في حال واجهت مشكلة في مشاهدة الفيديو، إضغط على رابط المصدر للمشاهدة على الموقع الرسمي
في مشهد يتجاوز الطقوس البروتوكولية ويؤكد على تحولات جذرية في بنية النظام الدولي، عقدت قمة مجموعة "بريكس" في البرازيل وسط تحديات سياسية واقتصادية متصاعدة، على وقع تهديدات مباشرة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي وصف المجموعة بأنها "معادية للولايات المتحدة"، ملوّحًا بفرض رسوم جمركية إضافية على أي دولة تنضم للتكتل.
هذا التهديد لم يمرّ دون ردّ، إذ جاء الرد الروسي حاسمًا، مؤكدًا أن تعاون دول بريكس لا يستهدف أي طرف ثالث، وأن مساعي التكامل داخل المجموعة تنبع من منطق الشراكة لا المواجهة.
لكن خلف التصريحات، تتكشف خطوط توتر جديدة في بنية الاقتصاد العالمي، وتتقاطع فيها طموحات دول الجنوب مع استراتيجية الردع الاقتصادي الأمريكي، فيما يبدو صراعًا ناعمًا على موازين القوة والتأثير.
بريكس من 5 إلى 11.. توسع نوعي وعبء إضافي
توسعت مجموعة بريكس مؤخرًا من خمس دول إلى إحدى عشرة دولة، وهو ما منحها وزنًا سياسيًا واقتصاديًا متزايدًا. ويُنظر إلى هذا التوسع على أنه لحظة مفصلية في مسار المجموعة، التي أُنشئت في الأصل لتكون كيانًا مستقلًا عن النظام الغربي وهيمنة الدولار.
وفي هذا السياق، يقول الدكتور حميد الكفائي، الكاتب والباحث السياسي، خلال مداخلة عبر "سكاي نيوز عربية"، إن "ما يقوله ترامب بخصوص بريكس صحيح، فهي أُنشئت لتكون مستقلة عن الولايات المتحدة، لكن ترامب يعظم من خطر المجموعة حين يستهدفها كتهديد مباشر".
ورغم اعترافه بأهمية البريكس، يشير الكفائي إلى أنها "ما تزال في طور التشكّل"، وأنها تحتاج إلى "عشرات السنين لتكون لها سياسات اقتصادية موحدة أو حتى متقاربة".
ترامب والدولار.. تحصين الزعامة المالية
الرئيس الأميركي دونالد ترامب لم يخفِ استياءه من مساعي بريكس لاعتماد عملات بديلة عن الدولار في التبادلات التجارية. وأعاد التهديد بفرض تعريفات جمركية جديدة بنسبة 10% على الدول الأعضاء الجدد أو الطامحين للانضمام.
ويضيف الكفائي: "ترامب قالها صراحة: من يحاول منافسة الدولار سيُستهدف بالتعريفات الجمركية"، لكنه يؤكد أن "الدولار لا يمكن أن تهدده أي عملة جديدة، فهو مؤسس منذ 200 عام وسيبقى".
إلا أن تنامي مشاريع العملات الإقليمية والتفاهمات النقدية الثنائية، خاصة بين الصين و روسيا و الهند، تمثل خطوة استراتيجية لتقليص الاعتماد على الدولار، حتى وإن لم تكن قادرة على إسقاط هيمنته في المدى المنظور.
الرسوم الجمركية.. سلاح اقتصادي ذو حدين
تصريحات ترامب التي تلوّح بالرسوم الجمركية لا تستهدف بريكس كمجموعة فقط، بل تعكس استراتيجيته في "تجزئة التكتلات" والتعامل الثنائي مع كل دولة على حدة.
ويعلّق الكفائي قائلا: "كل دولة من بريكس لها علاقة ثنائية مع الولايات المتحدة، وبالتالي من الصعب استهدافها كمجموعة متجانسة". هذه السياسة، كما يرى، "ليست جديدة على إدارة ترامب التي تبحث دائمًا عن صفقات"، وهي تهدف بالأساس إلى دفع الدول لعقد اتفاقات منفصلة مع واشنطن، تحت طائلة التهديد بالتعريفات.
لكن المفارقة، كما يلفت الكفائي، أن "هذه الرسوم تضرّ أيضًا بالاقتصاد الأميركي نفسه، وقد رأينا ذلك في الاتفاق مع الصين، إذ خفّض ترامب الرسوم من 150% إلى 10% بعد جولات تفاوضية مرهقة".
التحدي المؤسسي.. هل تخرج بريكس من مرحلة التباين؟
ورغم توسّع المجموعة، لا تزال تواجه تحديات مؤسسية كبيرة تتعلق بغياب التكامل الاقتصادي والسياسي الحقيقي بين أعضائها. الكفائي يؤكد أن "بريكس كيان ناشئ، وتباين المصالح بين أعضائها كبير، ما يجعل من الصعب أن تتحول إلى قوة موحدة مؤثرة في المدى القريب". لكن في المقابل، فإن الرغبة في تجاوز نظام عالمي أحادي القطبية يُعد حافزًا كبيرًا لهذه الدول للاستمرار في تنسيق جهودها، خاصة في مجالات الطاقة، وتكنولوجيا المعلومات، والتمويل.
ترامب ومنظمة التجارة العالمية: تجاهل النظام التعددي؟
في خلفية هذا المشهد، يبرز تحذير الكفائي من أن "الرسوم الجمركية التي يهدد بها ترامب مخالفة صريحة لقواعد منظمة التجارة العالمية"، والتي نصّت على وجوب المساواة بين الدول في فرض الرسوم.
ويتابع: "الاقتصاد العالمي انتقل من النظام المتعدد الأطراف إلى اتفاقات ثنائية"، في إشارة إلى ضعف دور المؤسسات الدولية في تنظيم التجارة والحدّ من الحروب الاقتصادية.
التحولات القادمة.. هل تتغيّر قواعد اللعبة؟
في ضوء هذه الديناميكيات، يبدو أن قمة البريكس في البرازيل لم تكن مجرد لقاء روتيني. بل مثلت محطة لتثبيت التوسّع وطرح خيارات جديدة للتحوّط الاقتصادي والنقدي، وربما لرسم مسار مستقبلي نحو ما يمكن أن نسميه "بريكس 2.0"—نسخة أكثر تنسيقًا واستقلالًا، وأقل ترددًا في مواجهة الضغط الغربي.
في المقابل، تؤكد تصريحات ترامب أن الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الأيدي أمام نشوء تكتل قد يهدد قواعد اللعبة التي أرستها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
لكنه في ذات الوقت، يُدرك أن تحجيم بريكس يتطلب أكثر من التهديدات، خاصة أن شركاء واشنطن أنفسهم باتوا يرون في هذا التكتل منصة لتوازن القوى، لا بالضرورة بديلاً للنظام القائم.
بريكس وترامب.. بين الشراكة والردع
قمة بريكس الأخيرة كشفت بوضوح حجم التحولات الجيوسياسية والاقتصادية التي يشهدها العالم. فالتوسع في العضوية، والنقاشات حول استخدام العملات المحلية، والرهان على الاستقلال الاقتصادي، كلها مؤشرات على تشكّل نظام عالمي متعدد الأقطاب.
وفي المقابل، تؤكد تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن المواجهة لن تكون سهلة، وأن واشنطن ستسعى بكل أدواتها للحفاظ على موقعها القيادي في الاقتصاد العالمي.
لكن ما بين طموح بريكس للتموضع كقوة ناشئة، وإصرار ترامب على فرض قواعده، يبقى السؤال الأهم: هل ستتمكن الدول الصاعدة من تحويل التكتل إلى مظلة فعّالة ومؤثرة، أم سيبقى كيانًا رمزيًا في مواجهة عملاق اقتصادي لا يزال يمسك بمفاتيح اللعبة؟