ابتُلي النظام التونسي، مثل غالبية الأنظمة العربية، بالمحاكمات السياسية منذ خمسينيات القرن المنقضي، بشكل جعل منها أهم الأحداث التاريخية التي عرفتها البلاد، قبل التنمية والديمقراطية والحريات والتقدم التكنولوجي والعلمي.
ومن يقلّب التاريخ التونسي، يجد أن المحاكمات السياسية هيمنت على نحو ستة عقود من حياة الدولة التونسية، التي بدت خلال هذه الفترة الزمنية من تاريخ البلاد، منذ استقلالها تحديدًا، كما لو أنها مستنفرة ضد فئات وشرائح وحركات وأحزاب وشخصيات ونقابات.
إذ لا تكاد تمر عشرية منذ الخمسينيات إلى الآن، حتى نجد طرفًا سياسيًا أو نقابيًا أو بعض الشخصيات البارزة أو إعلاميين، استهدفهم نظام الحكم لنفس الأسباب تقريبًا.
وبدلًا من أن تكون الحرب التي يستنفر نظام الحكم من أجلها، ويحشّد التونسيين بسببها، ضد الجهل والفقر والفساد والانفراد بالرأي، ومن أجل بناء مؤسسات ديمقراطية، وحوكمة رشيدة، وفسح المجال أمام بناء تنموي يستفيد من خصوصية البلاد وثرواتها الكبيرة في كل المجالات، والتأسيس لمجتمع حرّ وديناميكي، وتدشين سيادة حقيقية؛ سياسية واقتصادية وأمنية، عاشت تونس، على امتداد سبعين عامًا تقريبًا (حصلت البلاد على استقلالها عام 1956)، حربًا ضد أبنائها ومواطنيها وشخصياتها البارزة، من داخل الحكم ومن خارجه، على خلفية وجهات نظرهم ومواقفهم، التي كانت على تباين أو تناقض مع نظام الحكم، وطامحة إلى أن تدشّن البلاد في كل مرة، مرحلة جديدة، تليق بالنخب التونسية، وبالمجتمع الذي ساهم برجاله ونسائه في نيل الاستقلال، وتحرير البلاد من ربقة الاستعمار الفرنسي.
كانت أولى المحاكمات السياسية، تلك التي طالت ما يُعرف بـ"اليوسفيين"، وهم أتباع صالح بن يوسف، الأمين العام للحزب الحر الدستوري الجديد، الذي عارض ما يسمى بـ"اتفاقيات الاستقلال الداخلي"، التي وقعها الحبيب بورقيبة في الثالث من يونيو/ حزيران 1955 مع فرنسا، والتي اعتبرها بن يوسف أقل بكثير من استحقاق التونسيين، مناديًا بضرورة المقاومة من أجل "الاستقلال التام"، والالتحام مع الثورة الجزائرية، على أساس أن هذه الاتفاقيات ليست سوى منّة فرنسية للإبقاء على هيمنة باريس على تونس.
استطاع بورقيبة أن يقلب الطاولة على بن يوسف في مؤتمر صفاقس في نوفمبر/ تشرين الثاني 1955، من خلال إقناع طيف من الحزب بما أطلق عليه "سياسة المراحل" للحصول على الاستقلال التام، وهو ما تمّ بداية من 29 فبراير/ شباط 1956، عندما افتُتحت في باريس مفاوضات مع الجانب التونسي، أفضت في 20 مارس/ آذار من نفس العام إلى إعلان الاستقلال الكامل لتونس.
حاول بن يوسف، الذي وقع طرده من الحزب، تنظيم مؤيديه، إلا أنه أُجبر على المنفى بعد أن لُوحق أنصاره من طرف وزارة الداخلية والبورقيبيين، واستقر في مصر، قبل أن يسافر إلى ألمانيا، التي اغتيل فيها عام 1961، وسط اتهامات لوزارة الداخلية التونسية بأنها كانت وراء تدبير عملية الاغتيال للتخلص من أهم خصم لبورقيبة على الحكم في تونس.
قبل أن يُحال أنصاره على محاكمات سياسية صدرت فيها أحكام بالإعدام، وتعرضوا إلى مجزرة رهيبة فيما يُعرف بـ"ضباط الظلام" بقلب العاصمة التونسية، لإنهائهم سياسيًا ووجوديًا بشكل مبكر، بعد اتهامهم بمحاولة اغتيال بورقيبة.
كانت تلك أولى حلقات الصراع على الحكم في تونس، وأولى المحاكمات السياسية التي يصفها المؤرخون بـ"الدموية" في حق اليوسفيين، لأنها هدفت إلى تصفيتهم بشكل كامل.
لم يكد نظام بورقيبة الفتيّ يتخلص من صالح بن يوسف وأنصاره، حتى تم الإعلان عن "محاولة انقلابية" عام 1962، قيل إن مجموعة من العسكريين والمدنيين تورطوا فيها، وتم تبعًا لذلك تقديمهم للقضاء العسكري، وحُكم على أغلبهم بالإعدام.
وأدت هذه المحاولة المزعومة الفاشلة إلى حظر الحزب الشيوعي التونسي، وحلّ ما تبقى من الحزب الدستوري القديم، وأصبحت المعارضة وخصوم الرئيس بورقيبة تقتصر في الستينيات على بعض الشخصيات في الخارج، وبعض التنظيمات اليسارية والقومية الصغيرة والمحدودة.
من هذه اللحظة، سيستبدّ النظام بالحكم، وسيعتبر كل صوت معارض أو ناقد، أو يحمل مشروعًا متمايزًا عن "الزعيم"، عدوًا تجب محاربته والقضاء عليه.
وتزامن ذلك مع مغادرة المعمّرين الفرنسيين، وخروج رؤوس الأموال من البلاد، وضعف الاستثمار الخاص، بما جعل البلاد مفتوحة على تدهور اقتصادي لافت، أجبر بورقيبة على انتهاج توجه تنموي جديد، يقوم على الاشتراكية، معلنًا تغيير اسم الحزب الحاكم ليصبح "الحزب الاشتراكي الدستوري".
عُهدت مهمة تنفيذ البرنامج الاشتراكي لليساري أحمد بن صالح، الذي أُسندت له ما لا يقل عن ست حقائب وزارية دفعة واحدة، سعى من خلالها بكل جدية إلى "تطبيق نظام تعاضدي".
لكن "تجربة التعاضد" فشلت، ما أدى إلى تدهور المستوى المعيشي، وغضب المالكين للأراضي والمصانع الحديثة، فضعفت الحكومة، وأُجبر بورقيبة على تغيير تركيبتها، من خلال إحداث "وزارة أولى" (رئاسة حكومة) عام 1969، وانتهت في المحصلة إلى تعيين رجل الاقتصاد، الهادي نويرة، على رأسها.
لكن هذه التجربة لم تنتهِ إلا بحبس أحمد بن صالح، الذي حُكم عليه بالسجن بتهمة الفساد، وكانت تلك أول شخصية من داخل الحكم تُسجن، رغم أنه لم يكن معارضًا لبورقيبة، لكن الأخير حرص على أن يعلّق شماعة فشل الخيار الاشتراكي برمته عليه.
في هذه الأثناء، شعرت أطراف من داخل الحزب الحاكم الذي كان يتزعمه بورقيبة، أن النظام السياسي بدأ ينزاح باتجاه تغوّل رئيس الجمهورية و"ماكينة" الحزب، فتكتلت حول وزير الدفاع أحمد المستيري، مجموعة من كوادر الحزب، التي طالبت "بتحرير النظام السياسي"، واستطاعت كسب الأغلبية أثناء مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري.
غير أن بورقيبة رفض نتائجه جملة وتفصيلًا، ونظّم مؤتمرًا ثانيًا عام 1974، تقرر في أعقابه طرد عدد من هذه المجموعة، فيما اختار بعضهم الاستقالة، ومن ثم تأسيس ما يُعرف بـ"حركة الديمقراطيين الاشتراكيين"، التي رفعت لواء الديمقراطية في لوائحها وأدوات عملها.
لم يكن بورقيبة يدرك أن المجتمع يتحرك بداخله، كنتيجة لسياساته الليبرالية المتوحشة، التي بدأت في سحق شرائح وفئات اجتماعية عديدة، وكان من الإرهاصات الأولى لهذا الحراك المجتمعي، ما يُعرف بـ"حركة فيفري المجيدة"، التي تزعمها طلاب يساريون، نظموا مؤتمرًا في فبراير/ شباط 1972، وقرروا الوقوف ضد السياسات الاجتماعية المجحفة، وضد قمع الحريات، مستفيدين من تصاعد النزعات التحررية في عالم يطوي عهود الاستعمار.
تجمع يوم الثاني من فبراير / شباط في كلية الحقوق في العاصمة، نحو أربعة آلاف طالب، رفعوا شعارات مطالبة بالحريات، و"دمقرطة" الحياة السياسية والطلابية، لكن نظام الحكم أغلق الكليات والجامعات لثلاثة أشهر، في محاولة لمنع تمددها إلى الشارع، خشية تحولها إلى انتفاضة شبابية ومجتمعية.
غير أن هذا القرار أدى إلى خروج الطلبة من الكليات، وانتقلت الصدامات بذلك إلى الشوارع، ما أدى إلى مواجهات دامية، انتهت بإيقاف أكثر من ألف وخمسمائة موقوف، ولم ينجُ غالبية الطلاب من المحاكمات التعسفية، بسبب نشاطهم السياسي والنقابي.
وفيما تكفّلت أجهزة القمع بممارسة كافة أشكال المداهمات والملاحقات والتعذيب والاعتقالات، كانت محكمة أمن الدولة جاهزة لتلفيق التهم وإصدار الأحكام على مئات الطلبة، وتراوحت بين الطرد من الجامعة، والسجن، والتجنيد القسري في معتقلات جنوب البلاد ("رجيم معتوق" و"قرعة بوفليجة").
وهكذا دفع الطلبة، بعد اليوسفيين، ثمن "تحرير النظام السياسي"، لكنّ الأمر لن يتوقف عند الطلبة، بل سيشمل في العام 1968، محاكمة قرابة مائتي منخرط في حركة "برسبكتيف" (تجمّع الدراسات والعمل الاشتراكي – آفاق / Perspectives)، ذات المنحى اليساري، ووجهت لهم تهم "التآمر على أمن الدولة" و"نشر الأخبار الزائفة" و"الانتماء إلى جمعية غير مرخص فيها"، وهي ذات التهم التي ستطبع جميع المحاكمات السياسية التي ستعرفها البلاد منذ ذلك الوقت إلى حدّ الآن.
تُهم ملفقة و"مفبركة"، كان الهدف منها دائمًا، إخماد كل نفس سياسي مغاير ومعارض للسلطة ولنظام الحكم في تونس.
في هذه اللحظة التاريخية، سيبدأ مسار جديد في تونس، سيتميّز بثلاث ملاحظات أساسية:
ربما لم يبالغ بعض المؤرخين عندما وصفوا عشرية الثمانينيات من القرن الماضي، بكونها السنوات الأكثر تعقيدًا ومخاضًا في تونس، وربما الفترة الأخطر، التي زلزلت الأرض تحت أقدام الحاكمين في تلك الفترة، بقيادة بورقيبة، بعد أن دخل مرحلة الشيخوخة، ودشّن نظامه مرحلة الصراعات بين مكوناته، خصوصًا داخل القصر، وفي مستوى المؤسسة الأمنية.
بدأت العشرية على وقائع تسرب "كوماندوز"، إلى مدينة قفصة (جنوب العاصمة التونسية)، في 26 و27 يناير/ كانون الثاني 1980، يتألف من نحو 49 مسلحًا تونسيًا، قدموا من التراب الليبي، وعملوا على مهاجمة مراكز الشرطة والحرس وثكنتين عسكريتين بالمدينة، وكان جميع منفذي العملية تونسيين، كانوا يتلقون الدعم من العقيد الليبي معمر القذافي، وفق ما كشفته التحقيقات المنشورة.
كانت حصيلة هذه المحاولة سقوط عشرات القتلى والجرحى في صفوف الأمن التونسي، فيما تم اعتقال 42 من أفراد المجموعة المسلحة المنفّذة للعملية، التي أُحيل عناصرها على محكمة أمن الدولة، التي أصدرت في حقّ 11 منهم أحكامًا بالإعدام، تمّ تنفيذها يوم 17 أبريل/ نيسان 1980 ودفنوا بشكل جماعي.
ورغم فشل هذه المحاولة في الإطاحة بنظام الحكم، فإنها كانت بمثابة "الزلزال" الذي هزّ أركانه، ودفعه إلى مراجعة الكثير من خياراته السياسية والهيكلية بالأساس. كان أهمها، المجيء بالأستاذ محمّد مزالي وزيرًا أول بديلًا عن الهادي نويرة، وتزامن ذلك مع الإعلان في 6 يونيو/ حزيران 1981، عن إنشاء "حركة الاتجاه الإسلامي"، التي رفضت سلطات بورقيبة منحها التأشيرة القانونية للعمل الحزبي العلني، بعد سنوات من السرية. بل قابلت المطلب، بقرار اعتقال 107 من قيادات الحركة في 18 يوليو/ تموز 1981، وتقديمهم للمحاكمة في شهر سبتمبر/ أيلول، بتهم: "الانتماء إلى جمعية غير مرخص لها"، و"النيل من كرامة رئيس الجمهورية"، و"نشر أنباء كاذبة"، و"توزيع منشورات معادية للنظام"، وصدرت بشأنهم أحكام تراوحت بين عام و11 عامًا كاملة.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحدّ من المحاكمات، بل أُحيل الإسلاميون على محاكمات ماراثونية، بين 1981 و1984، بلغت نحو 25 محاكمة لقيادات "الاتجاه الإسلامي"، على مستوى كامل الجمهورية، تدور كلها حول نفس التهم تقريبًا.
أدّى الوضع الاجتماعي المتدهور، إلى اندلاع اضطرابات اجتاحت العاصمة في يناير/ كانون الثاني 1984 بعد مضاعفة الحكومة سعر الخبز، فيما عرف بـ"انتفاضة الخبز"، تزامنًا مع بروز أزمة جديدة بين حكومة مزالي، والاتحاد العام التونسي للشغل، على إثر طرد القذافي آلاف التونسيين من ليبيا. وتمخضت الأزمة عن اعتقال نقابيين، بتهمة تأجيج الأوضاع الاجتماعية.
في عام 1986 بلغت الأزمة الاقتصادية أَوجها، واعتبر محمد مزالي، الوزير الأول، مسؤولًا عنها، واضطر الرجل إلى الهروب من تونس عبر الحدود مع الجزائر، قبل أن يتم توريطه في جملة من التهم، التي ظلت تراوده لسنوات طويلة، بينما كان يقيم بباريس.
في مارس/ آذار 1987، أُلقي القبض على حوالي 8000 من أعضاء حركة الاتجاه الإسلامي، الذين اتُّهموا بالتورط في التفجيرات التي استهدفت أربعة فنادق في سوسة والمنستير، والتي خلفت 13 جريحًا، بينما تعتبر الحركة أن هذه الاتهامات "مفبركة"، وبدأت سلسلة محاكمات جديدة لأعضاء الاتجاه الإسلامي في 27 أغسطس/ آب 1987، وأُحيل 90 شخصًا من بين الآلاف المعتقلين إلى محكمة أمن الدولة، بينهم زعيم الحركة راشد الغنوشي، الذي حُكم عليه بالأشغال الشاقة مدى الحياة.
ولئن قام الرئيس الشاب الجديد، زين العابدين بن علي، الذي أجرى انقلابًا على الرئيس بورقيبة، استنادًا إلى عدم قدرته الصحية على الاضطلاع بأعباء الحكم، بإطلاق سراح المعتقلين من الإسلاميين والنقابيين فور صعوده للحكم في نوفمبر/ تشرين الثاني 1987، فإنّ الصراع مع الإسلاميين، ومن ثمّ استخدام المحاكمات السياسية، سيتواصل خلال كامل فترة حكمه التي امتدت لثلاثة وعشرين عامًا (1987 ــ 2011).
اعتبر بن علي أنّ الإسلاميين يمثلون "الشجرة التي تخفي الغابة"، كما يقال، أي إنّ القضاء عليهم سيضعف المشهد السياسي، وسيمكنه من أدوات السيطرة عليه، وبالتالي المكوث في الحكم لفترة طويلة. لذلك قبل بمشاركة "حركة النهضة" (بعد أن غيّرت اسمها من "الاتجاه الإسلامي") في الانتخابات التشريعية لسنة 1989، تحت لوائح مستقلة، بعد أن رفض منحها تأشيرة الحزب القانوني.
كانت تلك المشاركة في الانتخابات بمثابة "الكشاف" لبن علي، الذي تمكن من معرفة حجم الإسلاميين والمتعاطفين معهم، ورتب تبعًا لذلك سيناريو مسحهم نهائيًا من المشهد السياسي، عبر محاكمة سياسية بداية التسعينيات، شهدت الزج بحوالي 45 ألف معتقل من الإسلاميين، مروا، كما قال أحد المحامين في وصف كاريكاتيري، كما لو أنهم في "حصة إحصاء"، من دون الإنصات إليهم، أو الدفاع عن أنفسهم أمام محاكمات، وُجهت خلالها تلك الاتهامات التي أُشير إليها في وقت سابق.
وهكذا، في بضع سنوات قليلة، تمكن بن علي من إنهاء أهم خصم سياسي جدي له، ليظل في الحكم دون أي إزعاج طيلة 23 عامًا.
ولم يغادر الإسلاميون السجن، إلا في نهاية حكمه، وبعد معاناة شديدة، جعلت الحقوقيين والمؤرخين والسياسيين يصفون مرحلة العشرين عامًا من حكم بن علي (1990 ــ 2010) بـ"سنوات الجمر".
على أن البلاد لم تعرف توقفًا لشلال المحاكمات السياسية، إلا منذ ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011، حيث تعطّلت بشكل تام "ماكينة رحْي المعارضين".
وعلى الرغم من كل الانتقادات وشدة المعارضات لمن حكموا تونس منذ 2011 إلى العام 2021، فإنّ أيًا منهم لم يتعرض للمساءلة القضائية، وبالتالي للمحاكمة السياسية، رغم أنّ ما قيل في الحاكمين، كان شديدًا وقاسيًا، وفي بعض الأحيان، ضد كل معايير النقد السياسي واحترام الحريات.
كانت تلك العشرية الوحيدة، عشرية "الانتقال الديمقراطي"، كما يسميها عديد المراقبين، الخالية من أي محاكمة سياسية.
لكن، مع إطلالة منتصف العام 2021، استؤنفت المحاكمات السياسية في تونس بشكل تجاوز كل نماذج المحاكمات التي أُشير إليها في الفقرات السابقة.
فقد قام الرئيس الحالي، قيس سعيّد، بانقلاب في 25 يوليو/ تموز 2021، أغلق بموجبه البرلمان، وعطّل دستور 2014، وألغى النظام السياسي (البرلماني المعدّل)، وكتب دستور البلاد بنفسه، وأجرى انتخابات تشريعية بنسبة تصويت هي الأقل منذ الثورة، وصعد لرئاسة البلاد بعد أن منع منافسيه من الترشح، سواء بإلغاء ترشحاتهم بشكل غير قانوني، أو بالزج بأحدهم في السجن، قبل أن يضع عددًا بارزًا من معارضيه في السجن، من خلال محاكمات سياسية، يقول المحامون والهيئات الحقوقية في الداخل والخارج، إنها تفتقر لأدنى معايير المحاكمة العادلة، فضلًا عن خروقات جسيمة، لعل آخرها إجراء محاكمة "عن بعد"، أي بعدم حضور المتهمين، فقط بصورة لهم على الإنترنت، وهم في غرفة من داخل السجن، في بدعة قضائية، كما يصفها المحامون، لم تعرفها تونس في تاريخها.
وُجّهت لهؤلاء القيادات السياسية والحقوقية ورجال الأعمال والإعلاميين، تهم "التآمر على أمن الدولة الداخلي" و"بثّ الفوضى" و"المساس بشخص رئيس الجمهورية" و"تحريض المواطنين على التقاتل فيما بينهم" و"التخابر مع جهات أجنبية"، وغيرها من تلك السردية من الاتهامات التي اعتاد نظام الحكم خلال حقبتي بورقيبة وبن علي على استخدامها لمحاكمة معارضيه.
وها هو النظام الراهن يعود إليها بملفات تؤكد هيئة الدفاع عن المتهمين، ومن بينهم الأستاذ أحمد صواب، أنها "ملفات فارغة لا أساسَ قانونيًا لها، ولا تتضمن أي إدانة، خصوصًا وأنّ تهمة التآمر تقتضي أفعالًا وممارسات وتحالفات داخلية وخارجية"، وفق تقديره.
لكن العودة إلى هذه المحاكمات ذات الصبغة السياسية، تشير إلى جملة من الملاحظات، أهمها:
ويجمع فقهاء السياسة، بأنّ المحاكمات السّياسيّة، تعدّ سمة الأنظمة الشموليّة، وهي تنتشر بالخصوص، في البلدان التي لا يتمتّع فيها القضاء بقدرٍ معتبرٍ من الاستقلالية، ويخضع لهيمنة السّلطة التّنفيذية.
وهي المحاكمات التي تنبني على أخذ النّاس بالشبهة، واقتيادهم إلى أروقة المحاكم وغياهب السّجون، بسبب آرائهم السّياسيّة وخلفياتهم الأيديولوجيّة، ونقدهم أنظمة الحكم في بلدانهم..
ومن المفارقات الغريبة في هذا السياق، أنّ كل المحاكمات السياسية، التي عرفتها تونس، وقسم واسع من دول العالم العربي، في مصر وسوريا والمغرب والجزائر والأردن ولبنان والسودان، وغيرها، كانت ترفع شعار "البناء الديمقراطي"، أو الحرص على "تحصين الديمقراطية"، وذلك ضمن مغالطة ومخاتلة سمجة، لأنّ أول الدروس التي يتلقاها طلبة الحقوق في سنتهم الأولى، هي "أن لا حكمَ ديمقراطيًا، دون آليات ومعايير وشروط ديمقراطية"، أدناها، قضاء مستقلّ، وحريات مضمونة، وتعددية سياسية واضحة، وإعلام ديناميكي، وقوانين متطورة، تنير سبيل المحكومين، قبل أن تفكّر في "حجب الشمس" عنهم، كما يقول المثل الصيني..
لن تُطوى حقبة المحاكمات السياسية في تونس، إلا بعد المراجعة الجذرية للقوانين والتشريعات، التي أسست لمنظومة المحاكمات هذه، وجعلت التاريخ التونسي، بمثابة "العسل المرّ"، الذي قضى على أجيال، ومنع البلاد من التقدم نحو الديمقراطية، وفوّت عليها فرص النهوض الاجتماعي والاقتصادي..
والوقت قد حان، لكي تدشّن البلاد مسارًا جديدًا ينحو هذا الاتجاه، الذي هو لغة العصر وسياقه وبوصلته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.