كنّا نحن الصحفيين والمحللين السياسيين، ومنذ انطلاق الثورة السورية، نتحدث عبر شاشات التلفاز عن التحولات الجيوسياسية الجديدة في الشرق الأوسط، وعن تزايد النفوذ التركي في المنطقة. ولم نكن وحدنا في ذلك؛ فالرئيس الأميركي دونالد ترامب والإعلام العالمي بأسره كانوا يتناولون الأمر ذاته.
غير أن مجريات الأمور داخل تركيا شهدت منعطفًا مفاجئًا في شهر فبراير/ شباط من هذا العام، حين أطلق النائب العام في إسطنبول سلسلة تحقيقات طالت بلديات تابعة لأحزاب المعارضة وبعض وسائل الإعلام، وتوّّجت بفتح قضايا بحق رئيس بلدية إسطنبول الكبرى، أكرم إمام أوغلو، وعدد من معاونيه.
ومنذ ذلك الحين، لم يغادر هذا الموضوع الشاشات، إذ انصبّ جلّ اهتمام الرأي العام على هذه التحقيقات لما يقرب من شهر كامل.
لكن هذا التغير المفاجئ في جدول الأحداث لم يكن وليد تطورات استثنائية أو غير اعتيادية، وإنما لا يمكن فهمه دون التوقف قليلًا عند طبيعة وضع المعارضة داخل تركيا.
من النظرة الخارجية، ومن خلال ما يُنشر من أخبار، قد يتكوّن انطباع مفاده أن الدولة التركية تسعى إلى إسكات المعارضة، والزجّ بها في السجون، وفرض مشهد سياسي خالٍ من أي صوت معارض. وإذا ما نظرنا إلى عدد القضايا المفتوحة والأسماء التي أُدخلت السجن، فلن نجد هذا الانطباع بعيدًا كل البعد عن الواقع.
لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا. فقد شارك في الانتخابات الأخيرة في تركيا خمسةٌ وثلاثون حزبًا سياسيًا، من بينها اثنان وثلاثون تعدّ في صفوف المعارضة. وحاليًا، ثمة ستة عشر حزبًا ممثلًا في البرلمان، ثلاثة عشر منها تنتمي إلى المعارضة. أما القنوات التلفزيونية التي تدعم المعارضة فهي الأكثر مشاهدة، وصحفها هي الأكثر مبيعًا.
بمعنى آخر، فإن المعارضة لا تزال حاضرة بف ا علية في المشهد السياسي، ولكنها محقّة في نقطة جوهرية: إذ بينما لا تُفتح أي تحقيقات بحق البلديات والمؤسسات الإعلامية التابعة للسلطة، فإن التحقيقات القضائية لا تكاد تنقطع ضد الجهات المعارضة، مما يصعّب تفسير هذا التفاوت في المعاملة.
وقد يُفاجَأ القارئ إذا علم أن قسمًا مهمًا من تلك القضايا أُطلق بمبادرة من أعضاء في المعارضة أنفسهم. فعلى سبيل المثال، في مؤتمر عام لحزب الشعب الجمهوري (CHP) عام 2023، قام أعضاء من الحزب بالإبلاغ طوعًا السلطات القضائية عن شراء أصوات المندوبين بالرشوة، وهو ما أدى إلى فتح قضايا. كذلك، أبلغ موظفون في بلدية بيكوز التابعة للحزب ذاته عن تورّط رئيس البلدية في قضايا فساد، فتم فتح ملفات ضده.
وفي آخر سلسلة من التحقيقات التي طالت أكرم إمام أوغلو ومرافقيه، أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان بنفسه أن القسم الأكبر من الشكاوى والمعلومات المقدّمة إلى القضاء جاءت من شخصيات تنتمي إلى حزب الشعب الجمهوري.
ما الذي يدفع إلى مثل هذا السلوك؟ السبب يكمن في احتدام صراع القوى داخل الحزب الرئيسي للمعارضة، حتى قبل أن يصل إلى السلطة. وبما أنه لا توجد قوى سياسية بديلة حقيقية لحزب العدالة والتنمية (AKP)، فإن هذا الصراع الداخلي داخل المعارضة يزداد شدة.
لذلك بات مألوفًا في الأوساط التركية قولهم: "تركيا لا تعاني من أزمة سلطة، بل من أزمة معارضة".
في ظلّ النجاحات الإقليمية التي تحققت في الملف السوري، وتنامي مكانة تركيا عالميًا، يُطرح السؤال: لماذا ينشغل الرأي العام بقضايا تحقيقية تضرّ بحزب العدالة والتنمية بدلًا من التركيز على إنجازاته؟
تبدو قيادة الحزب مرتبكة نوعًا ما في التعامل مع هذا الملف، إذ تقول إن السلطة القضائية ملزمة قانونيًا بمتابعة البلاغات والشكاوى المتعلقة بالفساد، ولا يمكنها تجاهلها مراعاةً لحسابات سياسية. أما القضاء نفسه، فيؤكد أنه لا يتحرك بناءً على الأجندة السياسية أو حساسياتها، ولهذا لا يمكن منع هذه التحقيقات من تصدّر الساحة.
بيدَ أن هناك قضيتين أساسيتين لا ينبغي إغفالهما:
اليوم، حتى إذا أثبتت التحقيقات وجود فساد في بلدية معارضة أو ضد شخصية بعينها، فإن إقناع الرأي العام بذلك يبدو عسيرًا. بل إن بثّ مشاهد حية لأخذ الرُّشا وتبادل الأموال لا يضمن تصديق الناس، نظرًا لما بلغه انعدام الثقة في العدالة من عمق.
فالعمل السياسي مكلف للغاية، وتلجأ الأحزاب أحيانًا إلى استغلال موارد البلديات ومزايا السلطة لتأمين التمويل. ورغم أن الأحزاب مؤسسات قائمة على التبرعات، فإن هذه التبرعات لا تفي بالحاجة، مما يدفع البعض إلى طرق أبواب التمويل غير القانوني.
ومن الشائع الحديث في كل موسم انتخابي عن دفع مبالغ ضخمة وغير مُعلَنة لقاء الترشح لمناصب نيابية أو بلدية. وقد جرت محاولات سابقة لسنّ قوانين تنظّم تمويل الحياة السياسية وتجعلها شفافة وخاضعة للرقابة، لكنها باءت بالفشل.
تزعم المعارضة أن التحقيقات الجارية بحق أكرم إمام أوغلو وفريقه إنما هي مؤامرة دبّرتها السلطة الحاكمة، وتصفها بأنها مختلقة ولا أساس لها من الصحة.
لكن، هل آتت هذه التحقيقات أُكُلها لصالح الحكومة؟ أعتقد أن الجواب هو: لا.
ففي انتخابات 2019، فاز إمام أوغلو بمنصب رئيس بلدية إسطنبول بفارق خمسة عشر ألف صوت، لكن تم إلغاء النتيجة بزعم وجود تلاعب.
حينها اتّهمت المعارضة السلطة الحاكمة بالتدخل السياسي، غير أن الإعادة الانتخابية جاءت بنتيجة مدوّية، إذ فاز إمام أوغلو بفارق 800 ألف صوت، وسجّل بذلك أكبر خسارة انتخابية في تاريخ حزب العدالة والتنمية.
يكمن السبب في ذلك في الحساسية العالية التي يبديها الناخب التركي تجاه مظلومية الأشخاص. وهذه ظاهرة موثّقة بتاريخ طويل من الأمثلة.
وقد تترك التحقيقات الراهنة أثرًا مشابهًا، فإذا اقتنع الناخبون بأن أكرم إمام أوغلو وحزبه يتعرضان للاضطهاد، فقد يمنحونه وحزبه تأييدًا كاسحًا.
ورغم أن المعارضة تدّعي أن الهدف من التحقيقات هو إقصاء إمام أوغلو سياسيًا، فإن ثمة بُعدًا آخر؛ فمرشح الحزب الآخر، منصور يافاش، رئيس بلدية أنقرة، يحظى بشعبية أكبر منه، بل إن استطلاعات الرأي تُظهر أنه قادر على الفوز في حال ترشّحه.
غير أن فئة داخل الحزب تُفضّل ترشيح إمام أوغلو؛ بسبب الصراع الداخلي على القيادة، وتسعى لتقديمه على غيره.
وعليه، فإن كانت الحكومة تعوّل على هذه التحقيقات لقطع الطريق أمام المعارضة، فهي مخطئة. فالسياسي لا يُهزم إلا في صناديق الاقتراع، لا في أروقة المحاكم.
ردّت المعارضة سريعًا على التحقيقات بإطلاق حملة اتصالات سياسية قوية، ونظّمت خلال أسبوع واحد تظاهرات ضخمة شارك فيها عشرات الآلاف، مستثمرةً بذلك حالة المظلومية لصالحها. وقد تمكّنت من فرض سيطرتها النفسية على المشهد السياسي، ويُعتقد أنها لو دخلت انتخابات مبكرة خلال عام واحد فستفوز على الأرجح.
لكنّ أمام الانتخابات ثلاث سنوات كاملة، ولا يمكن التوجّه لانتخابات مبكرة دستوريًا دون موافقة حزب العدالة والتنمية.
وهنا تبرز ثلاثة تحديات أمام المعارضة:
وهذه جميعها تحديات صعبة على المعارضة، بينما تملك أفضلية في ملف المظلومية وأخطاء السلطة.
أما نقاط القوة والضعف في صف الحكومة، فهي كالتالي:
صحيح أن الأجواء النفسية في الداخل التركي تميل حاليًا نحو المعارضة، إلا أن الموقف الدولي لا يزال يفضل حزب العدالة والتنمية وأردوغان. حتى الولايات المتحدة وأوروبا لم تصدر عنهما انتقادات جادة بخصوص التحقيقات الجارية، مما يدل على أن التوازن الخارجي ما زال يميل لصالح الحكومة.
وإذا ما نظرنا إلى أن الانتخابات الرئاسية المقبلة لن تُجرى قبل عام 2028، فإن الوقت لا يزال طويلًا، وكفيلًا بقلب الطاولة على جميع الأطراف.
ومن المؤكد أن المعارضة والسلطة ستبذلان أقصى جهودهما للحفاظ على موقعيهما خلال هذه المدة. غير أن التحولات الدولية أثبتت قدرتها على التأثير العميق، وهو ما يجعل من حظوظ المعارضة أقل، بالنظر إلى قلة خبرتها وصعوبة إقناعها للجمهور.
وفي المقابل، لا بدّ من التنويه إلى أن الحكومة نفسها باتت بحاجة إلى انطلاقة جديدة وهجوم سياسي متجدّد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.