آخر الأخبار

الطريق إلى الشرعية المؤجلة.. السلطة والاستثناء والديمقراطية في سوريا

شارك

في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي

لو ذهبت، عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة، إلى أي مكتبة في العالم، كبيرة كانت أم صغيرة، ومشيتما في قسم الفلسفة السياسية أو الفكر الكلاسيكي، فغالبًا ستقع أعينكما على كتاب صغير بعنوان "الأمير"، وربما يلفت انتباهكما غلافه الذي يحمل صورة لكاتبه الإيطالي الشهير نيقولا ميكافيلّي، بجسده النحيل، وشعره الخفيف، وملابسه النبيلة من عصر النهضة.

ورغم قِدم الكتاب الذي كُتب قبل أكثر من 5 قرون، وضيق الغاية من تأليفه -إذ كان أشبه بهدية سياسية لحاكم فلورنسا لتقريب الكاتب من السلطة- فإن "الأمير" بات رمزًا في الفكر السياسي، لا يكاد يوجد مُهتم بالشأن العام في أي مكان إلا وسمع به، أو بكاتبه، أو بالفكرة المنسوبة إليه: "الغاية تبرر الوسيلة".

لا يُنظر إلى الميكافيلية اليوم بكثير من الرضا، ولا تُستحضر غالبًا في سياق مدح. فمن السهل انتقاد فكرة التخلي عن الأخلاق والقيم من أجل الحفاظ على الدولة واستقرارها، ومن الصعب تبرير استخدام وسائل غير أخلاقية تحت راية المصلحة العليا.

ومع ذلك، وبينما نقلب صفحات "الأمير" ونقرأ ما يقترحه ميكافيلي من تكتيكات سياسية وألاعيب سلطوية، ندرك أنه -بقصد أو بدونه- كان يحاول أن يكشف لنا كيف تفكر السلطة، لا كيف يجب أن تكون. أما السلطة، فلم تكن يومًا بحاجة إلى ميكافيلي لتعرف نفسها.

مصدر الصورة غلاف كتاب الأمير لنيقولا ميكافيلّي (الجزيرة)

يقودنا هذا إلى فكرة مركزية في هذا المقال، وهي أن منطق السياسة وبناء الدولة لا يخضعان بالضرورة لمنظومة الأخلاق والقيم الإنسانية، بل تحكمهما قواعدهما الخاصة وضروراتهما السيادية.

وبالحديث عن المفكرين السياسيين المثيرين للجدل، يخطر في ذهني كمراقب للشأن السوري، مفكر آخر أقل شهرة من ميكافيلي، لكنه لا يقل عمقًا وتأثيرًا: كارل شميت. قبل نحو قرن من الزمان، كتب المفكر الألماني كتابه الأشهر "اللاهوت السياسي"، الذي عالج فيه بشكل فريدٍ مسألة السيادة، وعلاقتها بالقانون وأدوات التشريع والرقابة.

يقدّم شميت فكرة مركزية تقول: "السيّد هو من يقرّر في حالة الاستثناء". فالسلطة السياسية، ممثلة بالرئيس أو القيادة، لا تُقاس فقط بقدرتها على تطبيق القانون، بل أيضًا بقدرتها على تعليقه عند الضرورة القصوى.

ففي مواجهة تهديد وجودي، تبرز الحاجة إلى من يستطيع اتخاذ القرار خارج الإطار القانوني المعتاد، لحماية الدولة والنظام العام.

إعلان

وفقًا لشميت، لا تُعد حالة الاستثناء خروجًا عن النظام القانوني، بل تكشف حدوده، وتؤكد أن القرار السياسي يسبق القانون ويؤسسه، لا العكس.

صعود الشرع وبداية شكل جديد من الحكم في سوريا

شهدت سوريا تحولًا دراماتيكيًا في ديسمبر/كانون الأول الماضي مع سقوط نظام البعث والرئيس بشار الأسد، وتولي الرئيس أحمد الشرع، الزعيم السابق لهيئة تحرير الشام ، رئاسة سوريا الجديدة.

منذ ذلك الحين، استعان الشرع أولاً بحكومة الإنقاذ التي شُكلت في إدلب، ثم شكل حكومة أكثر شمولاً في مارس/آذار الماضي، وحصل على دعم واسع من دول الجوار الإقليمي (الأردن وتركيا ودول الخليج)، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ونجح في العديد من الملفات السياسية وعلى رأسها رفع العقوبات الغربية تمهيداً للبدء بمشاريع الاستقرار وإعادة الإعمار المدعومة دوليا.

تعيش سوريا اليوم مرحلة انتقالية دقيقة، تمتزج فيها مشاعر الأمل بمستقبل أكثر حرية وازدهارًا، مع مخاوف عميقة من إعادة إنتاج الاستبداد والاحتكار، ولو في صيغة أخف وطأة وأكثر براعة.

وفي خضم الجدل المتصاعد بين السوريين حول السلطة الجديدة، لا يختلف اثنان على أن الرئيس الانتقالي أحمد الشرع يحتكر اليوم السلطة بجميع وجوهها. أما الخلاف، فهو حول مدى شرعية وضرورة هذا الاحتكار في هذه المرحلة.

إن كنتم من متابعي الشأن السوري يوميا على مواقع التواصل، فربما مرّ عليكم في الأيام الأخيرة إنفوغراف طويل يُظهر الصلاحيات المناطة برئيس الجمهورية السورية بحسب الإعلان الدستوري المؤقت.

يوضح الإعلان، أن الرئيس يرأس السلطة التنفيذية كرئيس للحكومة، يعيّن ويقيل وزراءها، ويوقّع العقود والمعاهدات مع الدول، وهو القائد العام للقوات المسلحة. وهو كذلك يقود السلطة التشريعية بتعيينه لثلث أعضاء البرلمان، وتشكيله للجنة تختار الثلثين الآخرين.

علاوة على ذلك، فإن الرئيس هو رئيس السلطة القضائية برئاسته لمجلس القضاء الأعلى وللجنة الدستورية العليا، كما أن من حقه تعديل بنود الإعلان الدستوري بموافقة ثلثي مجلس النواب.

هذه التركيبة من الصلاحيات المطلقة قد تكون كفيلة ببث الرعب في قلوب كل من يرفضون الدكتاتورية، وكل من يرون أن النظام العادل والصالح للسلطة ينبغي أن يُبنى على القانون ومبدأ فصل السلطات، وعلى آليات لمراقبة ومحاسبة السلطة كي لا تنحدر إلى هاوية الحكم الفردي. وهنا السؤال: هل من مبرر لهذه الصلاحيات المطلقة؟

بين نص الدستور وظرف الاستثناء.. كيف تبرر السلطة المطلقة؟

الجواب البسيط على السؤال السابق: سياسيًا وقانونيًا، ثمّة ما يبرر اللجوء إلى هذه الصيغة من السلطة الأحادية، على اعتبار أن المنطلق الأساسي هو أن سوريا تمر بحالة استثنائية.

خلال مقابلة له في بودكاست "دفين"، أشار الدكتور عبد الحميد عواك، عضو اللجنة التي صاغت الإعلان الدستوري، إلى أن الإعلان ينطلق من مبدأين أساسيين: أولهما، أن السلطة الشرعية الوحيدة المتاحة في المرحلة الانتقالية هي الشرعية الثورية التي أنتجت سلطة الرئيس الانتقالي بتعيينه في مؤتمر النصر المنعقد يوم 29 يناير/كانون الثاني 2025. وثانيهما، أن القوى الوطنية السورية تتفق في معظمها على استحالة إجراء انتخابات عادلة وشفافة ونزيهة خلال المرحلة الانتقالية الحالية.

إعلان

وهنا، أصبحت الخيارات أمام اللجنة الدستورية منحصرة في أمرين: إما إبقاء المؤسسات الدستورية التابعة لنظام الأسد تمارس سلطاتها مؤقتا إلى جانب الرئيس الانتقالي، أو حلها بالكامل واستبدالها بأجسام مؤقتة، اعتمادا على صلاحيات الرئيس الانتقالي الذي يُعدّ السلطة الشرعية الوحيدة في الوقت الحالي. ولم تكن اللجنة بوارد أن تبقي برلمان البعث ولا مجلس قضائه ولا محكمته الدستورية العليا يديرون المرحلة الانتقالية.. هذا من الناحية الدستورية.

سياسيًا، يبدو أن اللجوء في المراحل الانتقالية إلى الممارسات الديمقراطية قد يشكل وصفة للتقسيم أو الفوضى، بحسب العديد من التجارب الدولية السابقة. فبعد الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، والتي قُتل فيها أكثر من 800 ألف شخص خلال 100 يوم، واجهت البلاد حالة من الدمار المجتمعي والمؤسساتي الكامل. تولت الجبهة الوطنية الرواندية السلطة بقيادة بول كاغامي، وتبنى المجتمع الدولي نموذجًا لما يسمى "العدالة الانتقالية السريعة والديمقراطية التعددية".

سعى المجتمع الدولي إلى إعادة بناء رواندا بسرعة عبر انتخابات ومؤسسات ديمقراطية، دون معالجة عميقة للانقسام العرقي. ورغم الاستقرار الظاهري، أدت هذه المقاربة إلى ديمقراطية شكلية تحكمها الجبهة الوطنية بقوة، بينما قُمعت المعارضة وتهمشت المصالحة المجتمعية. فالإصلاحات الليبرالية السريعة عززت سلطة المنتصر، ولم تعالج جذور الصراع، مما أبقى التوترات قائمة تحت سطح نظام سياسي مستقر ظاهريًا.

مصدر الصورة الرئيس الرواندي بول كاغامي (غيتي)

بعد سقوط حكومة طالبان في أفغانستان عام 2001، سارعت القوى الدولية إلى إجراء انتخابات وكتابة دستور ليبرالي، في بيئة من الانهيار المؤسساتي وغياب الدولة. نُظمت انتخابات قبل بناء جهاز قضائي أو قوات أمن فعالة، ما أدى إلى سيطرة النخب الفاسدة وأمراء الحرب. فشلت الديمقراطية في تجذير نفسها، وانتهى المشروع بانهيار الحكومة وعودة حركة طالبان .

وفي أنغولا عام 1992، أُجريت انتخابات بسرعة بعد اتفاق السلام، لكن فوز أحد الأطراف فجّر الحرب الأهلية مجددًا، لأن الخاسرين لم يثقوا بالنظام ولا بعملية نقل السلطة. أما في البوسنة والهرسك ، فرغم توقيع اتفاق دايتون عام 1996، سارع المجتمع الدولي إلى إجراء انتخابات، فكرّست الانقسامات العرقية، وأدت إلى نظام طائفي معقّد يعيق الحكم الفعّال حتى اليوم.

في كتابه "عند نهاية الحرب.. كيف نُشيّد السلام بعد الصراعات الأهلية" (At War’s End: Building Peace After Civil Conflict)، ينتقد الباحث الكندي رولاند باريس، ما يسميه "السلام الليبرالي المتسرّع". يُعرّف باريس، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة أوتاوا وكبير مستشاري السياسات في مكتب رئيس الوزراء الكندي (2015 – 2016)، هذا النهج بأنه الدفع المبكر نحو الانتخابات واقتصاد السوق بعد الحروب، باعتبارهما طريقًا سريعًا إلى السلام. ويرى أن هذا التوجه، رغم نواياه الطيبة، يعرّض الدول الخارجة من النزاعات لخطر الانهيار أو تجدّد العنف.

في المجتمعات المنقسمة وذات المؤسسات الضعيفة، قد تؤدي الانتخابات المبكرة إلى تعميق الانقسامات، وتمكين النخب، وتأجيج التوترات الطائفية أو العرقية. فالمؤسسات الهشة لا تملك القدرة على إدارة التنافس السياسي السلمي، مما يجعل الانتقال الديمقراطي محفوفًا بالمخاطر، ويهدد بإعادة إنتاج النزاع بدل تجاوزه.

هذه المخاوف التي وثّقها رولاند باريس في تجارب متعددة؛ تنطبق بدرجة كبيرة على الحالة السورية. تُفسَّر ظروف سوريا الراهنة من خلال مفهوم "السيادة في حالة الاستثناء": دولة منهكة، ومؤسسات مدمرة، ومجتمع مشتت، وأطراف إقليمية ودولية متداخلة، تجعل من الانتقال السلس إلى دولة ديمقراطية أو مؤسسات مستقرة في الوقت الحالي مهمة شبه مستحيلة.

إعلان

في هذا السياق، يمكن القول إن الشرع يمارس سلطته محاولا إعادةَ استقرار مركز القرار ومنع الفوضى وإدارة المرحلة الانتقالية بيد واحدة قوية، مؤقتًا على الأقل. تجربة دول مثل العراق بعد عام 2003، ولبنان بعد اتفاق الطائف ، تُظهر أن غياب مركز قرار قوي في مراحل الانتقال قد يؤدي إلى تفكك الدولة أو استمرار الصراعات.

لذلك، من منظور واقعي، فإن تمسّك الشرع بالسلطة وإدارة المرحلة بدون رقابة مؤسسية مكثفة قد يُعتبر خيارًا ضروريًا، وليس طموحًا استبداديًا فقط.

كما أن غياب الرقابة الرسمية في الحالة السورية لا يعني على الإطلاق غياب الرقابة الشعبية، فالنقد واسع الانتشار عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمقاهي والمجالس العامة والخاصة، حيث يتفاعل السوريون مباشرة مع قرارات السلطة ويراقبونها في واقع الحياة اليومية ويشكلون عامل ضغط أساسيا عليها. هذه الرقابة المجتمعية، وإن كانت غير رسمية، تشكل حدًا من التسلط الكامل، على الأقل في المرحلة الحالية.

مصدر الصورة وزير الدفاع السوري مرهف أبو قصرة (يمين)، والرئيس السوري أحمد الشرع (وسط)، ووزير الخارجية السوري أسعد الشيباني (الجزيرة)

نقد حالة الاستثناء

رغم كل ما سبق، فالمخاوف من إطلاق يد السلطة في الظروف الاستثنائية تبقى حقيقية وجدّية، ولا يمكن إغفالها. تتمثل هذه المخاوف في استخدام السلطة المطلقة لتكريس الحكم الفردي، وتهميش المؤسسات الرقابية والتشريعية، وتقويض استقلال القضاء. كما تظهر في إطالة أمد حالة الاستثناء، وفشل الانتقال إلى دولة القانون. التحدي، إذن، لا يكمن في وجود سلطة قوية خلال مرحلة استثنائية، بل في قدرة هذه السلطة على الخروج من الاستثناء والعودة إلى الشرعية.

على مستوى شخصيّ، كان مدخلي لفهم نظرية شميت عبر قراءة كتابه "اللاهوت السياسي" -الذي قد تدفع صعوبة ترجمته العربية إلى تعلم الألمانية- محاضرةً ألقتها الدكتورة هبة رؤوف عزت، حول كتاب "حالة الاستثناء" للفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبن (المنشور عام 2005).

فبينما يتفق أغامبن ضمنيًا مع شميت حول خطورة الاستثناء، يذهب إلى نقد حادٍ لكيفية استخدامه في العصر الحديث، محذرًا من تحوّل الطوارئ إلى نمط حكمٍ دائمٍ يقوّض أسس الشرعية القانونية والديمقراطية.

يرى أغامبن أن الاستثناء لم يعد ظرفًا استثنائيًا، بل أصبح القاعدة التي تُدار بها علاقة الدولة بالفرد، عبر أدوات مثل الرقابة وقوانين الطوارئ والاحتجاز الإداري، وهو ما يُخشى أن ينطبق على التجربة السورية.

كما يذهب ميشيل فوكو، إلى أن الأنظمة الحديثة تميل إلى توسيع مفهوم الطوارئ ليشمل المجال الحيوي اليومي، فتتحوّل الدولة إلى نظام تقني/إداري يتجاوز القانون نحو السيطرة والتحكم.

ويرى سلافوي جيجك، أن السلطة كثيرًا ما تتستر خلف "إيديولوجيا الضرورة" لتبرير تغوّلها. أما هانا أرندت، فحذرت من الرجل القوي الذي يقتل الفضاء العام، ويقوّض الحرية السياسية، بما يجعل الاستثناء مدخلًا للاستبداد وفقدان الشرعية.

مستقبل الديمقراطية في سوريا.. أسئلة مفتوحة

في الحقيقة، منذ اندلاع الثورة السورية وحتى يومنا هذا، لم تكن الديمقراطية مطلباً موحّدًا في الشارع السوري، بل كانت رؤية تتبناها النخبة السياسية المعارضة بمختلف مكوناتها. وحتى اليوم، لم يُطرح نقاش جدي بين مكونات الشعب حول شكل النظام السياسي وأدواته وآليات تشكّله.

مصدر الصورة سوريّون يُحيون الذكرى الرابعة عشرة للثورة السورية، في إدلب، في 15 مارس/آذار 2025 (رويترز)

فعلى سبيل المثال، لم تكن هيئة تحرير الشام، التي تُشكّل اليوم جزءاً كبيراً من السلطة السورية وعلى رأسها رئيس الجمهورية ذو الصلاحيات الانتقالية المطلقة؛ جزءا من أي حوار وطني سياسي قبل ديسمبر/كانون الأول 2024.

اليوم نحن أمام مرحلة تاريخية في سوريا، تؤسّس ليس فقط لمستقبل الدولة السورية في العقود القادمة، بل لمستقبل المنطقة أيضا، وربما لتغير تاريخي في دور الحركات الإسلامية والوطنية وغيرها في سوريا والعالم، ولظهور نموذج جديد لتحوّل حركات مسلحة ذاتِ طابع أيديولوجي إلى حركات سياسية تحمل رؤى حديثة ومشاريع وطنية عابرة للأيديولوجيا.

بين عامي 2012 و2013، شاركتُ مع فريق من الباحثين والخبراء السوريين في وضع خارطة للتحول السياسي داخل البلاد في حال سقوط النظام، مثّلت حينها رؤية المعارضة السياسية لمستقبل الدولة. أطلقنا عليها اسم "خطة التحول الديمقراطي في سوريا".

إعلان

ناقشت هذه الخطة مختلف مسارات العملية الانتقالية: من تعليق الدستور والبرلمان إلى إصدار إعلان دستوري، مروراً بإصلاح قوانين الانتخابات والأحزاب، وإصلاح الأجهزة الأمنية، وبناء جيش وطني، ووضع برنامج وطني للعدالة الانتقالية والسلم الأهلي، إلى جانب بناء نظام اقتصادي يحرّر السوق تدريجياً ويصلح القطاع العام الفاسد والمترهّل، وصولاً إلى تأسيس نظام سياسي برلماني يؤسّس لحياة سياسية تمثّل كافة أطياف المجتمع.

يبدو أن الإدارة السياسية الحالية تسير في الاتجاه ذاته الذي تصوّرناه قبل 12 عاماً، رغم أن عدد الضحايا واللاجئين، وحجم الدمار الذي طال المدن والبلدات ومؤسسات الدولة، قد تضاعف مرات عديدة. ولعل 12 عاماً من الحرب، استخدم فيها نظام الأسد الطيران الحربي والأسلحة الكيميائية المحرّمة دولياً، كافية لتبرير الفارق الأساسي بين خطة التحول الديمقراطي ومسار الرئيس الشرع، والذي يتمثل في غياب المشاركة السياسية لكافة الجماعات والأطياف.

بعد الحرب العالمية الثانية، اتفق المشرّعون الأميركيون على أن السلطة شبه المطلقة التي يمنحها الدستور للرئيس لا يمكن أن تبقى مفتوحة زمنيًا، بعدما تسببت الحرب -وهي بلا شك حالة استثنائية- في انتخاب الرئيس فرانكلين روزفلت لأربع فترات متتالية. وفي عام 1992، نشر فرانسيس فوكوياما كتابه الشهير "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" احتفالاً بانتصار الليبرالية الغربية على الشيوعية. وهي رؤية تراجع عنها لاحقاً، بعدما ثبت أن الغرب نفسه الذي انتصر في حربه الباردة؛ ما زال يعاني من التخبط بين رؤى سياسية واقتصادية متعدّدة ومتصارعة.

لعل "الإنسان الأخير" ليس أسير فكرة واحدة أو إطار جامد، وربما قُدّر له أن يكون مرناً، يميل تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار. وقد يكون الغرب قد توصّل، بتجربته الطويلة، إلى أن النظام الأفضل للسلطة هو ألا تكون مطلقة ولا محتكَرة، وأن يكون هناك دوماً مجال للتغيير، يتمثّل في انتخابات دورية، وبرلمان ممثّل، وقضاء نزيه مستقل يحمي حقوق المواطنين.

ولعل القرآن الكريم سبق الغرب إلى ذلك حين قال "ولولا دفعُ الله الناسَ بعضَهم ببعض لفسدتِ الأرض". فالتغيير والتدافع سنة إلهية تحفظ توازن الأرض، وتمنع استئثار طرف واحد بالقوة أو الهيمنة المطلقة.

أما ما لم يُذكر بعدُ في هذا المقال، فهو أن أكثر ما يثير الجدل والرفض لنظريات كارل شميت في السياسة، هو دعمه للحزب النازي بعد استئثاره بالسلطة في ثلاثينيات القرن الماضي. لكن ما يجب أن نعرفه، عزيزي القارئ وعزيزتي القارئة، أن الغرب يوافق فعليًا على نظرية شميت في حالة الاستثناء. ولا أدلّ على ذلك من تعامل الحكومات الغربية الصارم في مواجهة جائحة كورونا عام 2020، حين قُدّمت المصلحة العامة على القانون والأنظمة الرقابية التقليدية.

اليوم، يفتح العالم ذراعيه لسوريا بقيادة الرئيس أحمد الشرع، فالأوضاع الاستثنائية في البلاد تفرض حالة طوارئ حقيقية تبرّر -لفترة ما- تمسّك الشرع بالسلطة الواسعة، داخليا وخارجيا.

لكن السؤال المصيري يبقى: متى وكيف ستنتهي حالة الاستثناء؟ وهل ستكون هناك إرادة فعلية لتأسيس دولة القانون والمؤسسات، أم سنشهد استمرارية لنظام السلطة المطلق في ظل غياب الرقابة؟ وربما يكون السؤال الأهم: متى يحين الوقت المناسب لطرح الأسئلة السابقة على سلطة تسعى إلى الاستقرار والنهضة، بعد سنوات طويلة من الصراع والدمار الذي أصاب المجتمع والحواضر ومؤسسات الدولة؟

الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة


الأكثر تداولا سوريا اسرائيل دمشق

حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا