جدد وزير الداخلية الفرنسي، برونو روتايو، تهديده بالتنصل من اتفاق أبرمته بلاده مع الجزائر في عام 1968، يخص هجرة الجزائريين وإقامتهم في فرنسا.
وجاء تصريح روتايو بعد اتهام باريس لمواطن فرنسي جزائري بتقديم معلومات سرية عن معارضين جزائريين مقيمين في فرنسا للمخابرات الجزائرية.
وفي نهاية فبراير/شباط، هدد رئيس الحكومة، فرانسوا بايرو، بطلب إلغاء الاتفاق إذا لم توافق الجزائر على استقبال مواطنيها الموجودين في فرنسا بطريقة غير قانونية، في مهلة مدتها ستة أسابيع.
ويتفق مع روتايو وبايرو، عدد من المسؤولين في تيار اليمين واليمين المتطرف، من بينهم مارين لوبان وإيريك سيوتي، ورؤساء الحكومة السابقون، إدوار فيليب، وغابريال أتال، ومانويل فالس، وأليزابيت بورن.
وحجتهم في ذلك أن اتفاق 1968 يمنح للجزائريين، دون غيرهم، "امتيازات في الهجرة إلى فرنسا والإقامة فيها"، ويساهم في تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين، بطريقة غير قانونية، "تهدد النسيج الاجتماعي والأمن القومي في البلاد".
أما اليساريون فيرون أن الهوس بالهجرة والجزائر مرده إلى عدم وجود أغلبية حول الرئيس، إيمانويل ماكرون، وهو ما دفع بالأحزاب الداعمة له إلى "تبني شعارات اليمين المتطرف وعلى رأسها ملف الهجرة لكسب الأصوات في الانتخابات".
فما هو هذا الاتفاق، وهل فيه امتيازات للجزائريين؟
وقعت الجزائر وفرنسا الاتفاق يوم 27 ديسمبر/كانون الأول 1968، وهو وثيقة من 8 صفحات تحدد تدابير وشروط دخول الجزائريين التراب الفرنسي والإقامة فيه. وهو اتفاق تم في إطار إعلان مبادئ اتفاقيات إيفيان، التي أنهت الحرب بين البلدين في 1962.
ونصت اتفاقيات إيفيان على حرية تنقل الأشخاص التامة بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، أي أن الجزائريين يدخلون التراب الفرنسي، دون تأشيرة ولا جواز سفر. وكذلك يدخل الفرنسيون التراب الجزائري، بلا أي قيود.
كان تنقل الأشخاص بحرية تامة، بين الجزائر وفرنسا، تصورا فريدا من نوعه في 1962، ولكن المفاوض الفرنسي، تبناه في اتفاقيات إيفيان حرصا على مصلحة مليون أوروبي كانون يعيشون في الجزائر وقتها.
وكان الفرنسيون يتوقعون أن يبقى هؤلاء الفرنسيون في الجزائر، فتسمح لهم حرية التنقل بالحفاظ على هويتهم المزدوجة وعلى ارتباطهم بفرنسا. وكان المفاوض الجزائري يراهن من جهته على ضمان حقوق أفضل للجزائريين في فرنسا.
ولكن تلك الحسابات السياسية كانت كلها خاطئة، إذ قرر 800 ألف فرنسي مغادرة الجزائر، والعودة إلى فرنسا، بمجرد التوقيع على اتفاقيات إنهاء الاحتلال، وفقدت حرية التنقل بالتالي قيمتها بالنسبة للفرنسيين.
وبعد ست سنوات، اقترحت باريس على الجزائر اتفاق 1968 للحد من حرية التنقل، التي نصت عليها اتفاقيات إيفيان، وليس لتسهيل هجرة الجزائريين إلى فرنسا. فقد قلص الاتفاق عدد المهاجرين الجزائريين غير المحدد أصلا إلى 35 ألفا في السنة.
عندما وقعت باريس اتفاق 1968 مع الجزائر، كانت فرنسا تعيش "ثلاثين المجد"، وهي فترة ثلاثين سنة من 1945 إلى 1975 عرفت فيها البلاد نموا اقتصاديا قويا. وكانت بحاجة ماسة إلى اليد العاملة لتشغيل مصانعها المزدهرة وإنجاز مشاريعها الضخمة.
ووجدت في المهاجرين الجزائريين حلا لسد العجز الكبير في شغل الوظائف اليدوية والمضنية، التي ينبذها الفرنسيون والأوروبيون عموماً، كما أن العمال المهاجرين أجورهم زهيدة ومطالبهم أقل من مطالب العمال الفرنسيين.
وفي يوليو/تموز 1974 قررت فرنسا بقيادة حكومة، جاك شيراك، تعليق استقبال العمال المهاجرين، وإعطاء الأولوية للفرنسيين في سوق العمل، بسبب ارتفاع معدلات البطالة، وتراجع النمو الاقتصادي، بنهاية "ثلاثين المجد".
وعلى الرغم من إغلاق السلطات الفرنسية لباب الهجرة أمام العمال فإن الجزائريين احتفظوا ببعض "الامتيازات"، التي منحها لهم اتفاق 1968، بسبب طبيعته الخاصة، مثل:
- إذا تقدم الجزائري بمشروع تجاري أو حرفي في فرنسا، لا يلزمه القانون بإثبات جدوى المشروع كشرط للحصول على الإقامة، مثلما يلزم غيره من المهاجرين.
- يحصل الجزائري المتزوج من فرنسية، أو الجزائرية المتزوجة من فرنسي، على الإقامة لمدة 10 سنوات، بعد سنة واحدة من الزواج، أما غير الجزائري فيشترط عليه القانون أن يكون دخل التراب الفرنسي بطريقة قانونية، وبتأشيرة طويلة الأمد.
- يحق للجزائري إذا أنجب طفلا فرنسيا، أو الجزائرية إذا أنجبت طفلا فرنسا، أن يحصل على الإقامة لمدة 10 سنوات، بعد سنة واحدة من حصوله على أول إقامة، ويمكنه أن يطلب الإقامة إذا كانت وضعيته في فرنسا غير قانونية.
- يحصل الجزائري المستفيد من تدابير لم الشمل العائلي على الإقامة لمدة 10 سنوات بمجرد دخوله التراب الفرنسي.
ويختلف تعامل السلطات الفرنسية مع المهاجرين الجزائريين عن غيرهم، لأنهم محكومون باتفاق 1968 وليس بقانون الهجرة الفرنسي العام، الذي يسري على جميع المهاجرين الأجانب.
والسبب في ذلك هو أن اتفاق 1968 يدخل ضمن الاتفاقيات الدولية، وليس قانونا محليا. وأحكام الاتفاقات الدولية أعلى درجة في التشريع من أحكام القوانين المحلية، وبالتالي تتقدم عليها في التنفيذ.
ولكن باريس أجرت ثلاث تعديلات على اتفاق 1968 لجعله أكثر انسجاما مع قوانينها العامة، وجرى التعديل الأول في 1985، والثاني في 1994، ثم جاء التعديل الثالث في 2001، ليفرغ الاتفاق من محتواه الأصلي.
وقبلها كانت السلطات الفرنسية قد فرضت، يوم 13 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1986، تأشيرة لدخول أراضيها على جميع المواطنين، من دول المغرب العربي، بمن فيهم الجزائريين.
ومع مر السنين، فقد المهاجرون الجزائريون في فرنسا الكثير من "الامتيازات" التي كان اتفاق 1968 يمنحها لهم. وحرموا في المقابل من الاستفادة من التدابير الجديدة التي أدرجت في قانون الهجرة العام منذ 2004، ومنها:
- الطالب الجزائري في فرنسا لا يحق له العمل بأجر إلا بترخيص، خلافا للطالب الأجنبي غير الجزائري، الذي يحق له العمل تلقائيا، بما مقداره 60 في المئة من الساعات المسموح بها.
- إذا حصل الطالب الجزائري على ترخيص بالعمل فإن الساعات المسموح بها له تكون أقل من ساعات غيره من الطلاب الأجانب.
- الطالب الجزائري ملزم بتجديد إقامته سنويا، ولا يستفيد من وثيقة إقامة لعدة سنوات مثلما يستفيد منها غيره من الطلاب الأجانب.
- المهاجر الجزائري الموجود في فرنسا بصفة غير قانونية لا يمكنه طلب تسوية وضعيته بناء على مهنة ثابتة يمارسها، مثلما هو متاح لغيره من المهاجرين.
- المهاجر الجزائري الموجود في فرنسا بصفة غير قانونية لا يحق الاستفادة من تسوية وضعيته لأسباب إنسانية، كما هو متاح لغيره من المهاجرين.
- المهاجر الجزائري بطريقة غير قانونية عليه أن يثبت وجوده في فرنسا لمدة 15 سنة دون انقطاع ليحق له طلب تسوية وضعيته، أما غير الجزائري فتكفيه 10 سنوات.
فإذا كانت الأجيال السابقة من المهاجرين الجزائريين في فرنسا استفادت من معاملات "تفضيلية" نص عليها اتفاق 1968، فإن الأجيال الجديدة، خاصة الطلاب، يواجهون عراقيل تحرمهم من الامتيازات المتاحة لغيرهم من الأجانب.
ولا دليل في الواقع عل أن اتفاق 1968 بنصوصه "التفضيلية" ساهم بشكل أساسي في تدفق أعداد هائلة من المهاجرين الجزائريين على فرنسا مقارنة بغيرهم، إذ أن الإحصائيات المستقلة تدحض هذا الادعاء.
فقد أشارت مؤسسة الإحصاء الألمانية ستاتيستا إلى أن عدد المهاجرين المغاربة على سبيل المثال، وهم لا يستفيدون من اتفاق 1968، بلغ 800 ألف شخص في 2022، وهو رقم قريب من عدد المهاجرين الجزائريين الذي وصل إلى 853 ألف شخص.
وهدد وزير الداخلية الفرنسي روتايو بالاستقالة إذا لم تتخذ حكومته إجراءات تدريجية صارمة ضد الجزائر، تنتهي بالتنصل نهائيا من اتفاق 1968. ويدعمه في ذلك رئيس الحكومة بايرو، ولكن الرئيس ماكرون يدعو إلى "الحوار" مع الطرف الجزائري.
أما الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، فقال لصحيفة لوفيغارو الفرنسية: إن "اتفاق 1968، على غرار اتفاقيات إيفيان، تم بعد مفاوضات وينبغي احترامه، فهناك خصوصية جزائرية حتى مقارنة بالدول المغاربية الأخرى".
ومن الناحية القانونية، لا يمكن لفرنسا ولا للجزائر أن تتنصل من اتفاق 1968 لأن نصوصه لم تتضمن آلية أو إجراءات لإنهاء العمل به، والطريقة الوحيدة المتاحة للطرفين هي موافقتهما على إلغائه أو تعديله كما تم من قبل.
ولكن هناك حالات استثنائية يرفعها الطرف الفرنسي بهدف التنصل من الاتفاق، من بينها أن ظروف توقيعه تغيرت بشكل كامل، فلم يعد يؤدي وظيفته، أو أن الطرف الآخر أخل ببنوده والتزاماته، وهي أمور يصعب إثباتها في المحاكم الدولية.