في مشهد سوري مأزوم، تبرز محافظة السويداء اليوم كنقطة اشتعال متقدمة في سياق الأزمة السورية المعقدة، وسط تصعيد غير مسبوق بين الفصائل الدرزية والعشائر البدوية، وتوترات إقليمية متزايدة تُنذر بإعادة تشكيل الخرائط الميدانية والسياسية في جنوب البلاد.
وفي ظل هذا التصعيد، تتشابك خيوط الداخل بالخارج، فيما تقف الولايات المتحدة في موقف المرتبك بين التحالفات الإقليمية، وخصوصا مع إسرائيل، ومساعي الحفاظ على قدر من الاستقرار.
غضب في الميدان ومواقف متباينة في العواصم
في الوقت الذي تنفجر فيه التوترات ميدانيا في محافظة السويداء، تحاول العواصم الفاعلة، من واشنطن إلى تل أبيب، ومن دمشق إلى موسكو، الإمساك بخيوط لعبة معقدة، تداخلت فيها الحسابات الأمنية بالعقائدية، والعوامل التاريخية بالمصالح الاستراتيجية.
وفي هذا السياق، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية بيانا يدين العنف في السويداء، لكنها كما أشار موفق حرب، محلل الشؤون الأميركية في "سكاي نيوز عربية"، تبنّت توصيفا مثيرا للجدل، باعتباره "صراعا تقليديا عمره قرون بين البدو والدروز".
هذا التوصيف قوبل بالانتقاد من عدة أطراف، حيث اعتبره مراقبون تسطيحا لأزمة أكثر تعقيدا، تتعلق بالبنية السياسية والأمنية لسوريا ما بعد الحرب.
وأضاف حرب: "الولايات المتحدة لا ترغب في التورط بالتفاصيل اليومية في سوريا، لكنها تجد نفسها مضطرة للرد بسبب ضغط الحلفاء العرب، مقابل اختلاف واضح في الرؤية بينها وبين إسرائيل التي ترى الأمور من منظور أمني بحت".
وأشار إلى أن "واشنطن، وإن أبدت حرصها على منح الحكومة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع فرصة لإثبات قدرتها على الحكم، إلا أنها لا تستطيع تجاوز حساسيات علاقتها مع إسرائيل، التي تنظر بعين الشك إلى أي تواجد عسكري غير خاضع لها على حدودها الشمالية".
الدولة السورية أمام تحدي فرض السيادة
يرى المفكر والكاتب السوري محمد أبو الفرج صادق أن الحكومة السورية "فعلت ما يجب فعله"، وأنها انسحبت من السويداء تجنبا لانزلاق البلاد إلى حرب أوسع، في ظل تهديدات إسرائيلية صريحة.
وأوضح صادق في مداخلة بغرفة الأخبار على "سكاي نيوز عربية" أن "الحكومة السورية ليست خائفة من المجابهة، بل حريصة على تجنيب الوطن حربا مدمرة. الانسحاب لم يكن ضعفا بل وعيا استراتيجيا".
وفي الوقت نفسه، أشار صادق إلى أن ما حدث من انتهاكات فردية ضد بعض الشيوخ في السويداء "لا يجب أن يُستغل لتبرير المطالبة بإخراج الدولة من المحافظة"، مؤكدا أن "نزع سلاح الميليشيات وإعادة الأمن هو الطريق الوحيد لتهدئة الأوضاع".
واستنكر صادق ما وصفه بـ"الازدواجية الدولية"، قائلا: "كيف يمكن للأمم المتحدة والولايات المتحدة أن تطالبا الحكومة السورية بحماية السويداء، بينما تمنعها من دخولها أو حتى الاقتراب منها؟".
انقسام داخلي في السويداء: ثورةٌ تُختطف؟
قدّم الكاتب السوري حافظ قرقوط صورة أكثر تعقيدا لمجريات الداخل في السويداء، موضحا أن التوترات الأخيرة كشفت عن تصدعات داخل الطائفة الدرزية نفسها، بين القيادات الدينية التقليدية من جهة، والنخب الشبابية والمدنية من جهة أخرى.
وبيّن قرقوط أن "ما جرى في السويداء خلال السنوات الماضية لا يمكن فهمه دون إدراك أن الدولة المركزية غابت فعليا منذ أكثر من عقد، وما بقي هو هيئات دينية فرضت نفسها على المشهد واحتكرت القرار".
واعتبر أن "التظاهرات الشبابية في ساحة الكرامة، التي حملت مطالب سياسية واضحة ضد النظام، جرى احتواؤها واستخدامها كورقة تفاوضية من قبل بعض الزعامات الدينية التي سعت لتحقيق مكاسب خاصة".
وتابع قائلا إن "الثورة التي ضحى من أجلها شبابنا، اختُزلت في صفقة. وبعض الزعامات التقليدية أعادت إنتاج نفسها كأن شيئا لم يكن، وكأن 14 عاما من النضال والمنافي والاعتقال لم تحدث".
كما كشف قرقوط عن تحركات عشائرية مريبة على أطراف المدينة، قائلا إن آلاف المقاتلين بدأوا يتجمعون من شمال وشمال شرق سوريا، ومعهم فصائل مسلحة كانت تنشط في الشمال، وأخذت مواقعها قرب السويداء.
ووفق قرقوط فقد "تم تداول فيديوهات قيل إنها لمجازر في السويداء، لكنها في الحقيقة تعود لغزة، وجرى استخدامها لتأجيج الكراهية الطائفية وتحشيد المقاتلين".
إسرائيل ومرحلة ما بعد 7 أكتوبر: فيدرالية بنكهة أمنية
يرى الكاتب والمحلل السياسي فراس ياغي زاوية أخرى للصراع، تتعلق برؤية إسرائيل لمستقبل سوريا.
فبعد 7 أكتوبر، بحسب ياغي "أعادت إسرائيل أعادت تعريف أولوياتها الأمنية، ولن تقبل بوجود كيانات مسلحة قريبة من حدودها، ما يدفعها للمطالبة بمناطق عازلة منزوعة السلاح".
وأكد أن "إسرائيل تتجه لدعم فيدراليات داخل سوريا ترتبط بها أمنيا أو سياسيا، وترفض عودة الجيش السوري إلى الجنوب، خصوصا مع وجود فصائل تُصنّفها على أنها جهادية".
ولفت إلى أن " إسرائيل تخشى من عودة المتشددين إلى الحدود، خصوصا في ظل انكفاء أميركي متزايد من الملف السوري، ما يمنح تل أبيب حرية مناورة أكبر".
واشنطن وتضارب الأولويات في سوريا
التحليل الذي قدّمه موفق حرب يُضيء على مفارقة مركزية في الموقف الأميركي، إذ أن إدارة دونالد ترامب، رغم انفتاحها النسبي على الحكومة الجديدة في دمشق، إلا أنها لم تكن مستعدة للتورط عسكريا أو دبلوماسيا بعمق في الملف السوري.
ويقول حرب إن "ما يهم واشنطن في سوريا هو مكافحة الإرهاب وداعش، وليس فرض نموذج حكم أو إعادة الإعمار أو فرض السلام. أما إسرائيل، فلها أولويات مختلفة تماما، متعلقة بأمنها القومي المباشر".
وحسبما ذكر حرب فإن "الضغط العربي، خصوصا من دول الخليج، هو ما دفع واشنطن إلى منح الحكومة السورية الجديدة فرصة، خصوصا بعد لقاء الرئيس ترامب بالرئيس أحمد الشرع"، لكنه يؤكد أن واشنطن "لن تضحي بعلاقتها مع إسرائيل مهما كانت الظروف".
الفيدرالية أم التقسيم؟ أسئلة ما بعد التصعيد
في ظل تزايد الحديث عن انسحاب الجيش السوري من مناطق عديدة في الجنوب، واحتكار فصائل محلية للسلاح والقرار، يُطرح سؤال محوري: هل تتجه سوريا نحو الفيدرالية، أم أننا أمام مشهد تقسيم فعلي غير معلن؟
صادق يرى أن الحل لا يكمن في التقسيم أو الفيدرالية، بل في إعادة هيكلة العلاقة بين الدولة والمجتمع، وإعادة فرض سلطة القانون من خلال نزع سلاح الميليشيات، فوفقا له "لا الدروز يمكنهم بناء سوريا وحدهم، ولا أي طائفة أخرى. سوريا تُبنى بجميع أبنائها، ولا حل خارج الدولة".
أما قرقوط فيحذر من أن ما يحدث حاليا هو إعادة إنتاج حكم ما دون الدولة، مشيرا إلى أن الفيدرالية قد تكون حلا مؤقتا فقط إذا ما أُرفقت بضمانات دستورية، أما في غياب الدولة المركزية، فإنها قد تؤدي إلى دويلات طائفية متنازعة.
نحو أي سيناريو تمضي السويداء؟
بين رغبة المجتمع الدولي بالتهدئة، وصمت واشنطن الملتبس، وتحفز إسرائيل الأمني، تبدو السويداء مرشحة لتكون اختبارا حاسما لمستقبل سوريا، لا من حيث وحدة أراضيها فحسب، بل من حيث قدرة الدولة السورية الجديدة على إعادة إنتاج نفسها كمرجعية شرعية.
ويبقى المشهد مفتوحا على كل السيناريوهات: من العودة إلى سلطة الدولة بعد نزع سلاح الميليشيات، إلى الانزلاق في نزاع أهلي أوسع، وصولا إلى تقسيم غير معلن ترسم خرائطه مراكز القوى الإقليمية والدولية.
وفي النهاية، قد لا تكون السويداء مجرد معركة جغرافية على خاصرة دمشق، بل ساحة لتقرير مصير البلاد بأكملها: دولة واحدة أم فسيفساء متشظية؟