آخر الأخبار

ما أصعب الكلام عن دمشق!

شارك

قبل نحو ألف عام حاول ذلك ابن عساكر فامتدت به الروايات وقصرت عنه الإمكانات لولا أن أدركه نور الدين زنكي بمال ورجال فتم جهده 70 مجلدا.

هل سمعتم يوما عن كاتب تسمو به همته ليكتب 70 مجلدا في تاريخ مدينته؟ إنه ما يعرف اليوم بـ"تاريخ دمشق".

حديثا، جرب الكتابة عنها نزار قباني، فترك صورا شعرية تتباهى بها جدران المدينة، لكنه ظل يشكو من أنه كلما استل قلمه عرش الياسمين على أصابعه، واكتظ فمه بعصير المشمش والرمان والتوت والسفرجل.

مصدر الصورة بيت شعري لنزار قباني يتغنى فيه بدمشق (الجزيرة)

وجربه علي الطنطاوي، فوصف دمشق مطلع القرن العشرين قبل أن تذهب نفسه حسرات على مرابع الصبا ومجد خبا.

وها أنت تحاول أن تكتب عن دمشق، فتتشابك الخيوط كما تتشابك اليوم أسلاك توزيع الكهرباء مع أغصان ياسمينها! كأنها تتحدى وتقول إن في دمشق شيئا، لا يمكن وصفه، ولا يمكن تجاوزه..

إنها دمشق، تعلمك أن تكتب عنها وأنت تدري أن اللغة ستخونك. فهل تبحث عن بداية من بيت معاوية بن أبي سفيان وعمر بن عبد العزيز الذي حكم نصف العالم وتحدى عقبات الجغرافيا؟ أم عن جاره صلاح الدين الأيوبي الذي غيّر وجه التاريخ؟ أم عن حارات محيي الدين بن عربي الذي شغل أقطاب الأرض -عربا وعجما- بفهم مضامينه وعباراته.

مصدر الصورة جانب من مسجد محيي الدين بن عربي في دمشق (الجزيرة)

ربما تلجأ -كما تايتانيك- إلى فلاشباك من حي التضامن أو جوبر أو مخيم اليرموك، فتتحدث عن مدينة قاومت زلازل الطبيعة أو تدمير الغزاة من أمثال تيمورلنك والمغول.

إعلان

انقل فؤادك حيث شئت من التاريخ، فسوف ينقلب إليك بشقوق ضوء من سقف الحميدية، أو رذاذ متناثر من نوافير بيت دمشقي قديم.

ولكن لا تتعب نفسك مع دمشق، فهذه المدينة كما يقول مظفر النواب تأبى القسمة على اثنين، فإذا طرقت باب توما ستنفتح نافذة لك من باب الجابية، وإن أضعت طريق الجامع الأموي، ستدلك عليه "كنيسة السيدة".

وبينهما سوف تتكفل البوظة الدمشقية أو ربما كوب من شاي بالنعناع بإعادة الضبط المصنعي لتستأنف الرحلة من جديد.

مصدر الصورة البوظة السورية تأسر العين والقلب قبل اللسان (الجزيرة)

ثم لا تخف بعد ذلك من ضياع، فالدمشقيون -كما وصفهم الطنطاوي ووجدتهم بالخبرة- من أكرم الناس، وأشدهم عطفا على الغريب، وحبا له، فهم يؤثرونه على الأهل والولد.

في دمشق، أصخ سمعك وافتح عيونك جيدا، فهذه المدينة متحف في الهواء الطلق، ومصممه حاذق مجرب تعمد أن يخفي نفائسه في كل زاوية، فما أن تقرر أنك شارفت حاجز الملل، تنهض من جانب السوق أو طرف الأبنية جوهرة تخبرك أنك في الحضرة الدمشقية.

في سنوات سبقت الثورة، تم تحديد مسارات سياحية داخل المدينة تطوف بأبرز معالمها، وقد عفت اليوم ملامحها، لكن أطلالها تبدو في جداريات تعرفك بأسماء المواقع من دون أن تقدم عنها تفصيلا.

مثل هذه المبادرات على قيمتها لا تتجاوز البعد التاريخي للأماكن، فالخريطة تحدثك عن أسواق مدينة تقليدية وأسواق للحرفيين، ومعالم تاريخية وثقافية مثل قلعة دمشق، ومعالم دينية كمقام صلاح الدين الأيوبي والجامع الأموي وكنيسة القديس حنانيا وخان أسعد باشا.

مصدر الصورة الزميل أمجد الشلتوني قرب قبر صلاح الدين الأيوبي في باحات المسجد الأموي (الجزيرة)

تحدثني نفسي أن هذه المبادرة التي دعمها الاتحاد الأوروبي ربما لا تليق بدمشق، ففي هذه المدينة كل شيءٍ يُروى مرتين: مرةً كما حدث، ومرةً كما تحب القلوب أن تتذكّر. وما يفوتك من تفاصيل الخرائط يفوق بكثير ما تقوله لك، وقد يتكفل بسرده حديث الحجر وهو الشاهد الوحيد الباقي من تاريخ تلك المدينة.

إعلان

ربما يخبرك عن شارعها المستقيم، وأنه ترتيلة من تراتيل الإنجيل فيه تصافح خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح، واختلطت بهوائه كل توابل العالم التي حملت إلى سوق مدحت باشا عبر طريق الحرير.

من هنا مر ملايين الحجاج كل عام فباعوا واشتروا، وحملة الكسوة ورحلوا مشيعين بالموال الدمشقي والشال والصابون الحلبي وحلوى الجبن الحموية.

هنا سكنوا البيوت والخانات الدمشقية التي تحولت يوما إلى نمط حياة في الغرب عبر إسبانيا، والتي سمت بيوتها حتى اليوم كرمة نسبة إلى دوالي العنب التي سقفت بيوتها، واختلطت بالياسمين والنارنج.

مصدر الصورة خان أسعد باشا العظم الذي كان فندقا للتجار الوافدين على العاصمة إبان العثمانيين (الجزيرة)

في نظري أن النهج التقليدي مع المدينة ربما لا يكون كافيا في التعامل مع كيان يزخر بالحياة والعبق، ولذلك فإنني أقترح عليك مسارات بديلة من قبيل:


* مسار بهجة العين
* مسار عبق الأماكن
* مسار القلوب والعقول
* مسار المعدة

ففي بهجة العين تبدو حارات دمشق القديمة مثالا للتناسق بين الفن والإبداع والحاجات الإنسانية الأساسية، وإن أضيفت إليها نوستالجيا "باب الحارة" تزاحمت مشاهد الواقع بذكريات وسرديات تهب للمكان روحا وللجدران ألسنة.

إحدى حارات دمشق القديمة (الجزيرة)

وأفصح ما فيها اليوم أن غاب عنها زبد صور زعماء وصفوا أنفسهم يوما بالخالدين، واحتفظت بأشعار نزار قباني وترنيماته الدمشقية.

وفي مسار عبق الأماكن، تبرز أسواق العطور والعطارة والصابون وملحقاتها، وتدرك عندها كم يعشق السوريون الريح الطيبة، وكم تنتشر متاجر تصنيع العطور وتزيين قواريرها والاحتفاء بها.

جامع تاريخي في دمشق يحمل اسم فقيه ومحدث المدينة هشام بن عمار (الجزيرة)

وتسألونني عن مسار المعدة في دمشق، فأقول كما يقول فقيهها ومحدثها هشام بن عمار هل يُستغرب الشيء من معدنه؟ وأزيد هل يسأل المجد عن مهده؟ وهل اجتمعت طيبات الشعوب إلا فيها؟ وهل خرجت وصفات الطعام إلا من حاراتها؟

إعلان

لكن مطاعمها اليوم تتناثر عبر أزقة لا تدل المقدمات فيها على النتائج، فمن مدخل ضيق معتم تصل إلى بيوت دمشقية عريقة تتغنى جدرانها بدمشق وجمالها، ويصدح فيها صباح فخري ليعلن أنك وصلت إلى مبتغاك.

وإن كنت مثلي تفضل وجبات متناثرة على الطرقات، فقد كمن لك خلف الجامع الأموي طبق فول يتعهد لك بما يشفي غليلك بطريقة تقليدية، تدخر ماء الفول بالليمون لري ظمئك، وحبات الفول المتبلة لجوعك فتخرج منه وأنت شبعان ريان نشوان، وأن تبقى في المعدة خلوة فسوف تتكفل بها متاجر القيمرية بمعجناتها وحلوياتها أو "لتشرب المرطبات مثلا".

في مسار العقول والقلوب، ستختزل لك آلاف الأعوام من التراتيل والتسابيح ساحات المسجد الأموي الذي ظل سجل المدينة المفتوح، يضيف عليه كل حاكم أو سلطان أو فاتح عبر العصور لمسة أو توقيعا يظل شاهدا على تاريخ المدينة.

جامع بني أمية أو الجامع الأموي أحد أبرز الشواهد على تاريخ دمشق (غيتي)

ثم ستحدثك أحجار ضريح صلاح الدين عن ركلة غورو، ولكنها تتذكر بالمقابل ضريح ملك ألمانيا غليوم الثاني الذي أهداه له واستحق فيه مديح شوقي: رعاك الله من ملك همام تعهد في الثرى ملكا هماما.

غير بعيد عن تلك المقامات مساجد ومقابر ابن عربي في حي محيي الدين وإلى جواره في الجامع الجديد قبر عصمت خاتون زوجة نور الدين وصلاح الدين رضي عنهما، ثم قبر معاوية رضي الله عنه وابن عساكر في مقبرة الباب الصغير وابن تيمية وابن كثير وابن الصلاح خلف مستشفى الولادة في منطقة البرامكة.

وجه فؤادك بعد ذلك نحو بيمارستان النوري التاريخي ثم الأسواق، وسوف أنتخب منها سوق العصرونية والمسكية والقوافين والجمرك والقيشاني والقلبقجية والقباقبية والبزورية والصقالين، وسوف أترك للدهشة مساحة الاكتشاف ومتعة الربط بين الاسم والمسمى.

ثم لا يكتمل يوم تأملك الدمشقي إلا بإطلالة قاسيون، حيث يلتقي أذان الطائعين بصلوات الخاشعين برائحة الياسمين، وأمنيات المحبين وإطلالات الفاتحين من أمثال خالد وأبي عبيدة ونور الدين وصلاح الدين، وإشراقات العباد والمتصوفين، وإن حجبوها عنك بدعوى الصيانة فتحت دمشق لها طريق أوليائها الأربعين.

مقام الأربعين مغارة في جبل قاسيون مطلة على دمشق يقال إنها الموقع الذي قتل فيه ابن آدم أخاه (الجزيرة)

ربما تدرك هناك كيف أحب التاريخ دمشق فألجأها إلى قاسيون الذي احتضنها ووقف سندا لها عندما مالت بها الأيام وأسال لها عين القطر من بردى ليمد ياسمينها بالحياة، وهز لها جذوع الغوطة تساقط عليها رطبا شهيا، فظلت خالدة على مر الدهور.. تمرض ولكنها لا تموت.

إعلان
لقراءة المقال كاملا إضغط هنا للذهاب إلى الموقع الرسمي
الجزيرة المصدر: الجزيرة
شارك

أخبار ذات صلة



حمل تطبيق آخر خبر

إقرأ أيضا