حدث ما كان متوقعًا، وأصدرت الدائرة الجنائية الخامسة المختصّة في قضايا الإرهاب بتونس حكمها فيما يعرف بقضية التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، كبرى القضايا السياسية في تونس ما بعد انقلاب 25 يوليو/ تموز 2021.
شملت الأحكام أربعين "متهمًا" بين موقوف وفي حالة سراح وبحالة فرار، وتراوحت ما بين 66 و8 سنواتٍ سجنًا، بلغت في مجملها تسعة قرون، حسب تصريح الأستاذ سمير ديلو عضو هيئة الدفاع في ندوة صحفية لتلاوة نص قرار الحكم، منها أربعة قرون مبنية على إفادات شاهدين بقيت هويتاهما محجوبتَين، ولم تتم مكافحتهما مع المشمولين كما لم يتم استنطاقهما من هيئة المحكمة التي اعتمدت شهادتَيهما لإصدار أحكامها.
لن نتوقف كثيرًا عند حيثيات المحاكمة وما حفّ بها من خروقات إجرائية جسام أفقدتها أدنى شروط المحاكمة العادلة؛ لأن ذلك أصبح معلومًا لدى الجميع داخل تونس وخارجها.
لن نتوقف عند هذه الخروقات لا لعدم أهميتها، ولكن لأنها أصبحت معلومة ووصفة مشتركة بين كل المحاكمات منذ الانقلاب بعد أن أحكم قيس سعيد وضع يده على القضاء، وحوّله من سلطة لها هياكلها وتقاليدها وآلياتها إلى وظيفة لدى السلطة التنفيذية السياسية تخضع للتعليمات.
في مشهد يصفه كثيرون بأنه ما فوق "سريالي" وغير مسبوق في تاريخ قضاء التونسي منذ زمن البايات، مرورًا بزمنَي بورقيبة، وبن علي الاستبداديَين، أصرّت هيئة المحكمة على أن تكون الجلسات عن بعد أي "سرية"، رغم رفض المشمولين (المتهمين) وعائلاتهم واعتراض المحامين؛ لإخلالها بأبسط قواعد المحاكمة العادلة من حضور المشمولين والشهود والإعلام والرأي العام.
كانت المحاكمة على مستوى الشكل أشبه بمرور بالقوة من هيئة المحكمة جعل المعنيين بها والمتابعين لها في الداخل والخارج، من منظمات وهياكل وشخصيات، يصفونها بالمهزلة ويرفضون أحكامها.
بعد أسبوع من هذه المحاكمة "المسخرة"، انتصبت هيئة أخرى للنظر في قضية ما يسمّى "التسفير"، تسفير تونسيين إلى بؤر التوتر مثل العراق وسوريا (2012-2013) من بين المشمولين فيها المهندس علي العريض وزير الداخلية ورئيس الحكومة الس ا بق، ونائب رئيس حركة النهضة، وعدد من الإطارات الأمنية من بينهم "متهمون" بالانتماء لحركة النهضة. جاءت الجلسة هي الأخرى عن بعد، وانطلق فيها الاستنطاق قبل أن تقرر هيئة المحكمة رفعها لمواصلتها خلال أسبوع.
في قاعة أخرى من جنبات محكمة تونس، انتصبت في نفس اليوم جلسة محاكمة الأستاذ نور الدين البحيري وزير العدل السابق والنائب بمجلس النواب المنتخب في 2019، ونائب رئيس حركة النهضة لمقاضاته استئنافيًا بعد أن تمّ الحكم عليه ابتدائيًا بعشر سنوات سجنًا من أجل ما نُسب إليه من تدوينة أثبتت كل الاختبارات الفنية أنها غير موجودة أصلًا. تمّ تأجيل الجلسة إلى موعد لم يحدّد بعدُ بطلب من هيئة الدفاع.
يزداد حصاد المسار القضائي ثقلًا وسوادًا نتيجة أسباب عديدة منها، توسّع دائرة المشمولين من حيث العدد، ومن حيث الانتماء السياسي، أو القطاعي، خطورة الاتهامات التي تصل فيها "العقوبات" إلى الإعدام، فراغ الملفات وخلوّها من الأدلة والقرائن، جسامة الخروقات الإجرائية، وقساوة الأحكام الصادرة حتى الآن والتي فاقت كل ما صدر عن المحاكمات السياسية السابقة في تونس.
يضاف إلى ذلك تواصل التنكيل بالمعتقلين وعائلاتهم وتواصل تهميش منظمات الدفاع عن الحقوق والحريات وتجاهل بياناتها ومطالبها.
تفعل سلطة قيس سعيد كل ما يؤكّد أنها ماضية في قرارها تصفيةَ كل معارضيها من كل الاتجاهات والقطاعات بتغييب البعض في السجون والمعتقلات، وبفرض الهجرة القسرية على بعضهم الآخر، وقد أصمّت أذنيها عن اعتراضاتهم وصيحاتهم، وأغمضت عينيها عن وقفاتهم الاحتجاجية المتتالية والمتصاعدة.
لعلّ "أبشع" ما تقوم به السلطة في هذا المجال أمور ثلاثة:
بهذا الحصاد الثقيل في ميزان الحقوق والحريات، تكون منظومة قيس سعيد التنفيذية والتشريعية وأداتها القضائية وروافدها الأخرى السياسية والإعلامية، قد كتبت سجلًا لم يسبقها إليه أحد من الحكام السابقين، كما لن يتبعها فيه أحد من الحكام اللاحقين، سجلّ غاية في قتامة السواد سيبقى يلاحقهم أحياء وأمواتًا، وسيكون تعبيرًا عن مرحلة منبوذة في تاريخ تونس.
في السياسة وتجارب الحكم، لا يهتمّ الحكام "الجدد" بأي وسيلة جاؤوا بها إلى الحكم، عبر انتخابات حرة أو مزورة، أو عبر انقلاب، أو عبر توريث. الأهم عندهم هو كيف يستمرّ حكمهم.
في الأنظمة الديمقراطية، حتى الناشئة منها، يجتهد الحكام في العمل للإيفاء بتعهداتهم الانتخابية؛ لضمان عهدة ثانية، وإذا ما فشلوا في تحقيق ذلك يقبلون بنتائج الصندوق، ويسلّمون السلطة وفق أعراف وآليات سلمية تضمن تواصل الدولة ومؤسساتها.
أما في الأنظمة الاستبدادية بكل أشكالها، يحرص الحكّام بمن فيهم من جاءت بهم الديمقراطية إلى الحكم مثل قيس سعيد، إلى فعل كلّ شيء "بغيض" لوضع اليد على الدولة ومؤسساتها وإمكاناتها؛ لفرض تواصل حكمهم بدءًا بتغيير هيئة الدولة ونظام حكمها، مرورًا بتصفية كل معارضيهم من سياسيين وقوى مدنية، وتجريف الفضاء العام وإخلائه من كل "أسلحته"، وترهيب الجميع لالتزام الصمت، وانتهاءً بتغييب الشعب عبر نشر المغالطات، وبيع الأوهام، وإطلاق الشعارات المضلّلة والحروب الوهمية ضد أعداء وهميين يتمّ وصفهم ووصمهم بكل نقيصة ورذيلة.
هذا بالضبط ما تقوم به منظومة قيس سعيد منذ انقلاب 25 يوليو/ تموز 2021، وقد تعزّز وترسّخ بعد 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024. تاريخ "إعادة" انتخاب قيس سعيد لعهدة رئاسية ثانية حفّت بها العديد من التجاوزات والخروقات، ورفض نتائجها العديد من الأطراف.
تصف المعارضة قيس سعيد بأنه اختار نهج المستبدين في إدارة الحكم، وأعرض عن نهج المصلحين الديمقراطيين، اختار أن تكون شرعية حكمه انتخابات مطعونًا فيها، وأن تكون أدوات حكمه عصا البوليس وقضاء التعليمات والسجون والمعتقلات.
اختار سعيد المرور بالقوة والهروب إلى الأمام في فرض مشروعه السياسي الشخصي الذي لا يزال مبهمًا، صمت عن تفسيره حتى أكبر المفسرين، وتلعثم قيس نفسه كلّما أراد شرحه وبيانه، ما جعل تونس تسير في طريق مجهول لا يعلمه حتّى من بشّر به ولم يرَ منه التونسيون غير آثاره التي لم تزد واقعهم إلا سوءًا ومعيشتهم إلا ضنكًا، وحريتهم إلا ضيقًا وأفقهم إلا انسدادًا.
يبدو المشهد العام في تونس، أكثر من أي وقت مضى، مؤذنًا بتسارع خطوات تدحرج حكم سعيد نحو نهايته، وبتطور الأوضاع سلبيًا بشكل يجعلها غير قابلة للتدارك. يبدو ذلك واضحًا من خلال المؤشرات التالية:
اختار قيس سعيد أن يملأ وحده الفضاء العام والإعلام، يفعل ويقول ما يشاء، وحده المخاطب للشعب لا يقبل أن يسأله أو أن يعقّب عليه أحد.
المشترك بين سعيّد وكل من استحوذ على السلطة وحرص على الاستمرار فيها بطريقة شعبوية من خارج الإرادة الشعبية هو الإيهام بأنهم قادة من كوكب آخر يعرفون مصلحة شعوبهم أكثر من شعوبهم نفسها، وأنهم جاؤوا ليقوموا بأدوار تاريخية لم يسبقهم إليها أحد وليقدّموا حلولًا تتجاوز جغرافية بلدانهم لتمتدّ إلى البشرية والإنسانية جمعاء، بينما شعوبهم مسحوقة تعاني القمع وضيق العيش وانسداد الأفق.
كشفت هذه الحادثة الأليمة واقع هذه المعتمدية المنسيّة كغيرها من الجهات الأخرى في الداخل والساحل التونسي على السواء، كما كشفت عمق الغضب الذي يختزنه سكان هذه المناطق، حيث عبّر عنه باحتجاجات عارمة التحم فيها الجميع يطالبون الدولة بصوت واحد لا يشقّه أي خلاف بتنمية عادلة تضمن لهم حياة كريمة وتخرجهم من الظل إلى أشعة الشمس، ومن الذلّ إلى الكرامة.
الأسوأ من تهاوي المباني وتداعيها للسقوط في ظل إهمال تام من منظومة قيس سعيد، هو القمع الشديد الذي واجهت به التعزيزات "الأمنية" من مختلف الوحدات تحركات المواطنين، ما أعاد لذاكرة التونسيين مشاهد تنكيل بوليس الرئيس المخلوع زين العابدين بالمواطنين مع اندلاع شرارة ثورة الحرية والكرامة يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010 حتى سقوط النظام يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011.
أبانت هذه التحركات والشعارات المرفوعة فيها والجهات التي تنظمها عن حصول تطورات نوعية في صفوف المعارضة تؤشّر كلها إلى أن القادم مختلف تمامًا عما مضى. انتقل موقف العديد من الأطراف من حدث 25 يوليو/ تموز 2021 من التحريض والتشجيع للقيام به إلى نقده، وأخيرًا إلى معارضته والعمل على إنهائه.
كما تطور سقف الشعارات المرفوعة من التنديد بتجاوزات السلطة إلى مطالبة قيس سعيد بالرحيل ووصمه بالدكتاتور المستبد أحياناً. واضح أن حاجزي التحفظ والخوف قد تمّ كسرهما، وواضح أن المعارضة أصبحت تسمّي الأشياء بأسمائها بدون إيحاءات، وواضح أيضًا أن المعارضات على اختلافها وجدت نفسها بحكم الأمر الواقع تقف على صعيد واحد هو مقاومة الانقلاب والعمل على إنهائه.
كما اعتبر مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان الأحكام "انتكاسة للعدالة وسيادة القانون". بعد خمس سنوات من انقلابه، يبدو المشهدان الدولي والإقليمي في غير صالح قيس سعيد؛ نتيجة طريقته المنفردة في الحكم التي جعلت من سجلّ أخطائه أكبر بكثير من سجلّ إنجازاته التي تكاد تكون صفرية.
الجميع واقعون بين فكَّي كماشة، بين ضغط قيس سعيد اللامتناهي ومطالبتهم بالإنجاز، وبين افتقادهم للأدوات والتشريعات والموارد التي تساعدهم على إنجاز المطلوب.
لا شيء تقريبًا يتحرك، الجميع يدور في حلقة مفرغة بمن فيهم قيس سعيد نفسه الذي لا يزيد عنهم إلا بقدرته على إيهام الرأي العام أنه يعمل واصلًا الليل بالنهار، وأنه "يحارب" من أجل تحقيق مطالب الشعب، وأنه يخوض من أجل ذلك حربًا على الفساد وحركة تحرر وطني وثورة تشريعية رائدة، ومعركة غير مسبوقة من أجل البناء والتشييد.
وزاد قيس سعيد فوق كل ذلك بالمماطلة في تركيز المحكمة الدستورية رغم تجاوز الآجال كما نص عليها دستوره (2022)، وإجبار بعض النواب على سحب توقيعهم على مبادرة تشريعية، تمّ تقديمها مؤخرًا لسنّ قانون تركيز المحكمة الدستورية. ربّما لم ينتبه قيس سعيد أن إمعانه في سدّ أبواب المعارضة والمشاركة في إدارة الشأن العام سيجعل المخاطر ترتدّ عليه، وقد بدأ ذلك بالفعل حيث بدأت الأزمة تفيض تدريجيًا إلى فضاء الحكم بعد الفضاء العام.
يؤشّر المشهد العام الجديد في تونس إلى تحولات نوعية سيكون لها ما بعدها. من جهة السلطة، فقد استحكمت فيها منذ مدّة ديناميكيات سلبية، تتعمّق بدون توقّف، لا قدرة لمنظومة الحكم على التحكّم فيها، في الجهة المقابلة، تتنامى على مهلٍ ديناميكيات إيجابية في الحزام المعارض للانقلاب جعلته أكثر حضورًا، وأبلغ رسالة وأكثر إصرارًا، مستفيدًا من خيبات الحكم وفشله.
يخفي هذا المشهد الجديد بداية تغيّر مهمّ في معادلات الحالة التونسية لغير صالح قيس سعيد ستبرز جليّة في المسائل التالية:
واكتملت حلقات انهيار هذا التعاقد بالاحتجاجات الشعبية وبنوعية الشعارات المرفوعة فيها، وأهمها وصم قيس سعيد بالفشل، ومطالبته بالرحيل ليتصل بذلك ضعف الشرعية الانتخابية مع فقدان شرعية الإنجاز، من جهة، وضعف التمثيلية الحقيقية للشعب باستعمال العنف وقوة البوليس في التعامل مع تحركاته ومطالبه.
لم يعد قيس سعيد قريب ممن كانوا يعتبرون لوقت قريب شركاء مثل رئيسة حكومة إيطاليا والاتحاد الأوروبي. فقد أفسد سعيد علاقات تونس الخارجية وضيّق واسعًا كانت تستفيد منه تونس في علاقاتها، يقوم على ثوابت متوارثة جعلت تونس بعيدة عن الاصطفافات ولعبة المحاور الدولية ليصبح موقع تونس مع سعيد ضعيفًا بعد قوة تتحكم فيها سياسات ومصالح دول أخرى.
تبدو هذه التحوّلات في معادلات الحالة التونسية حقيقة جلية وطبيعية ضمن مسار الأحداث، ومن المرجّح اكتمال نضجها ربّما بأسرع مما يُتصوّر، ما يجعل تونس على صفيح ساخن.
خسر سعيد كل معاركه تقريبًا حتى التي يتوهّم أنه كسبها مثل الانتخابات، وفوّت بسهولة في كل مصادر قوّته وخاصة شعبيته، وفتح على نفسه جبهات تأتيه منها السهام بعد أن كانت تمثل ظهيرًا له. ربما يكمن العامل الأهم في إطالة عمر حكم قيس سعيد في استمرار تشتّت قوى المعارضة، رغم اتفاقها المبدئي على ضرورة مقاومة المسار الانقلابي.
الحلقة المفقودة في الحالة التونسية هي الحلقة المحدّدة في نهاية الكابوس ودخول تونس مرحلة جديدة. هذه الحلقة هي التقاء المعارضات في جبهة أو جبهات على حدّ ديمقراطي صلب ومتين، حتى وإن جاء في حدّه الأدنى، يقوم على التزام معلن وملزم بمبادئ الاعتراف المتبادل ونبذ الإقصاء وخطاب الكراهية وتقسيم التونسيين، وبضمان الحقوق والحريات والتداول السلمي على السلطة، واحترام نتائج الصندوق. ذاك هو الطريق إلى الحرية، وذلك هو الباب الذي سيخرج منها الانقلاب.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.