آخر الأخبار

المواجهة بين إيران وإسرائيل: كيف تصور إيران أكبر مفاجأة عسكرية تعرضت لها على أنها "انتصار"؟

شارك
مصدر الصورة

في هجمات إسرائيل على إيران، ربما كان الأمر الأكثر إثارة للصدمة من الهجوم على المنشآت النووية والقواعد الجوية الإيرانية هو تدمير المباني السكنية، وهو ما لم يتوقعه الشعب ولا المسؤولون الحكوميون.

ولم يكن نشر صور لطفل صريع تحت الأنقاض، ودبّ لعبة مغبرّ ملقى في الشارع، ودفتر رسومات، من المشاهد التي اعتاد الإيرانيون رؤيتها، على الأقل منذ نهاية الحرب الإيرانية العراقية، خصوصاً في شوارع العاصمة طهران.

وفي التلفزيون الإيراني، عرض مراسلٌ كان يغطّي انهيار مبنى من 14 طابقاً في مجمع الشهيد جمران في ساحة نوبنياد بطهران، ملابس أطفال وصوراً لهم قال إنهم قُتلوا في الهجوم الإسرائيلي، وقد بثّ التقرير مشاهد صادمة لجثث أطفال داخل أكياس الموتى، أو بوجوه مضرجة بالدماء داخل ثلاجات الموتى، أمام أعين المشاهدين.

لقد جعل هذا الهجوم على العاصمة الإيرانية المواطنين، الذين وجدوا أنفسهم فجأة في "خط الجبهة الأمامي"، يبحثون عن معلومات تشرح لهم ما الذي يحدث، ومدى اتساعه، وكيف يمكنهم النجاة من هذه الضربات.

كما برز سؤال كبير في أذهان الجميع وهو كيف تمكّنت إسرائيل من التخطيط وتنفيذ هجمات بهذه الدقة والاتساع، واستهداف كبار المسؤولين في أهم مؤسسات الدولة، وفي عمق الأراضي الإيرانية؟

ومع ذلك، وحتى بعد مرور ساعات طويلة على الهجوم، بل وحتى بعد مضي أكثر من يوم، لم يصدر عن أي جهة رسمية في البلاد أي بيان توضيحي، ولم تُقدَّم للناس معلومات تساعدهم على فهم الحجم الحقيقي لهجوم إسرائيل على إيران، أو كيفية التصرف في ظل مواجهة عسكرية بهذا الاتساع. وتساءل الناس: هل دخلت البلاد في حالة حرب؟

وكتب أحد المستخدمين على منصة "إكس": "أكثر من 30 ساعة مضت على بداية الاشتباك العسكري بين إسرائيل وإيران، ومع ذلك لم يتم بعد تشكيل غرفة إعلامية للحرب، ولا يوجد ناطق رسمي أو مكتب للتأكيد أو النفي أو لتزويد وسائل الإعلام والجمهور بالمعلومات، وتنتشر الأخبار والصور المزيفة مثل الفيروس، وكأن شيئاً لم يحدث".

واستخدم جميع المسؤولين الرسميين تقريباً الذين تحدّثوا عبر القنوات التلفزيونية نبرة توحي بأن "الأمر ليس خطيرا"، و"كل شيء تحت السيطرة"، و"أوضاع المدن آمنة وهادئة"، مطمئنين الناس بأنه لا داعي للقلق أو الذعر. لكن لم يوضح أي جهاز رسمي كيف تمكنت الطائرات الإسرائيلية من التحليق بحرية ودون مقاومة حتى وصلت إلى طهران ومدن أخرى، ونفذت ضربات دقيقة على أهدافها.

وكانت البيانات الصادرة عن مختلف المنظمات، والتي نُشرت في الوكالات الرسمية، مليئة بالعبارات الخطابية التي تحدّثت عن "المقاومة" و"المظلومية" و"الانتقام الوطني القاسي".

أما فيما يخص وسائل الإعلام الرسمية، فكان على الناس إما أن يبحثوا عن المعلومات وسط بيانات مليئة بعبارات مثل: "لا ينبغي التحدث مع هذا النظام المتوحش إلا بلغة القوة"، و"العدو كان سبباً في أن تُثبت مظلوميتنا وعدالة قضيتنا"، أو أن يتنقلوا بين قنوات التلفزيون الإيراني ليستمعوا إلى أناشيد وخطب حماسية مصحوبة بصور العلم الإيراني و"الشهداء".

مصدر الصورة

المظلومية والمقاومة والانتقام القاسي

بدأت التغطية الرسمية صباح يوم الجمعة بنشر أخبار وصور عن القادة العسكريين والعلماء النوويين الذين قُتلوا، ثم شرع التلفزيون الإيراني في بث أناشيد وطنية وإسلامية ترافقت مع هذه الأخبار والصور، إلى جانب اقتباسات من شخصيات بارزة في الجمهورية الإسلامية، وأناشيد النصر، والتأكيد على مواصلة طريق "جبهة المقاومة".

لكن منذ ساعات ما بعد الظهر، وبعد صدور بيانين عن المرشد الإيراني، أحدهما مكتوب والآخر مصوّر، بدأ المذيعون والخبراء في البرامج التلفزيونية بالدقّ على طبول "الانتقام القاسي". وقال آية الله علي خامنئي في بيانه المصوّر إن "القوات المسلحة ستتحرك بقوة، وستجعل النظام الصهيوني الخبيث في مأزق"، وهي العبارة التي أعادت تشكيل أسلوب التغطية الرسمية، ونفخت في بوق الانتقام.

ومع حلول المساء، انطلقت الصواريخ الباليستية الإيرانية نحو تل أبيب، وبدأت القناة الأولى في التلفزيون الإيراني بثا مباشراً لصور مدينة تل أبيب ليلاً، ولقطات تُظهر صواريخ تضرب قلب المدينة، وتحولت هذه الصور إلى خلفية لحوارات مع خبراء يشرحون كيف تجاوزت صواريخ إيران الطبقات الدفاعية الإسرائيلية و"القبة الحديدية"، لتلقن إسرائيل "درساً قاسياً" وتعطيها "رداً ساحقاً".

وهكذا، تبلورت "سردية النصر"، وحتى دوي صفارات الإنذار في تل أبيب اعتُبر دليلاً على الخوف.

وكل ذلك كان يحدث في وقت كانت فيه الهجمات الإسرائيلية على القواعد الجوية الإيرانية ومنشآت نطنز وفوردو وأصفهان النووية مستمرة، بينما ظلّت الطائرات المسيّرة المهاجمة تحلّق في سماء طهران حتى ساعات ما قبل ظهر يوم السبت.

مصدر الصورة

ما مدى خطورة الوضع؟

عندما تسقط الصواريخ، تصبح المسألة مسألة حياة أو موت، حيث يريد الناس أن يعرفوا ما الذي حدث، وكيف يمكنهم حماية أنفسهم وأحبّائهم، وتتطلب الإجابة عن هذين السؤالين معلومات دقيقة، وأي نوع من الرقابة أو التقييد في نقل المعلومات قد يؤدي إلى نجاة البعض أو إلى وفاة آخرين.

ونشر يسرائيل كاتس، وزير الدفاع الإسرائيلي، السبت رسالة على منصة "إكس" دوّت كالقنبلة في إيران حيث كتب يقول: "إذا واصل خامنئي إطلاق الصواريخ على المناطق السكنية في إسرائيل، فإن طهران ستحترق"، وجاءت هذه التغريدة ردًّا على سقوط صواريخ إيرانية في إسرائيل وبمثابة تهديد بردّ انتقامي، ومن الطبيعي أن تثير تغريدة كهذه قلق سكان طهران، بل وقد تؤدي إلى اضطرابات في المدينة، أو على الأقل إلى ازدحام مروري خانق في الطرق المؤدية إلى خارجها. لكن، أليس من حق الناس أن يعرفوا ما الذي يحدث؟ وإلى أي مدى وصلت خطورة الوضع؟

وكثيرًا ما يحاول المسؤولون الإيرانيون عرض الحقائق بالطريقة التي يرونها "صائبة" لمنع ما يسمونه "اضطرابات" و"حربًا نفسية" و"إثارة البلبلة"، ولذلك نسمع باستمرار عبارات مثل "الأضرار طفيفة"، و"المدن آمنة"، و"لقد لقّنا العدو الآن درساً قاسياً". لكن، هل المدن فعلاً آمنة؟ وهل جرى حقاً تلقين "العدو" درساً قاسياً؟

لذلك، خلال تغطية الجولة الجديدة من الهجمات الإسرائيلية على إيران، لم تُنشر عبر القنوات الرسمية سوى حصيلة القتلى من كبار مسؤولي الحرس الثوري الإيراني وعدد من العلماء النوويين مع بيانات مجتزأة حول استهداف المنشآت العسكرية والنووية، وأرقام متفرقة عن القتلى والجرحى أعلنها بعض المحافظين، أو نوابهم، أو في بعض الأحيان مسؤولو الهلال الأحمر في المدن الصغيرة حيث قيل مثلاً إن شخصين قُتلا في تبريز وأصيب 6، أو أن شخصاً قُتل وأُصيب 4 في محافظة لرستان.

وبدلا من نشر معلومات دقيقة، امتلأت وكالات الأنباء بالبيانات الصادرة عن المسؤولين، وأئمة المساجد يوم الجمعة، والجمعيات الدينية، ومختلف أنواع المؤسسات وجميعها كانت تتحدث عن "مظلومية الشعب الإيراني"، واستمرار "جبهة المقاومة"، وتطالب المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية بـ "الانتقام القاسي". لكن، حتى بعد متابعة هذه الأخبار واحدا تلو الآخر، بقيت الأسئلة الأساسية من دون إجابة وهي:


* كيف نُفذت هجمات بهذا الحجم؟
* كم عدد المسؤولين المدنيين والعسكريين والعلماء النوويين الذين قُتلوا؟
* كم عدد القتلى المدنيين، وما هي أسماؤهم؟
* كم طفلاً قُتل بين المدنيين؟
* ما هي المنشآت النووية والقواعد العسكرية التي استُهدفت بالتحديد؟
* ما حجم الخسائر الفعلية؟
* كم عدد الجنود والضباط الذين قُتلوا في القواعد؟
* ما هي الأهداف التي تم استهدافها بالقرب من المناطق السكنية؟
* والأهم من كل ذلك: هل طهران وبقية المدن الإيرانية آمنة؟

وحتى مساء 14 يونيو/حزيران تقريبًا، لم يُنشر أي خبر عن مدى نجاح إيران في التصدي لهذه الهجمات، وما إذا كانت قد نجحت في اعتراض طائرة مسيرة أو مقاتلة أو صاروخ، حتى أن إسرائيل نفت خبر "إسقاط" مقاتلتين من طراز إف 35 وأسر طيار، ولم تُنشر أي صور للطائرتين المقاتلتين اللتين تم إسقاطهما ولا للطيار الأسير.

مصدر الصورة

في حالة المواجهة العسكرية ماذا يجب أن يفعل الناس في الشوارع؟

وبالنسبة لكبار السن الذين عايشوا الحرب العراقية الإيرانية، كان صوت الانفجارات في طهران يُذكرهم بوابل الصواريخ في سنوات الحرب، والذي بحسب أحد مستخدمي منصة إكس "يفتح الجراح القديمة"، إلا أن الفارق هذه المرة كان في تساؤل كثيرين: "لماذا لم تُطلق صفارات الإنذار؟" ذلك الصوت الذي كان يتردد صداه في الأزقة الخلفية والطرقات كلما ظهرت طائرات ميغ العراقية خلال الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت 8 سنوات، مما يعطي للناس فرصة للهروب إلى الأقبية أو الملاجئ أو أيّ مأوى.

وكان الزحام على محطات الوقود والمخاوف من نقص المواد الغذائية دليلاً على حاجة الناس إلى معلومات دقيقة وموثوقة ليتمكنوا من اتخاذ قرارات مناسبة في مواجهة وضعٍ طارئ.

وفي عتمة الفجر وغموض الأخبار المتضاربة بين الصحيح والمغلوط، خرج في نهاية المطاف وزير الداخلية الإيراني بعد ساعات طويلة ووجّه توصيات إلى الناس، طالبًا منهم أن:


* يحافظوا على هدوئهم
* لا يقوموا بأي تصرف يثير القلق العام
* يثقوا فقط بالمعلومات الرسمية والموثوقة
* يتجنبوا التنقلات غير الضرورية
* ويتعاونوا مع فرق الإغاثة عند الحاجة

لكن هذه العبارات بدت كأنها مطالب أكثر من كونها توصيات، حيث صيغت بهدف "السيطرة على الاضطرابات والرأي العام"، فبدلاً من تقديم إجابات، بدأ المسؤولون الإيرانيون منذ الفجر، حوالي الساعة 5 صباحاً، بتهديد من "ينشرون الأكاذيب"، وهي عبارة قانونية ذات تبعات جنائية، ومن بين هذه التهديدات، دعت النيابة العامة مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي إلى الامتناع عن التطرق إلى مواضيع "تُخلّ بالأمن النفسي للمجتمع"، وأكدت أنها ستتخذ إجراءات قضائية بحق من يخالف.

ثم ذهبت منظمة استخبارات الحرس الثوري الإيراني أبعد من ذلك، وأصدرت بياناً أعلنت فيه أنها "وضعت على جدول أعمالها تحديد واتخاذ إجراءات وقائية بحق العناصر التي تزرع الاضطراب النفسي وتخلّ بالنظام العام". وتُعد هذه المنظمة جهازاً استخباراتياً يعمل بالتوازي مع وزارة الاستخبارات الإيرانية، كما دعت المنظمة المواطنين إلى تزويدها بالمعلومات "في حال وقوع أي تحركات أو أحداث مشبوهة".

وفي اليوم التالي، السبت، أفاد التلفزيون الرسمي بأن 5 أشخاص اعتقلوا في يزد بتهمة "إثارة الرأي العام".

مصدر الصورة

المعلومات "الضرورية" بدلا من الإعلام

غالبًا ما يكتفي مسؤولو الجمهورية الإسلامية بنشر "المعلومات الضرورية" بدلًا من "الإعلام". وهذا التقييد هو ما يحدّ من نشر المعلومات، ويدفع الجمهور إلى اللجوء إلى منصات التواصل الاجتماعي بحثًا عن إجابات، والبحث عن معلومات يصعب أو يستحيل التحقق من دقتها، على الأقل من وجهة نظر من يفتقرون إلى الخبرة في مجال المعلومات والمعرفة الإعلامية.

وفي الوقت نفسه، وتماشيًا مع جهود الحكومة الإيرانية "لمنع تقويض الأمن النفسي للمجتمع" و"إثارة الرأي العام"، تُقلّل وسائل الإعلام التابعة لها من شأن الأحداث المؤسفة، فعلى سبيل المثال، صرّح أكبر صالحي، معاون محافظ أصفهان للشؤون الأمنية، عن انفجار نطنز، قائلا: "هذا الصباح، تعرّض موقع نطنز النووي للهجوم، لكن الهدوء عاد ولا داعي للقلق" بينما قال مسؤول آخر: "تعرّضت منشآت نطنز للهجوم، لكن يبدو أن الأضرار سطحية"، وقال خبير آخر: "العديد من الطائرات المسيرة التي حلّقت فوق طهران ليلًا كانت تابعة لنا، ولا داعي للقلق".

وهناك مشكلة أخرى وهي أنّ المسؤولين غالبًا ما يتحدثون بعبارات عامة ويقولون: "سيتم الإعلان عن التفاصيل لاحقًا"، ولكن هذه التفاصيل لا تظهر أبدًا.

على سبيل المثال، شدد محافظ سنندج على ضرورة توخي الحذر من "وسائل الإعلام الأجنبية" وعدم الالتفات إلى "شائعاتها وإثارة الأجواء"، والحذر من "الحرب النفسية". وتعني هذه النصيحة في هذا السياق أن المسؤولين غالبًا ما يتجنبون تقديم المعلومات بدعوى أن "تقديم هذه المعلومات سيساعد العدو"، وبالتالي، غالبًا ما تُعتبر الشفافية في المعلومات تهديدًا للأمن القومي يُبرر التكتّم عليها.

وهناك مبرر آخر يذهب إلى أبعد من ذلك، وهو أن بعض المسؤولين يقولون رداً على سؤال عما حدث بالضبط: "هل تريدون منا أن نعطي أسراراً عسكرية للعدو؟".

وفي الوقت الذي تسعى فيه السلطات إلى حجب المعلومات، تسعى كذلك إلى نزع المصداقية عن أي معلومات أخرى متداولة. فعلى سبيل المثال، قال حسن عابديني، نائب مدير القسم السياسي في هيئة الإذاعة والتلفزيون الإيرانية، قرابة الساعة الخامسة والنصف من صباح الجمعة، إن على الناس توخي الحذر في التعامل مع المعلومات على مواقع التواصل لأن العدو "ينشر تلوثًا معلوماتيًا" عبر الأكاذيب، مثل نشر أسماء مزيفة للضحايا، مما يثير "القلق" في المجتمع. كما حذّر من الذكاء الاصطناعي، ودعا الناس لعدم تصديق كل ما يرونه. وفي السياق ذاته، دعا مقدم برنامج "جهت" التلفزيوني المشاهدين إلى متابعة الأخبار فقط من خلال الإعلام الرسمي، وأن يتروّوا لبضع ثوانٍ قبل إعادة نشر أي خبر على مواقع التواصل للتأكّد من صحته.

ورغم صحة هذه النصائح التي تعكس إدراكًا لمفهوم "الثقافة الإعلامية"، إلا أنّ عدم قيام القنوات الرسمية بدورها في نقل المعلومات بدقة، لا يترك للناس خيارًا سوى البحث عن مصادر بديلة، وهو ما قد يؤدي إلى "قلق عام أكبر" واتخاذ قرارات لا تستند بالضرورة إلى الواقع.

بي بي سي المصدر: بي بي سي
شارك

أخبار ذات صلة


الأكثر تداولا اسرائيل إيران أمريكا

حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا