قالت صحيفة لوفيغارو إن الأمين العام للحزب الشيوعي في فيتنام تو لام وجّه عشية الاحتفالات بتحرير أو سقوط العاصمة سايغون (هو شي منه) دعوة نادرة إلى مواطنيه في الجنوب إلى "المصالحة الوطنية".
واستعادت الصحيفة -في تقرير بقلم سيباستيان فاليتي مراسلها الخاص في سايغون- تلك اللحظة على ألسنة الفيتناميين من كلا الجانبين، إذ يقول مراسل تلفزيون فيتنام الشمالية وقتها شوان فونغ "لا أصدق أنني هنا على الطاولة نفسها التي جلست عليها قبل 50 عاما. في ذلك اليوم عمت الفوضى المكان. كان ناس يفرون وآخرون ينهبون المتاجر".
ويتابع الصحفي أن "تحرير" العاصمة الفيتنامية الجنوبية كان على يد القوات الشيوعية يوم 30 أبريل/نيسان 1975 كما يسميه الشماليون، أو "سقوطها" كما يراه الكثير من الجنوبيين الخائفين من غزو قوات الزعيم هو شي منه "الحمر".
وأشارت الصحيفة إلى المكان الذي أصبح رمزا للكارثة الأميركية، حيث التقطت الصورة الشهيرة لمجموعة تحاول التعلق بشكل يائس بمروحية أميركية تدور مراوحها، قبل أن تقلع مخلفة سكان سايغون في حالة لا تنسى من الضيق، والفيتناميين الشماليين في لحظة لا تتصور من النشوة بعد أن "رحل الزعيم".
وتتذكر مواطنة، كانت ابنة لعائلة من كبار رجال البلاط الإمبراطوري لكنها احتضنت قضية النضال التي قادها الفيت منه، أن السفارة الأميركية تعرضت للنهب على يد جنود شماليين مدفوعين بـ"الكراهية" المتراكمة بسبب حملات القصف الضخمة التي شنتها طائرات بي-52 على الغابة.
واستذكر مراسل لوفيغارو فندق كارافيل الذي يطل على ساحة الأوبرا، حيث كان مركز الحياة الاجتماعية في الهند الصينية الاستعمارية، وكان أطول ناطحة سحاب في سايغون، وهو مقر مراسلي الحرب الغربيين، ويتجمع فيه أفراد مجتمع سايغون الراقي لتناول المشروبات وهم يشاهدون الشفق المليء بالقذائف وقاذفات الشبح وهي تقلع.
كانت الحرب تلوح في الأفق وتسيطر على سايغون منذ أن سحب الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون القوات الأميركية عام 1973، في أعقاب اتفاقيات باريس الهشة -حسب وصف الصحيفة- ووسط تعهد النظام الشيوعي، بدعم من الاتحاد السوفياتي ، "بإعادة توحيد" فيتنام وإسقاط حكومة الرئيس "الدمية" نغوين فان ثيو.
ومع أن واشنطن ظلت تدعم حليفها بكل إخلاص، فإن الرأي العام سئم من هذه "الحرب القذرة" التي لم تعد أميركا تلعب فيها الدور القيادي، خاصة أن إستراتيجي البيت الأبيض هنري كيسنجر بدأ يقود تحولا دبلوماسيا، يسعى من خلال للاقتراب من الصين في عهد زعيمها ماو تسي تونغ لمواجهة موسكو بشكل أفضل، والتخلي عن المستنقع الفيتنامي إلى الأبد.
ولم يكن أحد يتصور سقوط فيتنام الجنوبية السريع كما حدث، رغم انتهاك وقف إطلاق النار الهش منذ عام 1974، واستعدادات جيش الشعب الفيتنامي لشن هجوم كبير تحت قيادة الجنرال فو نغوين جياب ، المنتصر في معركة ديان بيان فو ، ولكن الجدول الزمني تسارع في نهاية مارس/آذار، عندما عبرت القوات الشيوعية خط العرض 17 واستولت على العاصمة الإمبراطورية هيو.
وفي ذروة موسم الجفاف، قرر المكتب السياسي إطلاق "هجوم خاطف ومفاجئ" للاستيلاء على الجنوب "في أبريل/نيسان" قبل وصول الرياح الموسمية، في وقت خفض فيه الكونغرس مساعداته العسكرية، وبدأ أصحاب الامتيازات في حزم حقائبهم، وأعلن جيرالد فورد -الذي تولى السلطة خلفا لنيكسون الذي أطاحت به فضيحة ووترغيت – يوم 23 أبريل/نيسان أن "حرب فيتنام قد انتهت بالنسبة للولايات المتحدة".
ومع نفاد الذخيرة وتراجع الجيش الجنوبي، شنت القوات الشيوعية هجوما على ضواحي المدينة، ووقف عشرات الآلاف من الفيتناميين الجنوبيين في طوابير على مدرج المطار، يحملون حقائبهم ويتوسلون بشدة للحصول على مكان على متن إحدى رحلات الإجلاء الأميركية، قبل أن يقصف المطار وتضطر القوات الجوية الأميركية إلى مواصلة عمليات الإجلاء بواسطة المروحيات إلى خمس حاملات طائرات منتشرة قبالة الساحل.
وفي صباح يوم 30 أبريل/نيسان، سيطر المهاجمون على جسر ثي نغي، الذي يعبر أحد روافد نهر ميكونغ، وهو آخر السور قبل مركز المدينة، حيث تقع الكاتدرائية التي بناها الفرنسيون، وفي هذه اللحظة تغير التاريخ، يقول ثونغ (اسم مستعار) "في ذلك الصباح ساد صمت مطبق المدينة، رغم أننا سمعنا إطلاق نار لعدة أيام، كان العديد من الأشخاص يركضون بملابسهم الداخلية خوفا من أن يتم القبض عليهم".
وفي الساعة 11:30 صباحا، اخترقت دبابات بوابات القصر الرئاسي ليصبح رمزا للنظام، الذي كان يحميه العم سام، مسرحا لهزيمة الأجيال القادمة، حيث من المقرر أن يقرأ الجنرال دونغ فان منه وثيقة الاستسلام التي كتبها المفوض السياسي للفيت كونغ، "يجب حل حكومة سايغون" ونقلها إلى "الحكومة الثورية المؤقتة في جنوب فيتنام"، لتنتهي الحرب مخلّفة وراءها نحو 3 ملايين قتيل.
يتراجع الانتهازيون ويصبحون "ثوار اللحظة الأخيرة"، ويتذكر ثونغ "كان بعض الناس يحملون بندقية وشارة حمراء ويبدؤون في حكم الحي مثل البلطجية"، في مشاهد تذكر اليوم بالانسحاب الأميركي الفوضوي من كابل عام 2021، وتحوم كشبح فوق أوكرانيا في عهد دونالد ترامب، كما يقول مراسل لوفيغارو.
يقول بول الذي يعيش في المنفى بولاية تكساس، وقد فر مثله نحو مليون فيتنامي إلى الخارج خوفا من الاضطهاد في السنوات التالية، "شعرنا بالخيانة من قبل الولايات المتحدة".
بدا الغزاة في البداية متسامحين ومدوا أيديهم إلى المهزومين في جو من النشوة، ولكن سرعان ما ظهر الوجه الحقيقي للسلطة الجديدة، وخاصة بالنسبة لأولئك الذين خدموا النظام القديم، وبدأ البحث عن "المتعاونين"، يقول ثونغ "كان والدي ضابطا في الجيش، فاستدعي للتحقيق ثلاثة أيام نظريا، وبعد شهر علمنا أنه يقبع في معسكر إعادة تأهيل"، واستمرت هذه المحنة خمس سنوات بين العمل القسري في الحقول وجلسات النقد الذاتي الماركسي اللينيني التي لا تنتهي.
خضع حوالي 40 ألف فيتنامي جنوبي لهذه السنوات الطويلة من غسيل الدماغ، التي استمرت أحيانا لأكثر من عقد من الزمان لأصحاب الرتب العليا، يقول كارليل ثاير المتخصص في جامعة نيو ساوث ويلز في كانبرا "لقد عوملوا معاملة سيئة للغاية".
وعشية الاحتفالات بالذكرى الخمسين "للتحرير"، وجّه الأمين العام للحزب تو لام رسالة إلى مواطنيه في الجنوب، دعا فيها إلى "المصالحة الوطنية"، وقال الرجل القوي الجديد للبلاد إنه لا يوجد سبب يدفع الفيتناميين من ذوي الدم الواحد إلى حمل أحقاد الماضي في قلوبهم، وأضاف -مخاطبًا من قاتلوا على الجانب الآخر- أن "الجميع يشتركون في فخر قومي وحنين حار لوطنهم".
وقد لاقت هذه اللفتة استحسانا كبيرًا في مدينة هو شي منه (سايغون سابقا)، قلب أكثر دول جنوب شرق آسيا حيوية، يقول ثاير إنه مع مرور الوقت ونمو البلاد "يتقدم المعارضون المنفيون المناهضون للشيوعية في السن ويتراجع نفوذهم"، لكن ندوب التاريخ تظل ماثلة وتمزق الأسر.