أنقرة- قال جودت يلماز نائب الرئيس التركي إن إسرائيل تسعى إلى خلق منطقة غير مستقرة، في حين أن الواجب الحقيقي هو بناء بيئة مستقرة في المنطقة بأسرها، مؤكدا أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لا تعترف بأي حدود أخلاقية أو قانونية في عدوانها.
وأضاف يلماز في مقابلة خاصة مع موقع الجزيرة نت أن العالم اليوم أمام مشهد غير إنساني بكل ما للكلمة من معنى في قطاع غزة تستمر فيه إسرائيل في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية أمام أنظار العالم أجمع.
وفي الشأن السوري، قال نائب الرئيس التركي إن الشعب السوري دفع ثمنا باهظا جراء الصراعات، ويستحق الآن بيئة مستقرة وآمنة، وهو ما تبذل تركيا قصارى جهدها لتحقيقه، مشددا على أن إسرائيل من خلال انتهاكها للحدود تقوم بأعمال تخل بالاستقرار، وتضر بمسار إعادة الإعمار في سوريا.
وتناولت المقابلة قضايا عديدة، من بينها 7 ملفات رئيسية، منها الوضع في قطاع غزة، ومستقبل سوريا، واللقاء الرباعي في الرياض بين ولي العهد السعودي محمد بن سلمان والرئيس الأميركي دونالد ترامب والتركي رجب طيب أردوغان والسوري أحمد الشرع ، والأوضاع الاقتصادية في تركيا، وتداعيات مظاهرات المعارضة، ورؤية تركيا للنظام العالمي والتجارة الدولية، وملف حزب العمال الكردستاني .
وفي ما يلي نص الحوار:
سوريا بلد في غاية الأهمية بالنسبة إلينا، فهي جارة وتربطنا بها حدود تتجاوز 900 كيلومتر، ولهذا فإن أي تطور -سواء أكان إيجابيا أم سلبيا- يقع فيها فإنه يمسنا عن قرب.
لقد شهدت سوريا ثورة بعد أكثر من 60 عاما من الدكتاتورية ومن حكم جائر وظالم، واليوم تدخل سوريا مرحلة جديدة، وأساس موقفنا منها في هذه المرحلة يقوم على بناء الثقة والاستقرار فيها وصون وحدتها وسلامة أراضيها.
وفي هذا السياق، نولي أهمية بالغة لقيام نهج حكم شامل يضم جميع مكونات المجتمع السوري.
ومن جهة أخرى، نحن نتحدث عن بلد مدمَّر، لا على مستوى البنية التحتية المادية فحسب، بل كذلك على مستوى المؤسسات، وهذا البلد بحاجة إلى إعادة بناء شاملة تشمل الإطار القانوني والمؤسساتي، إضافة إلى إعادة تأهيل بنيته التحتية من طرق وشبكات طاقة ومناخ استثماري واقتصادي.
وإزاء هذا الوضع تركيا تبدي أعلى مستويات التضامن مع سوريا في جميع هذه المجالات، وتسعى جاهدة إلى دعم استقرارها السياسي وأمنها، وهي مستعدة لتقاسم خبراتها وتقديم الدعم الكامل في مسيرة إعادة الإعمار.
تسعى تركيا جاهدة لدعم الاستقرار السياسي والأمني لسوريا، وهي مستعدة لتقاسم خبراتها وتقديم الدعم الكامل لها في مسيرة إعادة الإعمار
نحن نؤمن بأن استقرار سوريا وقيامها من جديد كدولة مزدهرة لا يصب في مصلحة الشعب السوري وحده، بل هو أمر حيوي للمنطقة بأسرها، فاستقرار سوريا سيسهم بقدر كبير في استقرار المنطقة ورفاهيتها.
وإذا نظرنا إلى هذا الموضوع من منظور تركي فإن سوريا حين تصبح أكثر أمنا واستقرارا بعد إعادة الإعمار ستعود على تركيا بفوائد جمة في شتى المجالات، وأنا أؤمن بذلك من أعماق قلبي.
لقد دفع الشعب السوري ثمنا باهظا جراء الصراعات، ويستحق الآن بيئة مستقرة وآمنة، وكما ذكرت فإن تركيا تبذل قصارى جهدها لتحقيق ذلك، لكن إسرائيل من خلال انتهاكها الحدود تقوم بأعمال تخل بالاستقرار، وتضر بمسار إعادة الإعمار في سوريا ، ونحن نرفض مطلقا هذه الأعمال، ونعتقد أن الشعب السوري لا يستحق مثل هذا التعامل.
كنا وما زلنا نتحرك على جميع المنصات الدولية، ونتعاون مع جميع الدول المعنية بالقضية السورية لوقف هذه الانتهاكات التي تعد خرقا للقانون الدولي وحقوق الشعب السوري، ونأمل ألا تمعن إسرائيل في ممارساتها هذه، وللأسف فإنها تُظهر السلوك نفسه في لبنان أيضا.
والواقع أن حكومة نتنياهو تسعى إلى خلق منطقة غير مستقرة، وتحاول استثمار هذه الفوضى لمصالحها، في حين أن الواجب الحقيقي هو بناء بيئة مستقرة في المنطقة بأسرها.
لذا، فإن موقفنا واضح تماما، ولا نقبل بأي شكل من الأشكال هذه الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا، ونكرر في كل مناسبة أنها تعد انتهاكا للقانون الدولي، ونستمر في جهودنا لتمكين الحكومة المركزية في سوريا وتعزيز مناخ السلام في المجتمع السوري.
كما تعلمون، تم التوصل إلى اتفاق بين إدارة دمشق وقوات سوريا الديمقراطية، وتم تحديد خارطة طريق معينة، وما ننتظره هو الالتزام بذلك الاتفاق، فالأصل أن تعود السلطة في جميع المناطق -بما فيها تلك الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية – إلى الحكومة المركزية، وهنا نقصد سوريا الشاملة التي تضم جميع مكوناتها، لا نتحدث عن طائفة أو عرق أو مذهب بعينه.
نحن نقصد بسوريا الشاملة ذلك الكيان الذي يجتمع فيه على أساس المواطنة المتساوية السنّة والعلويون والمسلمون والمسيحيون والدروز والأكراد والتركمان والعرب، نريد أن نرى جميع هذه المكونات تلتقي على أرضية المواطنة المتساوية، وهذا لن يتحقق إلا بتمكين الحكومة المركزية.
ننتظر إذن تشكيل بنية حوكمة جديدة في سوريا تشمل تمثيلا واسعا عبر البرلمان والدستور الجديد الجاري العمل عليه وكل ما يلزم من مقومات بناء الدولة، وعندما يتحقق ذلك فإن الأكراد مثلهم مثل غيرهم من الأعراق مواطنون سوريون يشاركون في الحياة السياسية والاقتصادية، وسيكون لهم دور إيجابي في إعادة إعمار سوريا، لا مثار جدل أو تهديد.
أما المسارات الأخرى فإنها تهدد وحدة سوريا وسلامة أراضيها، وتفتح الباب للتدخلات الخارجية، وهذا لا يخدم لا الأكراد ولا سوريا، ما يجب أن يكون هو أن تتعاون جميع المكونات التي تتقاسم تاريخا وحضارة واحدة منذ قرون في بناء مستقبل مشترك لسوريا.
وفي هذا السياق، أرى أن عملية صياغة الدستور بالغة الأهمية، لذا من الضروري أن تدار هذه العملية بطريقة تشاركية، وأن تنتج إطارا سياسيا شاملا، لكن جوهر القضية يتمثل في تقوية الحكومة المركزية، فعندما تنجح هذه الحكومة في بناء قدراتها المؤسسية وتبسط سلطتها على كامل البلاد فإن كثيرا من المشكلات ستزول من تلقاء نفسها.
ومن غير الصحيح أن ننظر إلى سوريا بعين الماضي أو بعقلية نظام الأسد، نحن الآن بصدد الحديث عن سوريا جديدة يجب أن تتفادى أخطاء الحقبة الماضية، وإن وضع أي مجموعة نفسها في خانة الأقلية لن يجلب لها أي منفعة، بل يجب على الجميع أن يأخذ مكانه في سوريا الجديدة بصفته مواطنا من الدرجة الأولى، وعلى أساس المواطنة المتساوية.
كذلك، فإن رصيد سوريا الحضاري يشكّل في ذاته أساسا صلبا لهذا البناء، فعندما نطالع تاريخ سوريا نرى أنها ليست بلدا عاديا، بل تحمل إرثا حضاريا عظيما، وشعبها يمتلك ثقافة تعايش راسخة، وحتى في زمن النظام القمعي كنت ألاحظ أثناء زياراتي لها وأنا وزير التنمية أن المجتمع السوري كان قادرا على التعايش رغم كل شيء، ترى هذا في الأسواق وفي الشوارع.
وهذا يدل على أن البنية الثقافية والتاريخية اللازمة متوفرة لدى الشعب السوري، ما يجب الآن هو أن تُترجم هذه الإمكانيات إلى إطار قانوني يضمنها، وعندما ينجح الشعب السوري في ذلك فإنه سيتجاوز سريعا أي دعوات انفصالية أو نزعات تؤدي إلى صراعات داخلية.
قد تكون هناك قوى -في مقدمتها إسرائيل – ترى مصلحتها في إبقاء سوريا في حالة صراع داخلي يجعلها عرضة للتدخلات، لكن هذه الرؤية لا تخدم الشعب السوري ولا الأكراد ولا العرب ولا التركمان.
لذلك، يجب أن يكون منظورنا منطلقا من حاجات الشعب الحقيقية وتطلعاته المشروعة، وأنا أؤمن بأن الشعب السوري قادر على إنجاز ذلك.
بين الرئيس ترامب ورئيس جمهوريتنا تاريخ مشترك وتجربة عمل طويلة أقاما خلالها علاقة قوية، وحافظا على حوار مستمر.
وما نلاحظه اليوم هو أن هذه العلاقة تستأنف على نحو إيجابي جدا، وقد تابعنا ذلك من خلال اللقاءات والتعليقات التي صدرت علنا، وأيضا من خلال ما جرى في الكواليس.
وخلال زيارة ترامب إلى السعودية أعرب عن استعداده للقدوم إلى تركيا إن وافق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على الحضور ولقاء نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
كذلك، أدلى ترامب بتصريحات مهمة بشأن رفع العقوبات عن سوريا، موضحا أنه اتخذ هذا القرار استجابة لتوصية من الرئيس رجب طيب أردوغان.
وفي الاجتماع الذي حضره كل من الأمير محمد بن سلمان والرئيس أحمد الشرع شارك الرئيس أردوغان عبر الاتصال المرئي، وأجريت خلاله مراجعة جماعية وتقييم للوضع، وقد تكون وسائل الإعلام العالمية تجاهلت هذا الجزء عمدا أو لم تبرزه بشكل واضح لكن الحقيقة أن الرئيس أردوغان كان حاضرا في ذلك اللقاء وشارك في النقاشات التي أجريت.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشادة باستضافة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وبالرؤية التي طرحها، لقد رأينا أن تعاون تركيا مع السعودية يثمر نتائج إيجابية جدا، وهذا اللقاء شكّل نموذجا رائعا لهذا التعاون.
رؤية السعودية بشأن العقوبات تتقاطع مع رؤية الرئيس أردوغان، وهو ما أفضى إلى نتائج بالغة الأهمية
كذلك، فإن رؤية السعودية بشأن العقوبات تتقاطع مع رؤية رئيس جمهوريتنا، وهو ما أفضى إلى نتائج بالغة الأهمية، فالعقوبات التي فرضت في السابق على نظام الأسد الظالم تحولت لاحقا إلى أداة لمعاقبة الشعب السوري وأصبحت عائقا كبيرا أمام إعادة الإعمار.
لذلك، فإن القرار برفع هذه العقوبات يعد بالغ الأهمية من أجل استقرار سوريا، ولفتح الطريق أمام إعادة إعمارها.
وهذه التطورات تؤكد على القيمة الكبيرة للحوار بين دول المنطقة، خصوصا بين تركيا ودول الخليج -وعلى رأسها السعودية- لما لهذا الحوار من أثر بالغ في استقرار المنطقة.
نعم، كل اللقاءات التي نجريها مع دول المنطقة تتناول أيضا البعد الاقتصادي، فإعادة الإعمار جزء لا يتجزأ من تعزيز الأمن، ومن دون إعادة إعمار حقيقية لا يمكن الحديث عن أمن فعلي.
رفع العقوبات يحسّن مناخ الاستثمار، سواء على مستوى الاستثمارات الحكومية في البنية التحتية أو على مستوى الاستثمارات الخاصة التي لا تقل أهمية، وكان لا بد من إزالة تهديد العقوبات كي تتمكن الشركات من القدوم والاستثمار في سوريا.
الاستثمار هناك يتطلب سلسلة منسقة من العمليات: لوجستية، وتمويلية، وتوريدية، وكلها كانت متأثرة بالعقوبات، وبالتالي فإن رفعها سيحسّن بيئة الأعمال بشكل كبير.
الشعب السوري لا يملك فقط ثقافة التعايش، بل يمتلك أيضا روح المبادرة وريادة الأعمال، كما أن له جالية واسعة -خاصة في تركيا ودول الجوار- من رجال الأعمال وأصحاب المشاريع، ولذلك فإن فتح الباب لعودة هؤلاء للاستثمار في بلدهم أمر في غاية الأهمية، كما أن جذب رؤوس الأموال من الخارج سيعزز هذه الديناميكية.
وقد بدأنا نلمس تحركا في هذا الاتجاه من قبل الاتحاد الأوروبي بعد الولايات المتحدة نحو رفع العقوبات بشكل شامل، ومن شأن هذا أن يسهم كثيرا في تحسين الوضع الاقتصادي والأمني بالمنطقة.
مشروع "تركيا بلا إرهاب" له أهمية قصوى، أولا لأمن تركيا وسلامها ومستقبلها، ولا يقل أهمية من حيث أثره على استقرار الشرق الأوسط، فكما تعلمون هو شأن يطال العراق وسوريا وإيران بشكل مباشر.
لذلك، فإن تفكيك التنظيم الإرهابي (حزب العمال الكردستاني) وتخليه عن السلاح وتراجع أجندة الإرهاب سيعزز أمن المنطقة ككل، فالمنطقة التي تتحرر من الإرهاب ستنعم ببيئة أفضل من حيث الرفاه والاستقرار والتطور الديمقراطي.
والأهم من ذلك أن هذا الواقع سيوسع مجال السياسة المدنية، فبدلا من لغة السلاح والعنف سيتاح للناس خوض العمل السياسي بأساليب مدنية وإنسانية والتحاور في قضاياهم بطرق ديمقراطية وسلمية.
كذلك، فإن هذه العملية تظهر قدرة المنطقة على حل مشكلاتها بنفسها، فكلما أظهرت دول المنطقة القدرة على التعامل مع قضاياها الداخلية دون تدخل خارجي دل ذلك على نضج سياسي كبير.
ولهذا، نرى أن مشروع "تركيا بلا إرهاب" مشروع بالغ القيمة من منظور حل النزاعات داخليا.
دعونا نستعرض المراحل من بدايتها، الإطار العام لهذا المشروع يتجلى في رؤية "قرن تركيا" التي أعلنها رئيس جمهوريتنا، ومن بين ركائز هذه الرؤية أن يكون القرن الحالي قرن السلام والأخوة.
وفي ضوء التطورات الإقليمية الأخيرة شدد الرئيس أردوغان في 30 أغسطس/آب 2024 على أهمية "تعزيز الجبهة الداخلية"، وبيّن الحاجة إلى ترسيخ وحدتنا الوطنية والتصدي لمحاولات زعزعة الأمن عبر الفتن الطائفية والعرقية.
وفي هذا السياق، أدلى زعيم حزب الحركة القومية دولت بهتشلي بتصريح تاريخي قلب المألوف السياسي، تلته دعوة من مؤسس التنظيم عبد الله أوجلان قال فيها "لم يعد لهذا التنظيم أي معنى، أعلنوا حله وتخلوا عن السلاح"، وقد استجاب التنظيم لهذه الدعوة، وأعلن قبل أسابيع قليلة قراره حل نفسه والتخلي عن السلاح.
وهكذا دخلنا مرحلة جديدة يجري فيها التركز على كيفية تجسيد هذا القرار ميدانيا، وقد بدأنا بتأسيس آليات خاصة لمتابعة الأمر، كما أن أجهزتنا الاستخبارية تلعب دورا محوريا في هذا السياق، وكذلك قوات الأمن التي تسيطر تماما على الميدان.
وبالتوازي، ستتابع البعثات الدبلوماسية والمؤسسات المعنية هذه التطورات وترصد تنفيذ القرار وترفع تقارير دقيقة، وعندما نصل إلى مستوى تطور مرضٍ على الأرض سنفتح صفحة جديدة بكل تأكيد، وما يعنينا الآن هو مراقبة التطبيق العملي لهذا القرار التاريخي.
نحن لا نزال في بداية الطريق، وكما تعلمون فمثل هذه العمليات لا تسير بسهولة، ولا سيما في بيئة غير طبيعية مليئة بالتعقيدات والمتغيرات، وأجهزتنا المختصة تتابع الوضع بمنتهى الحذر والدقة، وعندما تصل إلى مستوى مناسب من الرصد والمراقبة ستُصدر تقاريرها وتعرض التقييمات الدقيقة.
وفي هذه المرحلة علينا أن نثق بمؤسساتنا ونترك لها مسؤولية قيادة هذا المسار، فتركيا تمتلك مؤسسات قوية وبنية تحتية راسخة، ونحن واثقون من قدرتها على إدارة هذه العملية بنجاح.
ذلك يتوقف على طبيعة الاحتياجات الفنية لمؤسساتنا، وبالطبع، هناك بعد دبلوماسي وإقليمي ودولي لهذا الملف، خاصة أن بعض العمليات تجري على أراضٍ عراقية وربما في أماكن أخرى، لذلك فإن العلاقات الدولية سيكون لها دور، لكن جوهر المسألة يتمثل في متابعة مؤسساتنا الخاصة هذه العملية ورصدها بدقة، وأنا على يقين بأنها ستقوم بذلك بأفضل شكل ممكن.
عندما تُرفع ظلال الإرهاب وتُسلّم الأسلحة بشكل نهائي ولا رجعة فيه فإننا سننتقل إلى بيئة مختلفة تماما، فالإرهاب طالما سمّم الديمقراطية والسياسة المدنية، كما كان عائقا كبيرا أمام التنمية وفرض علينا تكلفة اقتصادية ضخمة.
في غياب الإرهاب ستنتعش السياسة المدنية والديمقراطية بكامل طاقتها، وستصبح بيئة التنمية والاستثمار أكثر إشراقا.
نحن لا ندخل كثيرا في الجدل القانوني بهذا الخصوص، ما نراه أكثر إلحاحا في هذه المرحلة هو مسألة التخلي عن السلاح، وتحقيق تقدم ملموس على الأرض، أما الإصلاحات القضائية فلنا بشأنها خطة واضحة ومعلنة منذ مدة طويلة، وهي ماضية قدما بمعزل عن هذا المسار.
لدينا إستراتيجية إصلاح قضائي انطلقت قبل بدء هذه العملية، ومن الطبيعي أن يكون لجميع الأحزاب رؤاها ومقترحاتها، لكننا لا نرى من المناسب ربط هذه المطالب القانونية بمسار التخلي عن السلاح.
فقد قدّمنا حُزما متعددة من الإصلاحات القضائية إلى البرلمان، وسنواصل العمل في هذا الاتجاه ضمن إطار الإستراتيجية العامة للعدالة، لكن ربط هذا كله بالمسار الأمني القائم حاليا نعتبره غير ملائم.
أهم ما يشغلنا اليوم هو التحقق من تنفيذ قرار التخلي عن السلاح على الأرض.
في مثل هذه العمليات يجب أن نكون يقظين للغاية تجاه محاولات التحريض ونشر المعلومات المضللة، فمثل هذه المسارات دائما ما تكون عرضة للاستهداف من قِبل قوى لا تريد استقرارا لتركيا ولا تريد لهذه المشكلة حلا.
والتجارب السابقة علمتنا أن أطرافا تسعى إلى إشاعة الفوضى والتخريب عبر دس معلومات خاطئة أو افتعال أزمات، وقد يُروج البعض لأحداث لا صلة لها بهذه العملية من أجل خلق بلبلة في الرأي العام.
لذلك، فالأهم في هذا السياق هو التحلي بالعزم والتركيز على جوهر العملية وإتمامها في أقصر وقت ممكن، ومؤسساتنا تتولى هذا الدور بحزم، وتعمل وفق رؤية سياسية صلبة يقودها رئيس الجمهورية شخصيا، وقد أصبحت هذه العملية في الوقت الحالي سياسة دولة، وليست مجرد مبادرة عابرة.
ومن خلال متابعتي للرأي العام ألاحظ ارتياحا عاما، خاصة في مناطق الشرق والجنوب الشرقي من البلاد، حيث يسود شعور بالتفاؤل، وكل المواطنين في تركيا يتطلعون إلى التخلص النهائي من وباء الإرهاب، لكن من الطبيعي أن تُطرح بعض التساؤلات والمخاوف في الأوساط العامة، ويعبَّر عنها ضمن الأطر المشروعة، وهذا أمر مفهوم.
وفي هذا السياق، تلعب تصريحات المؤسسات الرسمية والأحزاب السياسية دورا مهما في توعية الرأي العام وتزويده بالمعلومة الصحيحة، ومع تقدم العملية سيلمس المواطنون النتائج بشكل أوضح، وبناء عليه أؤكد أنه لا داعي لأي قلق، فمبادئنا وثوابتنا الوطنية واضحة: تقوية وحدتنا الوطنية، والتخلص من آفة الإرهاب.
كما تفضلت، نحن أمام مشهد غير إنساني بكل ما للكلمة من معنى، وإسرائيل مستمرة في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية أمام أنظار العالم أجمع، حيث لا تعترف حكومة نتنياهو بأي حدود أخلاقية أو قانونية في عدوانها.
وبالنسبة للموقف التركي، فقد وقفت تركيا منذ اللحظة الأولى إلى جانب الشعب الفلسطيني المظلوم، واتخذت إجراءات حازمة في هذا الصدد.
الدول الإسلامية مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى باتخاذ موقف موحد وخطاب مشترك وتحرك منسق تجاه ما يجري في غزة
ومن المعلوم أن رئيس جمهوريتنا كان طوال حياته من أبرز المدافعين عن قضية فلسطين ، وهو اليوم يرفع صوته عاليا في جميع المنابر الدولية لفضح ما يجري من إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية، وليس الأمر مقتصر على التصريحات، فنحن من أكثر الدول التي تقدم مساعدات إنسانية إلى غزة.
وكما ذكرت، فإن الأوضاع تتفاقم يوما بعد يوم، وقد كنا الدولة الوحيدة تقريبا التي أوقفت جميع أشكال التبادل التجاري مع إسرائيل.
وعلى الصعيدين السياسي والدبلوماسي، نعمل جاهدين على جميع المستويات، من الولايات المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي ، ومن دول الجوار إلى الدول الكبرى لزيادة الضغط الدولي على حكومة نتنياهو، ويجب أن نرى أثر ذلك بشكل فوري في قطاع غزة، لأن الوقت بات ضيقا جدا.
ما يجري في غزة ليس قضية تخص الدول الإسلامية فقط، بل هو شأن إنساني شامل، لذا نطلق عليه "تحالفا إنسانيا"، لكن لا شك أن الدول الإسلامية تتحمل مسؤولية خاصة، وهي مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى باتخاذ موقف موحد وخطاب مشترك وتحرك منسق يعكس وحدتها وقوتها.
يجب أن تُبذل كل الجهود الممكنة بروح من التضامن والتكامل، ونحن في تركيا لا ندخر جهدا في هذا الاتجاه، حيث نجري اتصالات مع جميع الأطراف، ونسعى إلى قيادة جهود جماعية قادرة على وقف المجازر، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح المدنيين الأبرياء.
ما يهمنا في البرنامج هو الإطار العام والاتجاه الإستراتيجي، فإذا كان البرنامج مبنيا على أسس سليمة وكان ينفذ بإرادة قوية فإن تقلبات قصيرة الأمد لا تعيق مساره، صحيح أن الأحداث العالمية والإقليمية قد تؤثر فيه سلبا أو إيجابا، ولكن طالما أن البوصلة واضحة فإن الوصول إلى الأهداف مضمون، حتى إن تأخرنا شهرا أو تقدمنا شهرا.
لدينا برنامج اقتصادي قوي صيغ بالتشاور مع جميع أصحاب المصلحة، من رجال الأعمال إلى العاملين في الزراعة والصناعة، ويقوم هذا البرنامج على 4 أعمدة:
أولا: الاستقرار السعري وخفض التضخم ، وهو أولويتنا القصوى، ونحن ماضون بعزم في تنفيذ سياسة انكماش نقدي فعالة لتحقيق هذا الهدف.
ثانيا: النمو المتوازن والمستدام: دون أن نغفل عن مواصلة النمو وتوفير فرص العمل، نركز على تحقيق توازن بين الاستثمار والإنتاج والتصدير والتوظيف.
ثالثا: الرفاه الاجتماعي الدائم: نسعى إلى تحسين مستوى المعيشة بشكل دائم عبر سياسات اقتصادية تحمي شرائح المجتمع كافة.
رابعا: إعادة إعمار مناطق الزلزال: نحن بصدد أكبر ورشة إعمار في العالم حاليا، لمعالجة آثار الزلزال الذي ضرب 11 ولاية و14 مليون مواطن.
وننفق حاليا متوسطا سنويا يُقدّر بنحو 35 مليار دولار في هذا المجال، ومن المتوقع أن يتجاوز مجموع ما أنفق بحلول نهاية هذا العام 100 مليار دولار، وسنسلّم 450 ألف وحدة سكنية بحلول نهاية العام.
المسألة لا تتعلق فقط بالإسكان، بل ببناء شبكات الطرق والمستشفيات والمدارس والمناطق الصناعية المنظمة، ولحسن الحظ فإن هذه النفقات مؤقتة، وسنكون قد أنهينا الجزء الأكبر منها العام المقبل، مما سيهيئ مدنا أكثر أمنا واستعدادا للمستقبل.
أحد رؤساء البلديات خضع لتحقيق بشأن قضايا فساد، ولم تكن المشكلة في التحقيق ذاته، بل في محاولات زعزعة الشارع بعده، فمحاولة خلق مناخ من انعدام الثقة أخافت بعض المستثمرين الأجانب الذين تساءلوا: هل نحن مقبلون على اضطرابات شبيهة بما حدث في "جيزي بارك" عام 2013؟ هل سنشهد أزمة أمنية طويلة الأمد؟
هذا الأمر أحدث تأثيرا محدودا، لكنه زال بسرعة، إذ سرعان ما اتضح أن تركيا لا تشهد انهيارا أمنيا، وأن الأمن مستتب في الشوارع، فعاد الهدوء وبدأت مؤشرات الاقتصاد تستقر مجددا.
وفي الوقت ذاته، كانت لتصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن الرسوم الجمركية آثار عالمية، إذ رفعت منسوب المخاطر في جميع الاقتصادات الناشئة، وزادت حالة الضبابية، مما أثر على حركة الأسواق.
من الواضح أننا غادرنا مرحلة النظام التجاري الليبرالي العالمي، ودخلنا حقبة جديدة يتزايد فيها التنافس، ويصعد فيها التيار الحمائي
وقد ارتفع مؤشر المخاطر الائتمانية (سي دي إس) من أقل من 300 نقطة إلى أكثر من 370، لكنه عاد وتراجع مجددا إلى ما دون 300، مدفوعا بموقع تركيا الإستراتيجي وتراجع نسبي في حالة عدم اليقين، وهذا التحسن ترافق مع عودة تدفقات رؤوس الأموال وارتفاع احتياطيات البنك المركزي .
ورغم أن البلاد دخلت مرحلة تعافٍ اقتصادي فإن مسار الاستقرار لا يزال يتطلب وقتا، ولا سيما في ظل الغموض المحيط بالنزاعات التجارية الدولية.
من الواضح أننا غادرنا مرحلة النظام التجاري الليبرالي العالمي، ودخلنا حقبة جديدة يتزايد فيها التنافس ويصعد فيها التيار الحمائي.
في السابق، كانت وتيرة التجارة العالمية تتجاوز وتيرة النمو، أما الآن فقد انعكست المعادلة: معدل التجارة أقل من معدل النمو، والدول باتت تركز أكثر على أولوياتها الوطنية، وعلى حماية اقتصاداتها المحلية.
وفي الوقت ذاته، تراجعت سلطة منظمة التجارة العالمية ، وأصبحت القواعد التجارية الدولية هشة، وهو أمر لا يبشر بخير على المدى القريب، لكنه سيثير حتما ردود فعل، فالتكاليف الاقتصادية والاجتماعية لهذه التحولات ستدفع الدول إلى البحث عن بدائل.
نحن في تركيا نؤمن بعدالة النظام الدولي ، وندافع عن قواعد تجارة عالمية عادلة، لكننا نقرأ الواقع بواقعية، وإلى أن تتشكل منظومة جديدة تحل محل النظام الحالي المتداعي سنواصل اتباع سياسات مرنة وواقعية تمكننا من التكيف وحماية مصالحنا الوطنية.
في السنوات الأخيرة شهدت علاقاتنا مع الشرق الأوسط تطورات بالغة الأهمية، فعلى الصعيد السياسي نشهد نشاطا دبلوماسيا مكثفا للغاية، كما أن التفاعل بين مجتمع الأعمال ومنظمات المجتمع المدني يظهر أننا في موقع جيد جدا من حيث العلاقات الثنائية.
لدينا علاقات دبلوماسية إيجابية جدا مع العديد من الدول، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، وهذا بالطبع ينعكس على العلاقات الاقتصادية مباشرة، فتركيا بلد مهم جدا، وتوفر فرصا استثمارية كبرى، ومع السياسات الجديدة التي نتبعها والبرامج الاقتصادية التي نعتمدها باتت أكثر جاذبية من حيث الاستقرار على المدى الطويل.
ولهذا السبب، أتوقع أنه كلما تقدم برنامجنا الاقتصادي ازداد تدفق الاستثمارات من هذه الدول إلى تركيا.
قطر بلد نرتبط به بعلاقات خاصة واستثنائية، لقد جمعنا ما يمكن وصفها بـ"وحدة المصير"، ونرى أن علاقاتنا مع قطر تستحق كل وصف نبيل وكل مدح مخلص، فعندما تعرضنا للزلزال كانت قطر من أوائل الدول التي أبدت تضامنها وأظهرت روح الأخوة، وفي الأوقات الصعبة التي مرت بها قطر وقفت تركيا إلى جانبها بوضوح وحزم، وهذه المواقف تعكس عمق علاقاتنا.
وعلى المستوى الاقتصادي، نمتلك علاقات قوية ومتينة مع قطر تثمر عن فوائد متبادلة، ونحن نؤمن بسياسة "رابح-رابح" في جميع علاقاتنا، لكنها تأخذ طابعا أكثر قربا مع قطر بسبب ما يجمعنا من علاقات سياسية وإستراتيجية متميزة.
نأمل أن تُرفع هذه العقوبات في أقرب وقت، خلال الولاية الأولى للرئيس ترامب أدلى بتصريحات مفادها أن تركيا تعرضت للظلم، وأبدى تعاطفا واضحا معنا، وأعتقد أن المناخ الإيجابي الذي يسود حاليا بين رئيسنا والرئيس ترامب سينعكس على هذه الملفات الحساسة.
نحن نؤمن بأن استمرار هذا الزخم في العلاقات سيسفر عن نتائج ملموسة، وحين ننظر إلى الأمر من زاوية المصالح المشتركة نجد أن بيننا وبين الولايات المتحدة روابط قوية، فنحن حليفان كبيران في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، كما أننا نمتلك إمكانيات هائلة للتعاون في ظل النظام الاقتصادي العالمي الجديد.
وفي السنوات الماضية تم تحديد هدف مشترك لرفع حجم التبادل التجاري إلى 100 مليار دولار، وهو هدف واقعي يمكن تحقيقه.
صحيح أن أي بلدين قد يواجهان خلافات، لكن الأهم هو إدراك الصورة الكاملة والتعامل مع المشاكل من خلال الدبلوماسية.
كما أن السفير الأميركي الجديد المعين في أنقرة يبشر بدور إيجابي في تحسين العلاقات، وبالنظر إلى المؤشرات الحالية والرؤية السياسية المطروحة أعتقد أن المستقبل يحمل أفقا إيجابيا للعلاقات بين البلدين.