح إدارة الشؤون الإدارية والمالية في الجمعية، ويوضح: "بهدف تأجيل لحظة الانهيار والخروج عن الخدمة قمنا بترشيد استخدام الأكفان، وبدلا من تكفين المرأة بـ5 قطع، والرجل بـ3 قطع، اعتمدنا التكفين بقطعة كفن واحدة فقط".
ويرى في هذه البدائل الطارئة "امتهانا لكرامة الشهيد والمتوفى"، ويقول "نواجه مواقف أكثر صعوبة وتعقيدا مع الشهداء الذين يصلون إلينا أشلاء مقطعة ونعاني نقصا حادا في الأكياس البلاستيكية لجمع هذه الأشلاء وتجهيزهم للدفن".
وبدوره، يجزم رئيس جمعية "قيراطان الخيرية" أحمد أبو عيد، أن "غزة لم تمر في تاريخها بأزمة أسوأ من الأيام الحالية التي لا نجد فيها أكفانا أو حتى أكياسا من النايلون لتكفين موتانا وجمع أشلاء شهدائنا".
وبألم شديد يقول أبو عيد للجزيرة نت "هنا في غزة الكريمة لا يجد الأحياء لقمة عيش، ولا يجدون حتى بعد موتهم -جوعا وقهرا- كفنا يسترهم ليدفنوا بكرامة، حتى ضاق عليهم باطن الأرض كما ظاهرها".
ويعمل في "قيراطان الخيرية" 110 متطوعين، بينهم 40 امرأة. ووفقا لرئيسها أبو عيد، فإن "العمل يبدأ من 6 صباحا وحتى مغيب الشمس، وسط ظروف قهرية، حيث الجميع جوعى ومنهكون".
ويتساءل أبو عيد قائلا "هل يتخيل العالم كيف يعمل متطوعون بلا أجر كل هذه الساعات الطويلة وبطونهم خاوية يعانون المجاعة، ويتعرضون لمواقف قاسية؟".
ويتابع "قوافل لا تتوقف من الشهداء، وجثث بلا رؤوس، وأخرى مقطعة ومحروقة، وروائح كريهة تنبعث من أجساد متحللة منع الاحتلال انتشالها لفترة طويلة، ولا يتوفر لدينا حتى مواد التنظيف والتعقيم".
وتتحمل مغسلة مجمع ناصر الطبي العبء الأكبر، جراء الأعداد الهائلة من الشهداء يوميا، خاصة في أوساط المجوَّعين وطالبي المساعدات على أعتاب مراكز "مؤسسة غزة الإنسانية" الواقعة في مناطق خاضعة لسيطرة جيش الاحتلال في نطاق مدينة رفح .
ويقول أبو عيد إن "مغسلة ناصر" تعد الوحيدة التي تعمل حاليا بكامل طاقتها، فيما خرجت مغاسل مستشفيات "غزة الأوروبي" في مدينة خان يونس، و"أبو يوسف النجار" في مدينة رفح التي أصبحت محتلة بالكامل، إضافة لمستشفيَيْ "الإندونيسي" و"كمال عدوان" بشمال القطاع، عن الخدمة كليا، بسبب نسف الاحتلال لبعضها وحرقه للآخر، أو لتعذر الوصول إليها لوقوعها ضمن مناطق الإخلاء والسيطرة العسكرية الإسرائيلية.
ويحذِّر أبو عيد من "كارثة إنسانية وبيئية محققة توشك على الوقوع قريبا حال توقفت باقي المغاسل عن الخدمة". ويتساءل قائلا "كيف سيتم التعامل مع مئات الشهداء والموتى يوميا؟، وكيف سيتم تجهيز الجثث المقطعة والمتحللة للدفن؟".