ومع أن أصداء الاتفاق انتشرت عالميا، إلا أن ارتدادها الأكبر جاء من تل أبيب، حيث خيم الصمت والصدمة.
الحوثيون قالوها بوضوح: "نعم للتهدئة مع أميركا، لا لهدنة مع إسرائيل". فهل ضمنت الولايات المتحدة أمن ممراتها وتركت إسرائيل تواجه مصيرها منفردة؟ وهل طبّق ترامب عقيدته القديمة–الجديدة "أميركا أولا" بحذافيرها، ولو على حساب أقرب الحلفاء؟.
الاتفاق الذي أعلن عنه بصيغة مباغتة لم يكن وليد لحظة، بل نتيجة لتحركات دبلوماسية مكثفة قادتها سلطنة عمان خلف الكواليس.
صحيفة نيويورك تايمز أكدت نقلا عن مصادر إيرانية أن طهران "مارست ضغوطا مباشرة" على الحوثيين لقبول هذا الاتفاق، فيما امتنعت عن تأكيد حصول تواصل مباشر مع الأميركيين.
ما بدا أنه "تراجع تكتيكي" من الحوثيين، قرأه البعض على أنه انتصار سياسي لإدارة ترامب، التي صوّرت الهدنة كإنجاز نوعي حقق أهداف العملية العسكرية الأميركية، خاصة فيما يتعلق بحماية السفن التجارية في البحر الأحمر.
لكن تحت هذا السطح الهادئ، تختمر أسئلة صاخبة حول مستقبل الدور الأميركي في الإقليم، والمكانة المتراجعة لإسرائيل في حسابات الحليف الأكبر.
صفقة ترامب.. استدارة اضطرارية أم إعادة تموضع استراتيجي؟
وصف الكاتب والباحث السياسي عبد الكريم الأنسي خلال حديثه إلى برنامج الظهيرة على سكاي نيوز عربية التحرك الأميركي بأنه "عودة إلى منطق الصفقات"، معتبرا أن ترامب، رجل الصفقات كما يصفه الإعلام، اختار المفاوضات تحت ضغط هائل داخلي وخارجي.
الأنسي ذهب أبعد من ذلك، قائلا إن القرار الأميركي "ليس استسلاما للحوثيين" بل خطوة لتجنّب نفق مظلم من الخسائر المالية والسياسية، خصوصا بعد التقارير التي تحدثت عن خسائر تجاوزت المليار دولار.
إلا أن المفارقة التي أشار إليها الأنسي بحدة، هي أن "ترامب هو من جاء بالبارجات إلى السواحل اليمنية، وهو نفسه من قرر الانسحاب من جبهة البحر الأحمر".
مبدأ "أميركا أولا" يقلب الطاولة على إسرائيل
قدّم الأكاديمي والباحث السياسي، فادي حيلاني خلال مداخلته تفسيراً بنيوياً لاتفاق الهدنة، مستندا إلى عقيدة ترامب الراسخة: "المصلحة الأميركية أولا".
بحسب حيلاني، فإن الرئيس الأميركي يتعامل مع التحالفات التقليدية، بما فيها العلاقة مع إسرائيل، بوصفها أدوات قابلة للاستبدال حين تتعارض مع المصالح الأميركية المباشرة.
ويرى أن ترامب لا يتردد في مفاجأة حتى أقرب الحلفاء، تماما كما فعل في ملفات سابقة كالتفاوض مع إيران أو سحب الدعم الفعلي من أوكرانيا.
وفي معرض تعليقه على الموقف الإسرائيلي، أشار حيلاني إلى أن واشنطن "لن تعطي الضوء الأخضر لتل أبيب لضرب صنعاء"، وأن الحماية الأميركية لإسرائيل "لم تعد كما كانت"، إلا في إطار الدفاع عن النفس وليس شن الحروب الاستباقية.
الذهول الإسرائيلي.. خذلان أم حسابات استراتيجية؟
وصف مراسل سكاي نيوز عربية في تل أبيب بشار زغير المشهد الإسرائيلي بأنه "حالة من الذهول والخذلان"، مشيرا إلى أن المسؤولين الإسرائيليين لم يعلّقوا رسميا على اتفاق الهدنة حتى ساعات طويلة بعد إعلان ترامب.
ويُعزى هذا الصمت، حسب زغير، إلى أمرين: أولا، الانشغال الداخلي السياسي والقضائي في إسرائيل، وثانيا –وهو الأهم– المفاجأة التي تلقّتها تل أبيب من واشنطن دون تنسيق مسبق.
زغير أضاف أن هذه "الطعنة السياسية"، كما وصفها مسؤولون إسرائيليون خلف الكواليس، تعيد فتح النقاش داخل المؤسسة الإسرائيلية حول حدود الاعتماد على الدعم الأميركي، خصوصا في ظل تقلبات إدارة ترامب وميولها لعقد اتفاقات غير تقليدية تصب في مصلحة واشنطن المباشرة، لا التحالفات طويلة الأمد.
هل تغيرت بوصلة التحالفات؟
اتفاق الهدنة بين الحوثيين وواشنطن يكشف بوضوح فجّ أن قواعد اللعبة في الشرق الأوسط لم تعد كما كانت.
إيران تلعب من خلف الستار، والحوثيون يتحركون بثقة القوة لا رهينة الميليشيا. أما الولايات المتحدة، فتؤكد مرة أخرى أن مصالحها وليس وعودها هي ما يحدد تحالفاتها.
الأسئلة الكبرى لا تزال مفتوحة: هل باتت إسرائيل وحدها؟ وهل صنعاء هي من يقرر الآن خطوط النار والسلم في البحر الأحمر؟ وهل تحولت سياسة ترامب من شعار إلى مبدأ استراتيجي فعلي على حساب كل شيء... حتى تل أبيب؟.. الإجابات رهن ما ستكشفه الأيام القادمة، ولكن الثابت أن هدنة البحر الأحمر قد تكون أول خطوة في رسم شرق أوسط جديد بحدود أكثر ضبابية، وأحلاف أكثر تقلبا.