القدس المحتلة- رغم الاحتفالات السياسية والإعلامية بنجاح عملية " الأسد الصاعد " ضد إيران التي استمرت 12 يوما، بدأت تتسع في إسرائيل دائرة التشكيك في الرواية الرسمية التي تحدثت عن "تدمير كامل" للمنشآت النووية الإيرانية و"ترحيل" المشروع النووي لسنوات طويلة.
فبعد الضربة الأميركية لمنشآت نووية في إيران ، التي شكلت نقطة الختام للعملية، سارع قادة في واشنطن وتل أبيب إلى الإعلان عن نصر حاسم، وتقويض قدرات إيران النووية والصاروخية.
لكن بعد انقشاع غبار المعركة، بدأت تحليلات إسرائيلية، حتى من داخل المؤسسة الأمنية، بالتشكيك في مدى دقة هذه المزاعم. ونشرت وسائل إعلام إسرائيلية تقديرات أمنية نقلت عن مسؤولين كبار تحذيرات واضحة من المبالغة في تصوير الإنجاز، مؤكدين أن "القول إن التهديد انتهى ليس دقيقا، بل وربما غير مسؤول".
وبينما يواصل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -المطلوب ل لمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة- والرئيس الأميركي، دونالد ترامب ، تسويق نتائج الحرب كإنجاز تاريخي، فإن أصواتا من داخل الأجهزة الأمنية في تل أبيب حذَّرت من التسرع في تقديم استنتاجات نهائية حول حجم الأضرار التي لحقت بالنووي الإيراني.
وصحيح أن إسرائيل خرجت من الحرب بـ"إنجازات" تُجمع عليها التحليلات الإسرائيلية، لكنها تشير إلى أن الأسئلة الكبرى بقيت دون إجابات، خاصة في ظل تآكل الإجماع الإسرائيلي حول أهداف ونتائج الحرب.
وعن ذلك، يقول محلل الشؤون الاستخباراتية والعسكرية في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، رونين بيرغمان، إن على الجمهور الإسرائيلي أن يقرر "لمن يمنح ثقته؟ لرواية نتنياهو وترامب؟ لوسائل الإعلام؟ أم لتقديرات المؤسسة الأمنية؟".
ويعتقد أن التشكيك في إسرائيل يزداد وسط حالة الإرباك مع أن نتنياهو، الذي نادرا ما يعترف بفضل أحد، سارع هذه المرة إلى شكر جميع الجهات المشاركة، مما وضع ضغطا إضافيا على الأجهزة الأمنية لتجنب تقديم رواية تناقض "خطابه المنتصر"، في هذه الأجواء، يصبح من الصعب التمييز بين الإنجاز الحقيقي والاستثمار السياسي في الحرب.
وأشار بيرغمان إلى أن الرسائل التي تخرج، حتى من أكثر الدوائر الأمنية سرية في إسرائيل، تقول بوضوح "القول بأن التهديد زال غير دقيق وغير مسؤول"، لافتا إلى أن الأسئلة الكبرى بقيت بلا إجابة واضحة: هل دمر البرنامج النووي الإيراني فعلا؟ هل تأخر سنوات للوراء كما أعلن نتنياهو وترامب؟
وأوضح أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تجد صعوبة في قول الحقيقة كاملة، فهي تتحدث عن أضرار جسيمة للمشروع النووي، لكن مع تحفّظات كثيرة، ويقر مسؤولون كبار بأن "النجاح كان كبيرا"، لكنهم يرفضون تقديم تقييم نهائي، ويشددون على أن القول إن التهديد زال تماما "غير مسؤول".
وقال المحلل بيرغمان إن أسئلة حرجة وصعبة بقيت معلقة: هل ما زالت إيران تحتفظ بمواد مخصبة عالية النقاوة؟ هل لا تزال منشآتها مثل فوردو صالحة للعمل؟ هل قُوّضت قدراتها على التخصيب وصناعة الأسلحة النووية فعلا؟
ويضيف "يبدو أن رواية النصر الإسرائيلي الأميركي باتت أقل صلابة"، وحتى إعلان الحكومة الإسرائيلية، الذي بالغ في التأكيد على إزالة "التهديد الوجودي"، يعجز عن الإجابة بدقة على أسئلة الجمهور حول النتيجة الحقيقية.
القراءة ذاتها استعرضها المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، عاموس هرئيل، الذي أشار إلى أن ترامب أراد تصوير الهجوم على فوردو كنجاح ساحق، لكن عندما قللت وسائل إعلام أميركية من حجم الضربة، استعان بنتنياهو. وهكذا ظهر بيان غير معتاد -وفق هرئيل- من لجنة الطاقة الذرية الإسرائيلية، نشره البيت الأبيض، وتلاه تصريح لرئيس الأركان إيال زامير عن "ضرر بالغ" في المنشآت النووية.
وأوضح المحلل العسكري أن الثقة الإسرائيلية في النتائج تنحصر في بعض المواقع المستهدفة، مبينا أنه يُعوَّل في تل أبيب على الأضرار التراكمية، كتدمير أجهزة الطرد المركزي واغتيال علماء نوويين.
لكن هرئيل شدد على غياب معلومات كافية -حتى الآن- عن نتائج القصف الأميركي في فوردو، مشيرا إلى أن الحديث ليس عن "تدمير مطلق" للبرنامج النووي.
ولفت إلى غموض حول مصير نحو 400 كيلوغرام من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، محذرا من احتمال أن يدفع الفشل الإسرائيلي الأميركي بتدمير المنشآت النووية المرشد الإيراني علي خامنئي ، لتسريع برنامج القنبلة.
وأضاف هرئيل أن إيران قد تعود إلى المفاوضات لكنها تماطل وتراوغ، بينما قد يعلن ترامب "النصر" ويتجاهل القضية، وأشار إلى صعوبة الحفاظ على سيطرة في الأجواء الإيرانية في ظل وقف إطلاق النار، لكنه نبَّه إلى أن طهران لم تفقد قدرتها على إطلاق الصواريخ، وقد تسعى سريعا لإعادة بناء قدراتها الباليستية .
وما إن دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، يقول المحلل العسكري في الموقع الإلكتروني "زمان يسرائيل" أمير بار شالوم "حتى بدأت حرب من نوع آخر، معركة روايات وتقديرات متضاربة حول حجم الضرر الذي أصاب المشروع النووي الإيراني".
ويضيف بار شالوم أن ما يُعزز معركة الروايات التي تبدو أكثر حدة وراء الكواليس، "تقرير سري من استخبارات البنتاغون الذي فجر جدلا واسعا، إذ قدّر أن الهجمات الأميركية والإسرائيلية ألحقت ضررا جزئيا فقط بالمنشآت النووية".
وأوضح أن ترامب رد بغضب، مدافعا عن "نجاحه الكبير"، وأصرّ على أن معلومات استخباراتية إسرائيلية أكدت تدمير منشأة فوردو بالكامل.
في المقابل، نفى مسؤولون إسرائيليون هذه المزاعم علنا، لكن مكتب نتنياهو تجنّب إحراج ترامب وأصدر بيانا يقر بأن معلومات إسرائيلية كانت بالفعل جزءا من تقديرات الإدارة الأميركية.
ويؤكد بار شالوم أن التقرير الإسرائيلي نفسه، الذي سربت صوره لدعم ترامب، أشار إلى تحذير مهم، وهو "الإنجاز العسكري يمكن الحفاظ عليه فقط إذا منعت إيران من الوصول مجددا إلى موادها النووية"، في تلميح إلى إمكانية تجدد الحاجة لضربات مستقبلية، مما يعزز الشكوك حول عدم تحقيق أهداف الحرب وعدم تدمير المشروع النووي الإيراني بالكامل.
وختم قائلا إنه "وسط هذه التعقيدات، يسعى ترامب لضبط التحركات الإسرائيلية ومنع أي عمل قد ينسف التفاهمات الهشة التي سمحت بوقف إطلاق النار". وأضاف "الاتفاق الحالي ليس أكثر من هدنة مؤقتة، معرضة للتفسيرات المتناقضة والانزلاق السريع نحو مواجهة جديدة".